بوعد بلفور وليس بوعد الله ورثوا الأرض .
مصطفى الهادي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
مصطفى الهادي

لم يكن أحد يعرفهم ولم يكن لهم دور في أي مجال من مجالات الحياة. مشتتين على رؤوس الجبال وبعضهم في الصحارى ركضا وراء العشب لأغنامهم، هذا ما تخبرنا به توراتهم. متفرقين بين الأمم.(شعبُ ما متشتت ومتفرق بين الشعوب ، وسننهم مغايرة لجميع الشعوب).(1) سننهم وعاداتهم اكتسبوها من حياة البداوة القاسية فأصبحت من أبرز سماتهم ، فزرعت في أعماقهم القسوة المفرطة وحب المال فأصبحوا يرغبون بالحصول على كل شيء من دون بذل أي جهد او عناء، فلجأوا إلى الربا ، والدعارة ، والقمار وصناعة السلاح ، وكل الأعمال القذرة التي تدر عليهم ربحا سهلا، والتي يأبى الشريف أن يعمل بها. ومنذ القدم كان همّهم الأول هو البحث عن بلد (يفيض لبنا وعسلا).(2) بلد جاهز لم يتعبوا في بنائه فلم تكن لهم بقعة معيّنة يحلمون بسلبها من أهلها ، فكانوا خلال تجوالهم وبداوتهم يتفحصون البلدان، ثم بدأت الغارات عليهم فكانت حياتهم كلها مليئة بالخوف والترقب (عمل بنو إسرائيل لأنفسهم الكهوف التي في الجبال والمغاير، كان يصعد المديانيون والعمالقة وبنو المشرق يصعدون عليهم).(3) فأفضل حضارة لهم هي حياة الكهوف والمغاور، وأشهر أثر لهم تم العثور عليه هو المخطوطات في كهوف ومغاور وادي قمران ، وقد تناثر حولها بعض الأعمال الخزفية والأواني وكلها مكتوبة بلغتهم مما يدل على أنهم فعلا كانوا في الكهوف والمغاور. ولكن كانت الغارات من قبل المديانيين والعمالقة تُخيفهم جدا، فنزلوا من الكهوف والخيام التي لا تحميهم ، ولجأوا إلى مصر البلد القوي لكي يحميهم (يجرون لينزلوا إلى مصر ليلتجئوا إلى حصن فرعون ويحتموا بظل مصر. فقال فرعون : ما صناعتكم؟ فقالوا لفرعون: عبيدك رعاة غنم نحن وآباؤنا جميعا).(4) نعم هذا واقعهم أمة هائمة قضت عمرها ركضا وراء العشب والماء، تخرج من الكهوف والخيام ، لا حضارة ولا تاريخ لهم ، ولكن مصر التي قبلتهم عملوا الشر فيها (وعاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب وعبدوا البعليم والسواري، وزنوا وراء البعليم).(5) قاموا بترويج الدعارة بين المصريين وتركوا عبادة آلهة المصريين وصنعوا لهم آلهة جديدة من (الأعضاء التناسلية للذكر والأنثى).(6)
فتوجست مصر منهم شرا فاستعبدتهم وأمعنت في أذاهم وإذلالهم وإلهائهم في عمليات البناء الشاق لدفع شرّهم (يقتلون أبنائكم ويستحيون نسائكم).(7)
لقد عمل بنو إسرائيل بوصية جدهم الأكبر (يوناداب) بأن لا يبنوا البيوت ولا يسكنوا المدن،لما علمه من سوء نواياهم التي ستجّر الويلات عليهم فقال لهم : (لا تبنوا بيتا، ولا تزرعوا زرعا، ولا تغرسوا كرما، ولا تكن لكم، بل اسكنوا في الخيام كل أيامكم، فسمعنا وعملنا حسب كل ما أوصانا به يوناداب أبونا).(8)
ثم فجأة تبرز لنا نصوص توراتية لا نعلم مصدرها تزعم بأن الله أعطاهم بيوت ومدن لم يبنوها ليسكنوا فيها. في عملية تبرير لاحتلالهم لبعض المدن التي اغتصبوها. ولم تخبرنا هذه التوراة عن سكان هذه المدن والبيوت ، أين ذهب أهلها ففي نص غامض مبهم يقول لهم ربهم : (وأعطيتكم أرضا لم تتعبوا عليها، ومدنا لم تبنوها تسكنون بها .. مدن عظيمة جيدة لم تبنها، وبيوت مملوءة كل خير لم تملأها، وآبار محفورة لم تحفرها، وكروم وزيتون لم تغرسها).(9) فأين ذهب أهلها، ولماذا مدن عامرة خالية من سكانها جاهزة لسكن إخوان القردة والخنازير.
بالرجوع إلى نفس التوراة، نجد تبريرا غريبا لخلوا هذه المدن من سكّانها واختفائهم الغريب المريب، حيث ينسب النص هذا السبب إلى أن الله أبادهم في ليلة وضحاها ، قام بهلاكهم وتدميرهم من دون أن يترك وراءه أثرا. فهل من المعقول أن يهلك الله تعالى سبعة شعوب كنعانية يصفها بأنها عظيمة، ثم يبيدهم بطرفة عين عبر حرقهم؟ تقول التوراة : (فاعلم اليوم أن الرب إلهك هو العابر نار آكلة. هو يُبيدهم).(10) كل هذا الهلاك لسبعة مدن عظيمة لكي ينقل إخوان القردة من حياة الكهوف إلى حياة الاستقرار وسكنى المدن والبيوت وفلاحة الأرض وزراعتها؟ هكذا يُبررون بكل بساطة سبب اختفاء جثث ملايين الناس بسبب إرسال الله للنار فتأكلهم وتُبيدهم. فكيف أحرقت النار الناس دون أن تحرق البيوت والأثاث والرياش والمزارع. يبدوا أن إخوان القردة والخنازير كانوا يمتلكون سلاحا يشبه سلاح اليوم الذي صنعته أمريكا والذي يقتل الحياة فقط تاركا المدن والبيوت وكل شيء دون ان يمسها بسوء.(11)
شعبٌ لا تاريخ له سرق الكثير من تواريخ الشعوب ونسبها لنفسه.(12) استطاع بمكره وخبثه وغدره أن يوقع بالكثير من الدول لتسانده عبر الرشوة والرعب والدعارة، وبالمال الذي يملكونه قاموا بتجنيد ضعاف النفوس ممن تفوقت انانيتهم على إنسانيتهم. ولكنهم نسوا أن أفعالهم هذه سوف تقوم بتأليب الشعوب عليهم فتثور عليهم فلا تُبقي عليهم وتُبيدهم.
لقد زرعوا نصوصا مزورة ينسبون فيها إلى الله بأنه أعطاهم تلك المدن وأورثهم الأرض طولا وعرضا وقال لهم (كل مكان تدوسه بطون أقدامكم يكون لكم. من البرية ولبنان. من نهر الفرات إلى البحر الغربي. يطرد الرب جميع هؤلاء الشعوب من أمامكم فترثونها).(13) ولكننا نرى اليوم أنهم حصلوا على هذه الأرض بوعد بلفور وليس وعد الله كما تزعم توراتهم(14) وهم اليوم يعيشون وراء أسوار من الإسمنت والحديد ومختلف أنواع الأسلحة وفي كل يوم تضيق عليهم الأرض بما رحبت، وعمّا قريب سوف يُزلزلون زلزالا شديدا.
المصادر:
1- سفر أستير 3 : 8.
2- في أكثر من عشرين موضع من التوراة كرر الله لهم بأنه سوف يعطيهم أرضا تفيض لبنا وعسلا، فيطرد كل شعوبها ويُبيدهم فيقول في سفر الخروج 3 : 8 . (أصعدهم إلى أرض جيدة وواسعة، إلى ارض تفيض لبنا وعسلا، إلى مكان الكنعانيين والحثيين والأموريين والفرزيين والحويين واليبوسيين). هكذا بكل بساطة يطردهم ويُبيدهم بدلا من هدايتهم، كل ذلك من أجل سواد عيون إخوان القردة والخنازير.
3- سفر القضاة 26 : 2.
4- سفر إشعياء 30: 1 ـ 2.و: سفر التكوين 47 :3.
5- سفر القضاة 3 : 7.و: سفر القضاة 8 : 33.
6- يقول في قاموس الكتاب المقدس حرف (س : سواري). أظهر البحث الحديث أن الكلمة سواري العبرية "أشيرة" تشير إلى آلهة السارية الخشبية (عضو ذكري خشبي) التي كانت تقام نصبًا رمزًا إلى هذه الآلهة . خروج 34: 13.
7- سورة الأعراف آية : 49.
8- سفر إرمياء 35 : 7 ـ 10.
9- سفر يشوع 24 : 13.و: سفر التثنية 6 : 11.
10- سفر التثنية 9 : 3.
11- هي صواريخ حرارية أمريكية باليستية من طراز UGM-133 Trident II D5.
12- لا بل أن اليهود لم يصنعوا تاريخا مزيفا لهم فقط ، بل صنعوا ربا وإلها على مقاساتهم إله يحمل نهارا عمودا ، ويحمل ليلا مشعلا لينير لهم الطريق. (وكان الرب يسير أمامهم نهارا في عمود ، وليلا في عمود نار ليضيء لهم لكي يمشوا). سفر الخروج 13 : 21.
13- سفر التثنية 11 : 24.
14- قولهم (أرض الميعاد) تعني أن الله أوعدهم بأن يعطيهم هذه الأرض ، ولكننا رأيناهم ورثوها بوعد بلفور. والقرآن يؤكد بأن اليهود لا أرض لهم ولا وطن بدو رحّل وطنهم خيامهم، وهذا ما نراه في قول نبي الله يوسف لأبيه يعقوب : (وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو).سورة يوسف آية : 100.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat