أهمية علم الاحافير في دراسة علم الانثروبولوجيا
عامر ناجي حسين
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
عامر ناجي حسين

يتناول هذا البحث "أهمية علم الاحافير في دراسة علم الانثروبولوجيا"، موضوعاً حيوياً، يكاد يكون ذا الأثر الأكبر في صيرورة الانثروبولوجيا علماً شاخصاً؛ فلولا الاحفورات، لضاعت مسيرة طويلة من تاريخ الانسان، مسيرة تمثل بكل تأكيد الزمن الذي استغرقته الحياة، حتى تشكل ذلك المخلوق المتفرد في سلسلة الكينونة الحيوانية، الا وهو الإنسان؛ فالأحفورات اتاحت حتماً للعلماء في شتى التخصصات الآثارية، والتاريخية، والطبية، والاجتماعية، والنفسية، وحتى الباحثون في تاريخ الاكتشافات الصناعية، والزراعية فرصة الوقوف على طبيعة التطورات التي رافقت تشكل الإنسان قبل ان يحل علم الانثروبولوجيا على عالم العلوم الانسانية بإطلالته، علماً متفرساً متبحراً في طريق الكشف عن ماهية الإنسان، منشأه الأول، تطوره في إطار المملكة الحيوانية، انفصاله عن المملكة الحيوانية، صيرورته إنساناً، تطوره في إطار الزمان والمكان، سبر كنه طبيعته البايولوجية، سبر كنه الثقافة التي شكلها لينغمس فيها شاقاً طريقه الذي اختطته له قدرته على حفظ التجربة، والسيرورة بها نحو أفق أرحب ما صرنا نعنيه التطور.
الأحفورة ذلك الوعاء الذي حفظ العظام، ليكون دليلنا إلى فهم أنفسنا نحن البشر، لعله لا يكاد أمر كتابة تاريخ البشرية ذي مصداقية بلا أثر لعظم إنسان هنا، وجزء من قحفة جمجمة هناك فلولاها لما تمكنا من ان نعي ان طبيعة التطور لا تقف عند حدين يدعيان بالزمان والمكان دونما وجود لأجزاء من جسم هذا الكائن الذي اختطت له الحياة طريقاً أبتعد فيه عن سائر المملكتين الحيوانية والنباتية، ليكون من ثم المؤثر الأول فيهما من بعد المؤثرات الطبيعية، بل سار ولا يزال ليؤثر في هذه الطبيعة أيجاباً بنسبة عالية, وسلباً ولعله دون ان يقصد بنسبة أقل.
المبحث الأول: مفهوم علم الأحافير
لقد عقد علماء الجيولوجيا والانثروبولوجيا الفيزيقية وعلماء الاثار ما قبل التاريخ عقدوا جميعهم اهمية كبرى على دراسة الحفريات ولكننا نتساءل ما هي تلك الحفريات, ولماذا نسمي الانسان القديم أو المنقرض بالإنسان الحفري, ان الحفرية هي تعايا عضوية سقطت في مستنقع أو غاصت في رمال متحركة أو غرقت في نهر أو استقرت في كهف أو رسبت في ماءٍ راكدٍ أو دفنت في طبقةٍ جليدية, بمعنى ان كلمة حفريات في الواقع أنما تعني بقايا النباتات المتحجرة والحيوانات المنقرضة التي كانت توجد وتعيش قبل العهد الحالي والتي حفظت في الصخور ووصلت إلينا سواء اكانت هذه الحيوانات او النباتات باقية حتى العصر الحالي, أم انقرضت في عصور سحيقة مثل الديناصور والماموث(1 ), لفظة احفور fossile جاءت من الكلمة اللاتينية fodere وهي لفظة تطلق على كل ما يتم العثور عليه من اشياء عند حفر الارض بما في ذلك جميع المعادن والتشكلات والترسبات وغيرها من الاجسام غير العضوية( 2).
لقد توصل العلماء إلى تكوين فكرة لا بأس بها عن العمر النسبي للأحافير بمعنى ان الأحفور (أ) أقدم من الأحفور (ب) وأصغر إلى حد بعيد من الأحفور (ج), وبإمكاننا ان نبين العمر النسبي للصخور في شتى انحاء العالم بمقارنة ما تحمله من احافير(3 ).
وهناك بعض الحيوانات الحالية والقائمة ما زالت حية حتى الآن على الرغم من انها حيوانات حفرية قديمة وعلى سبيل المثال لا الحصر يعتبر ليمور الهند الشرقية من الحيوانات الحفرية الحية حيث عثر العلماء على الكثير من هذه الليمورات في الحفريات القديمة, وفي كل الحفريات تتحول هياكل الحيوانات وعظامها إلى مادة صلبة حيث تتحجر بفضل وجود المعادن في التربة, وبعد زوال الجوانب الرخوة والمواد غير العضوية, ومن خصائص هذه الحفريات انها تبقى كما هي دون ان تتغير على مر العصور والحقب الطويلة, ولاشك ان التغير الذي يطرأ على هذه الحفريات والهياكل إنما هو تغير كيميائي وكل ما يطرأ على تلك الحفريات من ظواهر كيميائية هو انها تتحجر عن طريق التفاعل بمعادن التربة, ثم ان هذه الحفريات المتحجرة إنما تعتريها التغيرات الكيميائية فتتفحم, ثم يعتريها الانحلال ثم يطرأ عليها الفناء التام في نهاية الامر(4).
لقد برز موضوع علم الحفريات بشكل ظاهر في عمل الجيولوجي الانكليزي وليم سميث (1769-1839) كان ذلك وقت ان جرى شق الريف الانكليزي في مواقع عديدة لإنشاء قنوات, وكان سميث يتولى مسح طرق القنوات ويطوف في الريف لغرض دراستها, فأخذ يهتم بطبقات الصخور التي تنكشف بأعمال الحفر, وكانت هذه الطبقات تتمايز احياناً تمايزاً شديداً عن بعضها البعض, وتلك الطبقات تسمى باللاتينية strata ومفردها stratum وهذا هو السبب في انها تسمى بهذا الاسم ايضاً في الانكليزية(5 ).
وكان ليونارد دافنشي أول من قدم تفسيراً معقولاً للأحفورات, إذ كان يعتقد انها بقايا أشياء كانت فيما مضى كائنات حية حدث بشكل ما ان دُفنت في الطين وحلت مادة صخرية ببطء محل المادة التي كانت تتكون منها اجسامها إلى ان اصبحت في النهاية صوراً حجرية طبق الأصل من اللحم والدم الأصليين (6).
وينبغي في هذا الصدد ان نقارن بين نوعين من التاريخ الحفري تاريخ العالم الجيولوجي, وتاريخ الانسان الطبيعي؛ إذ نجد ان تاريخ العالم العام إنما يضطلع بدراسة كيفية تكوين المجموعة الشمسية, ثم كيفية تكوين الارض, ثم كيفية تطور الحياة على الارض؛ بظهور الحيوانات ومختلف اشكال الكائنات الحية, اما التاريخ الطبيعي للإنسان إنما يستند اساساً إلى دراسة كيف ومتى واين وجد أول انسان مع دراسة كيفية اكتسابه لخصائصه الجسمانية وملامحه الفيزيقية الانسانية ومشيته معتدلاً لذلك فنحن في دراستنا للتاريخ الطبيعي للإنسان انما نحاول ان نرجع ونعود الى الوراء حتى نتوصل الى اول انسان حفري, ولكن يمكننا ان نتساءل فوراً كيف يمكننا دراسة هذا الانسان الحفري, وما هي الوسائل التي عن طريقها ندرس ما يسمى بالحفريات؛ في الواقع هناك بعض الوسائل المشهورة في الدراسات الحفرية ومنها دراسة الكهوف ودراسة وديان الانهار ومصباتها(7).
في كتابه "حفريات المعرفة" يقول ميشال فوكو "إن "الأركيولوجيا" ما هي في الأكثر أو الأقل إلا إعادة الكتابة في شكلها الخارجي, إنها تغيير منظم لما كتب سابقاً, إنها ليست العودة إلى سرّ الأصل بل بالعكس إنها وصف منظم, منهجي ومنسق لما يسمى الخطاب الموضوع"(8).
والحفريات البشرية أحدى فروع الانثروبولوجيا العضوية التي تضم فرعين اساسيين, إذ ان الحفريات البشرية تعني ذلك العلم الذي يدرس الجنس البشري منذ نشأته, ومن ثمّ مراحله الأولية وتطوره, من خلال ما تدل عليه الحفريات والآثار المكتشفة أي أنه يتناول بالبحث نوعنا البشري واتجاهات تطوره ولاسيما ما كان منها متصلاً بالنواحي التي تكشفها الاحافير, ومهمة هذا النوع من الدراسة هي محاولة استعادة معرفة ما نجهله عن الإنسان البائد؛ وذلك من خلال الحفريات التي تكشف عن بقاياه وآثاره وما خلفه وراءه من أدوات ومحاولة تحليل هذه المكتشفات من أجل معرفة الاسباب التي
دعت إلى حدوث تغيرات مرحلية في شكل الانسان الذي أصبح كما هو عليه الآن(9).
يمكن اعتبار الحفرية على انها أية بقايا للكائنات الحية من الماضي البعيد, وبينما توجد طرق متعددة تتكون بها الحفريات فإن معظمها يتضمن دفن الكائن الميت, وكلما ترسبت فوقها رواسب أكثر فأكثر يزيد عمق الحفرية, ولذلك يكون من المتوقع عموماً ان نجد أقدم حفرية في أعمق طبقات سطح الأرض, في حين تعد الحفريات التي توجد بالقرب من السطح ذات أصل حديث(10).
كنا ندرك ان الاحافير هي بقايا لكائنات حية عاشت في غابر الأزمان, فهذا ليس سوى مرحلةٍ أولى تعقبها مراحل أخرى, فمن شأن هذه الاحافير ان تقول لنا أكثر من هذا متى عرفنا كيف نؤولها ونفك شفرتها, فهي قد ظلت تحكي لنا على مرَّ العصور قصصاً مختلفة ايما اختلاف, إلى ان انتهى بها الأمر إلى تلك القصة التي ترويها لنا اليوم, والتي تكتسي بُعداً جوهرياً يتيح لنا فهم مكانتنا داخل الكون إذ ان مدار الأمر فيها تطور العالم الحي, وانه لمسعى لا يخلو من جدوى ان نكتشف كيف وصلنا إلى ما نحن عليه(11).
المبحث الثاني: تطور علم الأحافير
ثمة ادباء اغريق قدامى مثل "امبيدوكليس" و"زينوفانيس" ممن كانت لديهم فكرة لا بأس بها عن كنه الحفريات مثلما كان الحال مع ليونارد دافنشي غير ان الحفريات اكتسبت اهمية مميزة بهم لأنها وصلت لجميع التداعيات الفلسفية /العلمية المتقاطعة, وعن فكرة وجود الحفريات على كوكب الارض إلى نقطة حرجة, وفي استطاعتنا أن نحدد بدقة متناهية اسم العالم الانكليزي "روبرت هوك" الذي وضع مؤلفه في عام (1665م), بانه واضع الاساس لهذا العلم, فقبلها كان من الممكن التعامل مع الحفريات باعتبارها اشياء غريبة مثيرة للفضول, ومنذ ذلك الحين صارت الحفريات بدرجات متفاوتة أساساً لثورة علمية وتهديداً لأصول ثابتة في علم اللاهوت, قبل هوك كان من الممكن الا تحظى الحفريات بأي اهتمام باعتبارها محض "غرائب الطبيعة" أو "أحجار مشكلة" وكان علينا ان نحلم بنظريات معقدة كي
تفسر لنا وجودها من زاوية "القوة التشكيلية" في التربة أو خواص البلورات(12).
ان تقبل الجمهور لمسألة الطبيعة العضوية للحفريات أي كونها بقايا كائنات حية ذات يوم حفظت داخل الصخور ثم تحولت هي نفسها إلى صخر لم يتحقق إلا مع مطلع القرن التاسع عشر, فإن علم المتحجرات المعاصر بدأ في الثلث الأخير من القرن السابع عشر مع كتابات روبرت هوك في "ميكروجرافيا" عام 1665م ومحاضرات ومقالات عن الزلازل عام 1668م, تلاها عام 1669م مؤلف "بحث تمهيدي" لـ"نيلز ستينسن"(13).
الحفريات الأثرية المنظمة من أجل هدف علمي أثري لم تبدأ قبل القرن الثامن عشر الميلادي عندما تم تنقيب موقع هيركولانوم عام 1748م, وموقع بومبي الواقعتان إلى الجنوب من نابولي, وقد عجلت نتائج هذه الحفريات بإجراء حفريات أخرى متتابعة في أماكن مختلفة(14).
قبل هوك وستينو كانت تفسيرات الطبيعة, وأسباب تكون الحفريات, الشغل الشاغل لدى الفلاسفة على اختلاف توجهاتهم, وكانت أولى العقبات في وجه الكشف عن أسرار الحفريات هي ان ايسر مكان يمكن العثور عليها به عند الجروف والجبال فإذا كانت تلك الحفريات بقايا اسماك ورخويات حقيقية فكيف وصلت إلى هناك, وقد جاءت الاجابة على يد ليوناردو دافنشي بقوله ان مستويات سطح البحار قد انخفضت وقدم ستينو تفسيراً مماثلاً, أما هوك فقد أصر على ان الجبال ارتفعت من قاع البحر بفعل الزلازل والحرارة الداخلية للأرض, والصعوبة الاخرى تكمن في ان الكائنات تحولت الى حفريات مختلفة بصورة ملحوظة عن الانواع التي تعيش الآن(15).
وسار عالم الطبيعيات الانكليزي جون راي (1627-1705) خطوة اخرى إلى الامام؛ إذ حاول وضع تصنيف للنبات والحيوان ومن نظرته إلى الحفريات من تلك الزاوية لاحظ ان الحفريات تشبه الكائنات الحية لكن الشبه ليس كاملاً إنها تبدو كما لو انها تمثل كائنات قريبة من بعض الكائنات الحية لكنها ليست مطابقة لها وأبدى في عام (1691م) الرأي ان الحفريات هي الى حد كبير بقايا نباتات وحيوانات قديمة ليست شبيهة بتلك التي تعيش في الوقت الراهن, وانها لم يعد لها وجود اليوم لأنها انقرضت(16), ومن جهته قسم هوك الحفريات المتحجرة إلى قسمين منها ما اختلط بالرواسب التي تتبلور وتنمو كيميائياً كالأحجار الكريمة والبلورات الملحية, ومنها ما يتفحم ويزداد صلابة كالبقايا المتحجرة(17).
المبحث الثالث: أهمية علم الاحافير في دراسة الانثروبولوجيا
إننا نقول بفخر "نحن نعيش في العصر الذري" ولكننا في كل نواحي تقدمنا لم نترك الحجر وراءنا, إننا نعتمد عليه أكثر مما كان يعتمد عليه سكان الكهوف, لقد كان كل ما يطلبونه من الصخر هو المأوى, وبعض السنان لحرابهم الخشبية, وبعض السكاكين والمكاشط وقطع الصوان لإشعال النار, أما نحن فنحرث التربة, ونصنع آلاف الأشياء من الطين والرمل, وآلاف الأشياء من الصخور, ونحن نستعمل الفلزات ... ما هذا الصخر البالغ الأهمية, وكيف تكونت الأنواع المختلفة منه, من أي شيء, وأين ومتى, ومنذ حين لم يكن في استطاعة حتى احكم الناس على الارض الإجابة عن أي من هذه الاسئلة, كان الناس يقولون ان الصخور قد وجدت في العالم منذ فجر الخليقة ولكن ذلك لم يكن يفسر شيئاً في الحقيقة, إلا ان الالماني "فيرنر" تمكن من معرفة تكوين الصخور, إنها متكونة من المعادن, وكل شيء ما خلا الحيوان والنبات متكون من المعادن(18), وهذا برأيي أهم درس في علم الانثروبولوجيا ان يعي الانسان طبيعة الارض التي يحيا فوقها.
قرابة نهاية العصر المعروف بـ"النيوليثيك" أو العصر الحجري الحديث بدأ يدرك الانسان طبيعة الصخور واستخلص المعادن من فلزاتها فكان امراً حيوياً إليه(19)، ولقد دلتنا الحفريات على ان الطبقات التي وجدت فيها الأنواع البسيطة, أقدم من الطبقات التي وجدت فيها الأنواع المعقدة, وهكذا وبعبارة اخرى ان هناك قانوناً ثابتاً لتعاقب الطبقات الرسوبية فالطبقات السفلى اقدم من الطبقات التي فوقها ما لم تتدخل عوامل تفسد هذا الترتيب التعاقبي وان كل طبقة رسوبية تمتاز بمجموعة خاصة من أنواع الأحياء, وأن الأحياء بدأت في الظهور من البسيط إلى المعقد(20)، وهكذا اصبحت صخور الأرض سجلاً حافلاً لتاريخ الأحياء من أبسطها إلى اشدها تعقيداً وأصبح في إمكان الجيولوجيين قراءة هذا السجل(21).
اسفرت الاحافير في اوائل الثمانينات من القرن الماضي عن اكتشافين مهمين؛ الأول كان يختص بحيوان منقرض يشبه الحمار الوحشي, والآخر يختص بجثة صينية قديمة, ادعى الباحثون في كلتا الحالتين انهم قد اكتشفوا شظايا من عالم قديم من الجزء الذي فيه تطورت الحياة, فبجانب اللبيدات (الجزيئات العضوية) والبرويتينات, كان من بين اولى نتائج هذه الكشوف ان جسوراً جديدة تماماً قد بدأت تمتد وبسرعة بين أفرع اكاديمية لم يسبق قبلاً ان كان بينها صلة تذكر بدأ الاتصال بين الاركيولوجيين والباليونتولوجيين وعلماء البيولوجيا الجزيئية والجيوكيمائيين اخصائيون من أفرع علمية جد مختلفة بدأوا يلمسون شيئاً مشتركاً بينهم(22).
كانت فكرة ان شيئاً حياً يمكن ان ينقرض حجة تنقض فكرة كمال ما خلقه الله؛ لذلك لم تلق وجهة النظر هذه قبولاً ومع ذلك فمع العثور على المزيد والمزيد من الحفريات المختلفة اخذت وجهة النظر هذه تبدو ممكنة أكثر فأكثر, وتجنباً لرؤية ان الحفريات تنم عن ان الارض وجدت منذ مدة طويلة وان بعض الأنواع انقرضت بينما ازدهرت انواع اخرى قدم عالم الطبيعيات السويسري "شارل بونيه" (1720-1792م) فكرة مؤداها ان الحفريات يمكن ان تمثل اشكال الكائنات الحية التي ماتت في طوفان نوح واندثرت بهذه الطريقة, وبالفعل قام في عام (1770م) بتعميم هذه الفكرة وقال ان ثمة سلسلة كاملة من الكوارث زالت اثناءها الحياة تماماً من على وجه الأرض وبدأت حياة جديدة, ودلل على رأيه قائلاً إن التوراة تناولت فقط الارض بعد الكارثة الاخيرة ووصفت كارثة وقعت بعدها (طوفان نوح) ولم تكن كارثة شاملة(23).
ولا شك ان عالم الانثروبولوجيا الفيزيقية إنما يعتمد إلى حد كبير على دراسة الحفريات وبخاصة دراسة الكائنات الحية التي انقرضت كما ينبغي ان يتوافر لديه الكثير من الدراسات المتباعدة والعلوم المختلفة التي تخدم البحث الحفري؛ حيث تقتضي منا دراسة الحفريات معرفة بالجيولوجيا لفحص طبقات الارض, ودراسة طبيعة كل طبقة وسمكها, ومعرفة مختلف العصور الجليدية, وعمر الطبقات التي توجد في الثلاجات, أو الانهار الجليدية, وإلى جانب الدراية الدقيقة بعلم الجيولوجيا وطبقات الارض ينبغي ايضاً الالتفات الى نتائج علم الأجنة؛ لفحص مختلف الاشكال الجنينية, والكائنات غير التامة التكوين, من الناحية التشريحية, إلى جانب دراسة الاطوار التي تمر بها الحيوانات ذات الخلية الواحدة, إلى الحيوانات العضوية الكاملة النمو؛ حيث ان الحيوان كما يذهب عالم البيولوجيا الالماني "هيجل" إنما يعيد تاريخه الحفري, ويكرر ماضيه التطوري اثناء مراحل واشكال تكوينه الجنيني, حيث تتسلسل في هذه المراحل التكوينية سائر الانواع الحيوانية فتتطور الاشكال الجنينية من اللافقريات إلى الفقريات, ومن الاسماك الى البرمائيات والزواحف, ومن ذوات الدم البارد, الى ذوات الدم الحار, ومن الثدييات, الى الرئيسيات, ثم القردة العليا, ثم الانسان المنقرض, ثم اخيراً تتوج هذه المراحل جميعها في نهاية الامر مرحلة الانسان الحالي(24), ومن أهم أنواع الأدلة المؤيدة لفكرة التطور الحفريات التي اكتشفت (25).
وقد استرعت الحفريات الانتباه حتى في الأزمنة القديمة لكن معظم الناس لم يعرفوا ماذا يفعلون بها فقيل إنها مجرد فلتات أو غرائب من الطبيعة, أو انها جزء من قوة حيوية تجعل حتى الصخور تجاهد لتوليد شيء له مظهر الحياة, وفي اثناء العصور الوسطى ظهرت أفكار مؤداها ان الحفريات محاولة من الشيطان لتقليد عمل الله في خلق كائنات حية لكن الشيطان فشل بالطبع فشلاً ذريعاً, ورأى آخرون ان من المحتمل ان الله حاول صنع كائنات حية إلى ان تأكد أنه نجح في ذلك, وأن الحفريات هي بمثابة نتاج تدربه على المحاولة لو جاز القول(26).
يمكن للشخص ان يقرأ قصة الحياة في تتابعها التاريخي الصحيح؛ وذلك بفحص السجل الحفري في ترتيب من أعمق الطبقات إلى أقربها من السطح(27)، وان الدليل الممكن الوحيد للاستدلال على التطور هو سلسلة من الحفريات التي تتدرج من سلف احد الانواع الى النوع الذي انحدر عنه, وبذلك يعتبر علم الحفريات ذا اهمية فريدة للتطور(28).
ان احدى الاستخدامات الهامة للقياس البشري تتمثل في استخدامه في دراسة الحفريات والبقايا التي يعثر عليها فيها من العظام والجماجم وغيرها, فمن ناحية يمكن عن طريق القياس معرفة ما إذا كانت هذه العظام تخص بشراً أم أنها بقايا حيوانية, كذلك فأنه من خلال هذه القياسات معرفة ما إذا كانت هذه البقايا خاصة برجل أم امرأة إذا كان قد ثبت أنها بقايا بشرية اصلاً, فجمجمة المرأة أكثر نعومة إذ تتميز جمجمة الرجل بالخشونة وكذلك ببروز النتوء الحلمي (وهو نتوء عظمي خلف الاذن) أكثر بروزاً عند الرجل منه عند المرأة وكذلك عن طريق دراسة خصائص عظمة العجز, كما تستخدم البقايا الحفرية أيضاً كأدلة على العلاقات بين الرئيسيات؛ فعمل عالم البليونثولوجيا (الباحث في أشكال الحياة في العصور الجيولوجية السابقة كما تتمثلها المتحجرات الحيوانية أو النباتية) يرتكز على مقارنة العظام الحفرية بالحيوانات الحية؛ فكل عظمة تحمل معها علامات تاريخها(29).
ان طلبة التاريخ الحضاري يواجهون مشكلات كبرى في سبيل معرفة الجوانب الفكرية والاجتماعية لحياة الجماعات التي عاشت في عصور ما قبل التاريخ, ولكن المشكلات التي تواجههم هي اقل تعقيداً بالنسبة لجوانب الحياة المادية المرتبطة بالتكنولوجية؛ لان الانسان الاقدم ترك الآثار التي قاومت عوامل الزمن وارشدت الباحثين إلى معرفة جوانب الحياة التي ارتبطت بها(30).
كان لـ"داروين" تجربة شخصية في مجال الحفريات استمدها شأنها شأن غيرها من التجارب من الوقائع والمعطيات التي قادته إلى صياغة نظرية التطور وذلك إبان الرحلة التي قام بها حول العالم ما بين (1831-1836م) على متن سفينة فقد قام خلال نزوله مرات عدة بمنطقة باتاغونيا بجمع عظام مستحاثة تنتمي إلى ثدييات ضخمة وهي كائنات تثير الاستغراب من نواح عدة والظاهر ان لدى بعضها هيكلاً عظمياً يحوي مزيجاً من الخصائص نجدها اليوم لدى مجموعات تختلف عنها, وهناك امر ذو دلالة اعمق في نظر داروين وهو اكتشافه خلال ابحاثه بأمريكا الجنوبية ان هناك صلات وثيقة بين الوحش المنقرض وبين الوحش الموجود في عصره فكتب داروين يقول : "هذه العلاقة الرائعة القائمة في القارة نفسها بين الاموات والاحياء لا شك انها ستفسر في المستقبل ظهور الكائنات المنظمة على وجه الارض وانقراضها أكثر مما يفسر ذلك اي صنف آخر من الوقائع", ان هذا يعني الوثوق إلى حد بعيد بما يقدمه علم الحفريات من معطيات, ومن جانب آخر, فإن "الانتقاء الطبيعي" الذي يقصي اضعف الاشكال وأقلها قدرة لصالح اقواها واقدرها هو مفهوم يأتي بحل مقبول لإشكال انقراض الأنواع دونما حاجة إلى الاحتجاج بظواهر كارثية أو خارقة(31).
تم تقسيم التاريخ الجيولوجي إلى أزمنة أو دهور وكل زمن إلى عصور وهذه إلى عهد أو حقبة وتلك بدورها إلى قرون أو أعمار أو أجيال في ضوء السجل الحفري والدلائل الحفرية وتعاقب عهودها في الطبقات, كما سميت الطبقات التي تحوي الاحافير الاحيائية "BIOSTRATIGRAPHY" وتسمى المتحجرات الاحيائية "FOSSILS" وهي أما نباتات أو حيوانات وحيدة الخلية مجهرية أو متعددة الخلايا إلى احجام هائلة كالدينصورات الكبيرة, ويغلب على الاحافير ان فجواتها تمتلئ بالأكاسيد والأطيان والمواد الكلسية وتحجرت فيها بفعل الضغط والحرارة وقد توجد الاحافير الاحيائية أجناساً من فصائل مختلفة في نفس التكوين متعددة أو محدودة ويحدث التغيير من الأجزاء الصلبة للأحافير منها بفقدان الكائن العضوي المترسب تحت الماء أو التربة لمكوناته العضوية الاوكسجين والهيدروجين والنتروجين تدريجياً(32).
اما عن دراسة الكهوف فهي وسيلة حفرية هامة؛ إذ استعملت الكهوف كمساكن لإنسان كان يصنع في ذلك العهد الآلات الحجرية ونتيجة لتساقط الاتربة فكان من جراء ذلك ان حفظت مخلفات انسان نياندرتال في هذه الكهوف, ولقد وجدت في هذه الكهوف بعض الآلات الحجرية التي هي من مميزات العصر "المستوري" أي نسبة إلى الثقافة التي كانت سائدة في ذلك الوقت والتي وجدت في قرية مستوري في فرنسا ولقد أمكن التأكد من هذا الاكتشاف؛ عن طريق معرفة الهياكل التي وجدت في قرية نياندرتال بألمانيا حيث يتميز إنسان نياندرتال بحجم معين من الجماجم المفلطحة الكبيرة الحجم نسبياً كما انقرض إنسان نياندرتال في آخر العصر المستوري, ولقد قام العالم الفرنسي "إدوارد لارتييه" عام (1860م) بدراسة الكهوف فوجد ان الإنسان الأول قد أستعمل هذه الكهوف كمساكن له كما استخدمها أيضاً كمدافن وترك فيها مخلفاته وآثاره وأدواته, ولما كانت الريح تهب من فوهة الكهف وهي محملة بالأتربة حيث تساقطت أيضاً الأحجار من أسقف الكهوف فلقد أدى ذلك كله إلى رفع مستوى الأرضية إلى تسعة أمتار وتمثل هذه الطبقة تاريخ الماضي الإنساني والثقافي كله ولقد تعرف العلماء بدراسة هذه الطبقات على ما يسمى بالعصور الثقافية الثلاثة وهي عصور الحجر, والبرونز, والحديد, كما عثروا أيضاً في الطبقات العليا من كهوف فرنسا على ثقافات بدائية سحيقة القدم وبذلك سجلت الكهوف كتاباً ندرس فيه تاريخ الإنسان وماضيه الثقافي(33).
ان أحد المظاهر العامة للسجل الاحفوري أنه غير كامل, فمعظم الكائنات الحية لا تأخذ الخطوة الاولى للتحجر بتاتاً وتتلفها الحيوانات المفترسة أو الرمية, أو أنها تتعرض للعناصر وتتحلل, ومن بين طرق التحجر فإن واحدة فقط وهي الدفن في رواسب البحر أو المياه العذبة من الممكن ان تحدث بانتظام ونتيجة لذلك نجد معظم الحفريات في مثل هذه الصخور الرسوبية في حين يكون هناك تمثيل ضئيل للحفريات الأرضية(34).
والسبب في ضآلة البقايا الاحفورية هو انه لكي يتحفر شكل من اشكال الكائنات الحية يجب اولاً ان يُحتبس في الطين, وان يدفن في ظروف لا يتعفن فيها, ثم يجب ان يُحفظ لفترات طويلة جداً, بينما تحل محل الذرات التي يتكون منها ذرات من الصخور ببطء شديد بحيث يتحول شكل المادة الحية أو اجزاء منها تحولاً بطيئاً إلى صخر دون ان تفقد مظهرها الاصلي وهيأتها الاصلية, ويجب بعد ذلك ان يجتاز هذا الشكل سليماً صروف التقلبات الجيولوجية وذلك مدداً طويلة بما يكفي لان يعثر عليه الكائن البشري, والأجزاء الصلبة من أشكال الكائنات الحية (الصدف, العظام, الاسنان) تتحفز بيسر أكبر كثيراً من الأجزاء الرخوة ومن ثم يندر العثور على أشكال الكائنات الحية الخالية من الأجزاء الصلبة في شكل احفوري, وعلى وجه العموم فإن السجل الاحفوري ليس فقط ناقصاً بشكل رهيب بل سيظل كذلك للأبد ومع ذلك فإنه يحتوي على ما يكفي للتدليل بقوة على حقيقة التغير التطوري ويجب أيضاً الا يغيب عن البال ان النظرة العلمية إلى التطور لا تتوقف على الحفريات وحدها؛ بل تعتمد على الادلة المستمدة من فروع علمية اخرى وكلها تؤكد بقوة ما تنطق به الحفريات(35).
وجميع الحقائق الجيولوجية تدلنا بوضوح على ان كل منطقة قد تعرضت إلى حدوث تذبذبات بطيئة في المستوى, ومن الجلي ان هذه التذبذبات قد احدثت تأثيراً على مساحات واسعة, وبالتالي فان التكوينات الغنية بالأحافير, وذات السمك والاتساع الكافي لمقاومة التآكل اللاحق سوف تكون قد تكونت فوق مساحات واسعة في اثناء فترات الزوال ولكن بشكل مقصور على الاماكن التي كانت فيها كمية الامداد بالرواسب كافية لتحافظ على بقاء البحر ضحلاً وأن تطمر وتحفظ البقايا قبل ان يتاح لها الوقت الكافي لتتحلل(36).
الاستنتاجات:
1- لا يمكن تصور وجود لعلم يدعى بـ"الانثربولوجيا" ما لم يكن هناك علم قد سبقه حتماً الا وهو علم الحفريات, فبدون المادة الخام التي يقدمها علم الحفريات من الصعب التوصل إلى ما تم التوصل إليه من نظريات وحقائق في مجال الانثروبولوجيا.
2- علم الحفريات كان ولا يزال ضرورة ملحة لسد الفجوة القائمة بين ماضي الانسان وحاضره سواء كان في مجال الانثروبولوجيا أو التاريخ فبدونه كان من غير الممكن التوصل إلى ما توصل إليه التاريخ والانثروبولوجيا من حقائق ونظريات, وبدونه لا يمكن سد النقص الحاصل في معلوماتنا في كلا العلمين.
3- علم الحفريات يتطلب كما هو ملاحظ أموال طائلة, لذا كان محط اهمال معظم الدول وعلى وجه الخصوص دول الشرق التي شهدت ونشأة فيها ارقى الحضارات.
..................................
1 ) قباري محمد اسماعيل , الأنثروبولوجيا العامة صور من قضايا الإنسان, منشأة المعارف, (الاسكندرية/د ت), ص ص70-71.
2) إيريك بوفتو, ما الذي تحكيه لنا الأحافير, ترجمة: محمد سعيد الخلادي, هيأة أبو ظبي للسياحة والثقافة مشروع (كلمة), (ابو ظبي/2012) , ص8.
3) روبرت ل ليرمان, الطريق الطويل إلى الانسان, ترجمة: ثابت جرجس قصبجي, المؤسسة الوطنية للطباعة والنشر, (بيروت/1963), ص49.
4 ) قباري محمد اسماعيل , الأنثروبولوجيا العامة, ص ص71-72.
5) إسحاق عظيموف, البدايات قصة نشوء الإنسان الحياة الارض الكون, ترجمة: ظريف عبد الله, المشروع القومي للترجمة, (القاهرة/2001), ص64.
6) المصدر نفسه, ص63.
7) قباري محمد اسماعيل, الأنثروبولوجيا العامة, ص73.
8) مصطفى تيلوين, مدخل عام في الانثروبولوجيا, دار الفارابي, (بيروت/2011), ص ص42-43.
9 ) عيسى الشماس, مدخل إلى علم الإنسان (الانثروبولوجيا), منشورات اتحاد الكتاب العرب, (دمشق/2004), ص50.
10 ) ادوارد أو . دودسن, التطور عملياته ونتائجه, ترجمة: أمين رشيد حمدي ورمسيس لطفي, عالم الكتب, (القاهرة/1969), ص103.
11) إيريك بوفتو، ما الذي تحكيه لنا الأحافير , ص9.
12) كيث طومسون, الحفريات مقدمة قصيرة جداً, ترجمة: اسامة فاروق حسن, (القاهرة/2012), ص10.
13 ) المصدر نفسه, ص15.
14 ) عزت زكي حامد قادوس, علم الحفائر وفن المتاحف, مطبعة الحضري, (الاسكندرية/2003), ص ص14-15.
15 ) كيث طومسون, الحفريات مقدمة قصيرة جداً, ص16.
16 ) إسحاق عظيموف, البدايات قصة نشوء الإنسان الحياة الارض الكون, ص63.
17 ) قباري محمد اسماعيل, الأنثروبولوجيا العامة, ص115.
18) آن تيري هوايت, كل شيء عن الصخور المتغيرة, ترجمة: محمد يوسف حسن, ط4, دار المعارف , (القاهرة/1979), ص10وما بعدها.
19 ) محمد الخطيب, ارتقاء الانسان انثروبولوجيا ما قبل التاريخ وفجر الحضارة , دار علاء الدين, (دمشق/2017), ص129.
20) محمد السيد غلاب, تطور الجنس البشري, دار المعارف, (الاسكندرية/1955), ص13.
21 ) المصدر نفسه, ص14.
22 ) إسحاق عظيموف, البدايات قصة نشوء الإنسان الحياة الارض الكون, ص63.
23 ) مارتين جونز, نبش الماضي علم الآثار القديمة والبحث عن الدنا القديم, ترجمة: أحمد مستجير, دار العين, (القاهرة/2004), ص ص21-22.
24 ) قباري محمد اسماعيل, الأنثروبولوجيا العامة صور من قضايا الإنسان, ص72.
25) إسحاق عظيموف, البدايات قصة نشوء الإنسان الحياة الارض الكون, ص62.
26) المصدر نفسه, ص63.
27 ) دودسن, التطور, ص103.
28) المصدر نفسه, ص94.
29) هندومة محمد أنور حامد, الأنثروبولوجيا الفيزيقية, دار المعرفة الجامعية, (الاسكندرية/2010), ص281.
30 ) قيس النوري, ما الانثربولوجيا , دائرة الشؤون الثقافية والنشر, (بغداد/1986), ص10.
31) إيريك بوفتو, ما الذي تحكيه لنا الاحافير, ص ص29-30.
32 ) مسعود مصطفى الكتاني, الحيوانات البرية والصيد عبر العصور, دار الكتب للطباعة والنشر, (الموصل/1985), ص ص12-13.
33) قباري محمد اسماعيل, الأنثروبولوجيا العامة, ص ص73-74.
34) دودسن, التطور, ص107.
35) إسحاق عظيموف, البدايات قصة نشوء الإنسان الحياة الارض الكون, ص65.
36) تشارلز داروين , أصل الأنواع, ترجمة: محمد رزاق, دار الشرق, (القاهرة/2018), ص509.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat