ملامح الظهور للرواية القصيرة جداً قراءة في المجهول كإنموذج
هادي المياح

 ان كل الأنواع التي تنخرط تحت عنوان جنس القصة قابلة للتحول والتغيير في أشكالها طبقا لعوامل وظروف متعددة منها تطور المجتمعات وتغير ثقافتهم وعاداتهم. مما يدعو إلى ظهور أشكال جديدة عابرة للنوع الواحد.

لهذا نجد أن الرواية القصيرة جدا لا تختلف كثيرا في مخاض ولادتها عن نظيرتها القصة القصيرة جدا، كلاهما يتشابهان في آليات الظهور وإن سبق أحدهما الآخر. ذلك أن القصة القصيرة جدا ولدت في رحم القصة القصيرة ، أما الرواية القصيرة جدا -موضوع القراءة- فقد ولدت حديثا في رحم الرواية القصيرة،واتخذت لها موقعاً بين الرواية القصيرة والقصة الطويلة. وكلا الحالتين  تتوافقان مع مؤثرات الزمن التي رافقت التطور التكنولوجي في عموم العالم.

ولا يستغرب أن تظهر أشكال جديدة أخرى مختلفة حتى من الأنواع الأدبية الضاربة في القدم. من جانب آخر، لابد من النظر ودراسة مدى تقبل هذا النوع الجديد من قبل الكتاب والقراء في الاوساط الادبية .

أما رواد هذا النوع المستحدث فهم قلة اذكر منهم:

١.الكاتب حكمت الحاج/العراق

٢.الكاتب سلام كاظم فرج/العراق

٣.الكاتب حميد الحريزي/العراق

وغيرهم من مهد لهذا الجنس في اعمالهم مثل «نمش ماي» للروائية العراقية فليحة حسن. وبعض الكتاب العرب.

وبحسب ما عرض اليه الأديب الشاعر والناقد العراقي حكمت الحاج فإن الرواية القصيرة جدا ترتكز في بنائها النصي حسب رؤيته على:

 أولا: الخلفية الفلسفية لمفهوم الرواية القصيرة جدًا. ويتمثل هذا في ما يدعى بـ التقليلية.

ثانيا: الخلفية النقدية للرواية القصيرة جدًا بوصفها عنصر مستقل بذاته.

الرواية القصيرة جدا كنوع مستقل

إن أحد الطرق لفهم الروايات القصيرة جدًا كنوع أدبي مستقل هو دراسة خصائصها الفريدة. غالبًا ما تعطي هذه السردية المكثفة الأولوية للإيجاز والاختصار واقتصاد اللغة، وتعتمد على قوة الاقتراح والتلميح، مما يترك المجال لتميزها عن الروايات التقليدية.

كتاب الكناية

لكل من هذين العاملين اعلاه، شروحات وتفاصيل ذكرها الروائي حكمت الحاج في بيان أمضى عليه مع آخرين من زملائه : القاصة عواطف محجوب والروائي والشاعر حسين علي يونس. ونشر في عدة مواقع أهمها دار منشورات «كتاب كناية».

أعود إلى رواية «المجهول» للروائي العراقي حميد الحريزي .

 الرواية القصيرة جدا ،  بتعريف بسيط لها، هي شكل مختصر لسرد موجز ومكثف لا يتجاوز عدد كلماته  في حدها الاعلى تسعة آلاف كلمة ولا تقل عن خمسة الآف كحد ادنى.

 ولإلقاء الضوء على الحبكة المكثفة وسير الأحداث لابد من بيان موجز مختصر لها:

تدور الحكاية حول سجين نفي الى سجن نقرة السلمان 150 كم  غربي محافظة المثنى في العراق، بتهمة كونه سياسي شيوعي ، ومن دون محاكمة عادلة. ومعروف عن هذا السجن أنه بني من قبل الإنجليز في عشرينات القرن الماضي بعيدا في الصحراء قرب الحدود السعودية . ثم  انشئ سجن آخر الى جانبه من قبل النظام السابق آنذاك. ومعروف ايضا ان من ينفى الى هذا السجن سوف لن يعود إلا وهو جثة. وغالبا لا يعرف مصيره !!

معمار الرواية بني على ثلاثة مشاهد مرقمة على التوالي.

تبدأ الحكاية منذ اليوم الأول لاعتقال الشخصية ومصادرة نظارته . وتستمر على مدى ثلاثة فصول او مشاهد ، تحكي ازمة البطل السياسي الشيوعي المناهض للنظام السياسي ، وتنتهي بموته الفعلي بعد أن كان في عداد الموتى في معتقله.

ما حققه النمط السردي في رواية المجهول:

اولا: الانسجام والتماثل بين الشكل السردي وما يقابله من خصائص ومفاهيم فلسفية للرواية القصيرة جدا.

ثانيا: تحقيق أسس الاقتناع بالطابع الروائي وما يخلفه هذا النوع من اثر في ذهن المتلقي، ومدى الحاجة إليه في هذا الوقت.

ويمكن توضيح تفاصيل ما ورد أعلاه بما يلي:

التلاعب بالجدول الزمني بخلق قفزة زمنية تتعدى العشرين سنة قضاها الشخصية المناضل في السجن.(بعد سنوات طوال أُسقط النظام، أُطلق سراحه…) ما عدا هذه القفزة يعتبر السرد أفقي وتتابعي .

الترجمة الدقيقة للشخصية ووصف حركاتها ووقفاتها ، انفعالاتها وتعابيرها، تماسكها ونقاط ضعفها.

إذ بعد مرور سنين طويلة عليه في سجنه، وأثناء دخول الأمريكان وقوات التكاليف ، يجد السياسي المناهض للنظام نفسه خارج المعتقل.  تائه لايعي نفسه ولا مكان وجوده. وهي اشارة الى ما لحق به جراء الحجز. من تصدع في النفسية ،وهبوط في الذاكرة والإدراك وقدرات التذكر  «لم يذكرها الروائي وترك مثل هذه  التفاصيل لكي يحرك التفاعل التشاركي من قبل القارئ.»

السرد ذو طابع روائي يتأرجح بين الفكرة والحكاية من دون اسهاب. يتماشى مع أسلوب كتابة الرواية . استعان الكاتب بتقانة وفن الحذف كما يطلق عليه في مثل هذه النصوص الوجيزة ، لكنه بحسب رؤيتي قد انحاز كثيرا باستخدامها في أقصاها مما كاد السرد أن يكون جائراً.  لكن عموما في مثل هذه الأنواع الادبية الابداعية المستحدثة، يمنح الكاتب مساحة واسعة من حرية التصرف عابرا الكثير من الحدود والقيود سواء ما يخص منها الضبط الأسلوبي الخطابي أو القيم الاجتماعية .الحوار  جمل مقتضبة فيها تكثيف واختزال واقتصاد في اللغة. عدا ما ندر وجوده  من مط الجملة وتكرارها، وإن كان بهدف التأكيد على حقيقة  ما يعانيه الشخصية:

(-أخي رجاء أين أنا وماذا يجري هنا،هل هو انقلاب،هل هو غزو، هل انا في العراق او خارجه؟؟

-ولكن من انت؟

-انا سجين أطلق سراحي الآن،ولكني لا أعلم هل أنا لازلت في العراق حين سجنت لأول مرة قبل 20 عاما؟؟)

 التزم الروائي بشكل كبير بمبدأ التقليلية‏minimalism. وهو بهذا يعزز ما سبق وقلته في تقانة الحذف. ولشدة التزامه بها صار السرد ينحو منحى القصة القصيرة جدا. فقد هيمنة التقليلية بسطوتها على جمالية النص ، في حين ان المتلقي يتأمل ان يحظى بالكثير منها. التقليلية يفترض ألا تكون سوى آلة عزق وإزالة الأعشاب الضارة من أرض النص.  ولا يشترط على المبدع المبالغة  بالتقيد فيها. مفهوم التقليلية في هذه الرواية طاغي جدا لذلك كانت الرواية  أقصر ما كتبه الروائي في هذا النوع مقارنة برواياته الثلاثة الاخرى (القداحة الحمراء ، ارض الزعفران، والمقايضة).

استخراج الدلالات

قوة التلميح في الرواية ظهرت بشكل واضح ومتناوب مع الوضوح والتصريح و بصيغ تدفع القارئ للتشارك في استخراج الدلالات والمعاني المطلوبة. وهو ما يدل على قدرة الروائي على تحقيق التوازن والتماسك في الخطاب النصي.

الإيجاز والاختصار والاقتصاد في اللغة. كل هذه الخصائص شكلت أركان الرواية المهمة.

الغموض والإحالة والاستبدال والمفارقة

كانت النهاية في الرواية مبهرة جدا ، استطاع الروائي بحذاقة أن يشدنا الى وقفة استراحة واسترخاء نقضم بهدوء مفردات وعبارات متداخلة في صياغتها ومعانيها .  لذلك جاءت النهاية مفاجئة ومباغتة -بتعبير أدق -لسير السرد و الانطباع المتولد لدى القاريء .

من يتوقع ان الأمل ما يزال حياً ينبض في صدر السياسي السجين بعد كل  تلك السنين العجاف التي قضاها في السجن ؟

كان يحاول جاهدا لملمة نفسه وهو يزج بها بين لحظة واخرى بين الجموع المحتشدة الثائرة ، يتأمل احدا يعرفه منهم ، كان يأمل أن يرفعوه على الأكف و يكون هو القائد ، لا أن يقذف به جثة هامدة في الشارع .

المفارقة المزدوجة ان هذا السياسي لم يمت في سجن نقرة السلمان بسبب التعذيب بل مات وهو يتنفس الحرية ..  وفي حين لم تنصفه عدالة القدر ولا مرة واحدة في حياته، كذلك لم ينصفه الاعلام  والقنوات الفضائية التي  وصفته كأحد أعوان السلطة والنظام السابق انتحر مقهورا على اسياده  .


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


هادي المياح

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2023/09/18



كتابة تعليق لموضوع : ملامح الظهور للرواية القصيرة جداً قراءة في المجهول كإنموذج
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net