دلالات المكان .. الدين والتأريخ والواقع
هبه وسام عزيز
هبه وسام عزيز
مدخل
الدلالة هي ((ما يتضمّنه اللفظ، من دلالة خاصة، بالنسبة لفرد او جماعة، والدلالة تكون من دال.. علامة او نظام دلالة أولية_ أو ذاتية_ من وجهة نظر بارت)) ( )، فالدال والمدلول والدلالة من المفاهيم التي قامت عليه النظريات اللسانيات، فوجود الدلالة أو ما يمكن أن نسميه بحصول المعنى أو حدوث الفهم مرتبط بعمليات تُحيلنا الى تصورات ثم الى صورة محسوسة أو متخيلة أي ما يطلق عليه بالمرجع( )، ويدرس علم الدلالة ((العلاقة بين الدال اللغوي ومدلوله، ويدرس معاني الكلمات تاريخياً، وتنوع المعاني، والعلاقات الدلالية بين الكلمات وما يترتب عليها من مجاز)) ( ). نستنبط من ذلك أن الدال ومدلوله تربطهما علاقة تفاعلية والبحث في معاني الكلمات تاريخيا _أي عودتها الى جذورها التاريخية_ وتتنوع المعاني فيظهر المجاز بين العلاقات الدلالية وبين الكلمات. إنّ العناية بالمجرد والمحسوس جعل ((التشكيلات الدلالية تعنى بالرموز والعلامات اللغوية وغير اللغوية، ولعل اكثر استعمالات الرمز شيوعاً هي تلك التي تستند الى صورة تناظرية تربط بين وحدات مجردة وأخرى محسوسة، تنوب الثانية مكان الأولى وتقوم مقامها)) ( )؛ لأن حاصل الجمع بين الوحدات المجردة والمحسوسة ينتج صورة تناظرية للدلالة على الشيء.
كما أحالت ((الدلالة في التشكيل المكاني الى كمٍ مادي عديم الشكل وسابق على التمفصل، ليحدد مفهوما رئيسا في تصور العلاقات بين الحدود المنتجة للقيم المضمونية وتداولها)) ( ). ان المكان الحكائي له مدلول مجازي وحقيقي في الوقت نفسه، إذ يؤسس ويشكّل عناصر مشحونة بعلم الدلالة؛ لأن ادوات الثقافة تعمل على تأثيث المجتمع من خلال الأديان والأساطير والتاريخ فضلا عن الواقع. وبالتالي فـ((التلاعب بصورة المكان في الرواية يمكن استغلاله الى اقصى الحدود، فإسقاط الحالة الفكرية او النفسية للأبطال على المحيط الذي يتواجدون فيه يجعل للمكان دلالة تفوق دورهُ المألوف كديكور او كوسط يؤطر الاحداث إنه يتحول في هذه الحالة الى محاور حقيقي ويقتحم عالم السرد محرراً نفسه هكذا من أغلال الوصف)) ( ). فالمكان له تأثير كبير على الدلالة عبر خلق صورة للمكان هذه الصورة (واقعية او متخيلة) تفرد خصوصيته وتغير دلالته من الديكور (الثبات) الى الحركة (دينامية) فضلا عن انتقال الراوي من حالة الى أخرى، وتتنامى لتقتحم عالم السرد بكليته.
لأن ما يعول على المكان، ((إضفاء صفات مكانية على الأفكار المجردة، يساعد على تجسيدها. وتستخدم التعبيرات المكانية بالتبادل مع المجرد مما يقربه إلى الأفهام. وينطبق هذا التجسيد المكاني على العديد من المنظومات الاجتماعية، والدينية، والسياسية، والأخلاقية، والزمنية. بل إن هذا التبادل بين الصور الذهنية والمكانية امتدّ إلى اتصاف معان أخلاقية بالإحداثيات المكانية النابعة من حضارة المجتمع وثقافته)) ( )، مما انعكس ايجابا على دلالته ووظيفته في النص الروائي.
ولعل التحوّل في دلالة المكان يؤسس جمالية له، ((اذا أعتبرنا أنّ الأمكنة بنية لها نماذجها وعناصرها الثقافية المكونة لهويتها الجغرافية والثقافية، فإنها تحضر في النص الأدبي محمّلة بتلك المضامين والأبعاد التي تخلى عن ارتباطها بالتاريخي والمقدس والاسطوري والواقعي)) ( )، والدلالة تقوم بحفريات معرفية لها عمق تعبّر فيه عن الفكرة التي يريد الروائي سردها او عرضها في تشكيله، لقد كان هناك نقلة نوعية في الدلالة، فمن البدهي أنّ للشخصية دلالاتٍ تكشف عن كنهها وتصرفها فيه، لكن مع الثورة المعاصرة والنماذج الروائية الجديدة، التي قولبت الشكل الكلاسيكي القديم، أخذ الكتّاب يهتمون بالدلالة؛ لأن المكان يبحث عن الهوية بكل مسمياتها، مما وسّع دائرة الأبعاد المكانية وتأثيث الصورة بعيداً عن كلاسيكية الصورة في الماضي، فانتقل الى دلالة أعمق وتغيّرت صوره، وأثرت هذه الدلالةُ التأويلَ، واختلفت الدلالة الداخلية للمكان والمؤثرات التي تتفاعل فيه مع الدلالة الخارجية، والخروج من الدلالة الداخلية الى الخارجية واعادة رسم جغرافيته بحسب ترتيب الحياة الجديدة واقتناص كل ما هو غريب او شاذ فيه.
وعلى إثر هذا التغير اصبحت الصياغة الـ((فكرية لجماليات المكان تتأسس على استنطاق الأبعاد المعرفية في النص، واعادة اكتشاف الماضي محمّلا بالتجارب الجديدة وممزوجا بالعواطف التاريخية والدينية)) ( ) والاسطورية والواقعية. وكشفت تلك الابعاد المعرفية عن محاولات ((لاستعادة المكان باعتباره مكونا وجوديا وعنصرا من الهوية واخيرا نموذجا ثقافيا)) ( )، تخطّى حدود المألوف، وتغيّرت الدلالة من صورتها البسيطة الى صورة مركبة قاتمة بحسب الروائي وبحسب الظروف التي تمنح الزمن او الشخصية او الحدث ايحاءً يرتبط بملامح المكان التاريخي المرتبط بتاريخ يحوي زمنين منفصلين، أو الديني واثر الاماكن الدينية وانعكاسها على الشخصيات، والاسطوري بؤرة ولادة الاسطورة فيه، واخيرا الواقعي وبيان حقيقته بوجوده بوصفه هوية وإنموذجاً للواقع.
وتقسم الدلالة الى:
• الدلالة الدينية
• الدلالة التاريخية
• الدلالة الواقعية
• الدلالة الدينية
المكان الديني هو المكان الذي تطمئن له الشخصية فتهدأ النفس فيه وتستقر عبر قدسيته، كما تنعكس أبعاده عليها لإرتباطات نفسية وروحية تدعوها للتأمل والسكون، فهو صلة ارتباط بين العبد وربه، فمهما كانت الذات في ابتعاد عن المكان الديني (المقدس) إلّا أنّها تشعر بالألفة والطمأنينة والراحة فيه. ((وتعد الأماكن الدينية من أبرز الرموز الدالة على وحدة الجماعة وتماسكها، فالمعابد والاديرة والكنائس والجوامع والمساجد هي بؤرة المكان الذي تتخذه الجماعة محلّا لسكنها، ومركزا لفعالياتها في الحياة، ويعبر المكان الديني عن الصلة بين السماء والأرض، ومدى وعي الإنسان بأهمية هذه الصلة وعلاقتها بوجوده، ومن هنا بدأ الترابط بين الحس الديني والحس المكاني في نفس الإنسان، فانعكس في بناء الأماكن الدينية وإبراز معالمها الفكرية والجمالية))( ). ويستلهم المكان الديني خصوصيته من المكونات الدينية التي تعمل على إظهار كل الجوانب الايجابية للشخصية وهي تنعتق من سيئات الحياة، لذا سوف نجد أنّ هناك علاقة روحية بين الشخصية والدين، فهو الملاذ الآمن الذي يحصّنها من براثن المجتمع، وفيه يكون المستوى الدلالي محفّزا لاستكشاف كل خبايا الذات وما يعتمل فيها، وترتفع جاهزية المكان من العام الى الخاص، اذ يوفر فضاءات تنفتح بوعي او لا وعي على الكوامن المكبوتة، وكأن الذات تعيش في عالم آخر او بديل عن عالمها المأساوي او التعيس المحصور في فضائه. ((وهناك علاقة جدلية ما بين الدين تشريعاً وطقوساً، وما بين المكان (مادي أرضي) الذي يربط بين العبد وربه، ومن هنا تنشأ العلاقة ما بين السماء والأرض، ما يبرر لنا التجاء أغلب الشخصيات إلى الأمكنة الدينية؛ هو شعور الشخصيات بعمق أبعادها الروحية وكأن (المكان) بوابة الدخول إلى الحضرة الإلهية عند اغلبية العقائد الدينية وتلعب الرموز (الأنبياء والأولياء) دوراً بارزاً في بيان مدى قوة هذا الانتماء الروحي فالرمز الديني يبقى حاضرا في أروقة المكان)) ( )، كما يُظهر الروائي من خلال المكان الثقافة الدينية سواء للشخصية او للمجتمع وعلاقة تلك الثقافة مع المجتمعات الاخرى، عبر الانتماء والتنافر والتقارب والتباعد، فالمكان يحمل مثاقفة ما بين الدين والشخصية، واظهار مشاعرها وعواطفها مشحونة ومتقدة او هامدة بحسب الحالة التي تكون عليها.
• الدلالة التاريخية
التاريخ هو مركز لانطلاق الوقائع (الاحداث الواقعية او المتخيلة)، وينهض البعد التاريخي على تلك العلاقة الجدلية ما بين المكان في الزمن الماضي والمكان في الزمن الحاضر المعاصر، فالتاريخ هو العلامة الفارقة التي تصوّر دينامية الشخصيات في تلك الامكنة واستحضار. والتاريخية ((مصطلح ذو محتوى فلسفي يطلق على خاصية الظواهر والاشياء والموجودات التي يلتصق مفهومها بالتاريخ، وقد يطلق المصطلح على سمة الصيرورة مما يجعل التاريخ انعكاف الحاضر على الماضي، والتاريخية اسقاط الحاضر على صيرورة المستقبل)) ( ).
اما التاريخ فهو جملة الاحوال والاحداث التي تمر بها الشخصية وتصدق على الفرد والمجتمع كما تصدق على الظواهر الطبيعية والانسانية، والتاريخ هو الذي يقوم بتسجيل هذه الاحداث في المكان ( ).
ومما لا شك فيه فإن ((الصور والافكار التي يأهل بها هذا العالم الشاقولي مفعمة بميل جد قوي للإفلات منه والخروج الى الخط الافقي التاريخي المثمر والتوضّع ليس باتجاه الأعلى بل الأمام. ان كل صورة ممتلئة بإمكانية تاريخية، ولهذا فهي مشدودة بكيانها كله للمشاركة في الحدث التاريخي في الزمكان الزمني التاريخي. لكن ارادة الفنان الجبارة تحكم عليها بمكان ثابت وأبدي في الخط الشاقولي الخارج عن الزمن. هذه الامكانيات الزمانية تتحقق جزئياً)) ( ). في المكان التاريخي الذي له دلالة تثري عن حضوره من خلال الصور والافكار حين تشارك في بناء الحدث والزمن.
((لقد خاض المكان رحلة طويلة في متاهة التاريخ/الزمان، وتعرّض لفاعليات الصيرورة وتحولاتها، لكي ينتقل من الفضاء الوحشي الى الفضاء الثقافي- الانساني)) ( )، وهنا يكمن التشابه ما بين الاسطورة والتاريخ، اذ ان هناك ترابطاً فيما بينهما، فالمكان في حضارة ما هو مكان وزمان مندثر يترادف مع الاسطورة التي تظهر في مجتمع بدائي عبر الثقافات الحضارية من خلال اندثارها والعودة بها الى الواقع.
والمكان التاريخي بدلالته له قيمة من زمن الى آخر وتتجلى أهميته عبر الجمع بين الماضي والحاضر، لأن الماضي يثري دلالة النص مما يشحذ مخيلة الروائي. ((والزمن هو الزمن الذي يعطي للمكان تلك القيمة المتغيرة من عهد الى لآخر، ويقوم بعمليتي، النسخ والاثبات المتبادلتين، على مدار العصور والعهود، حيث يستحيل المكان، اي مكان)) ( ). أما الحاضر يرسم ملاحمه الباقية او المندرسة، اي نسخ الماضي واثباته في الحاضر.
اذ يشكّل المكان بؤرة اجتماع الحدث في الماضي والحاضر، وكأنَّ هناك توازياً بين الاحداث.
• الدلالة الواقعية
يرى بعض النقاد أن الواقع في الرواية هو الحقيقة المنقولة على الورق، واضفاء طابع التخييل لكي تكون الدلالة واقعية بامتياز، لكن الدلالة الواقعية هي الدلالة التي لها قرائن ومرجعية تحيل الى الواقع وتتطابق معه لفظياً وليس تشكيلياً، ونقصد بذلك أنّ الغرفة أو المطبخ أو الخزانة في النص الروائي لها قرينة في الواقع تُحيل اليها وتتطابق معها لكن في العيان لا يمكن أن تكون الغرفة أو يكون المطبخ نفسه.
والدلالة الواقعية تنشّط المشهد السردي او الوصفي فهي تبني عالما يتطابق مع العالم في الحقيقة ويشابهه الى حد كبير بمرجعيته. إن ((المكان الواقعي يتيح لنا القبض على دلالاته من خلال ما يرجع اليه عبر الوظيفة الإيهامية للمكان الفني استناداً الى علاقات لغوية أو قرائن سياقية ظاهرة أو مضمرة)) ( ). فالمكان بصوره ووجوده يبقى يمتص من الواقع محيطه العام وتضاريسه ووظيفته الايهامية، غير المكان الفني الذي يكتنفه الغموض والعلاقات اللغوية في النص الروائي او السياقية الظاهرة او المضمرة بقرائن مرجعية.
والروائي ((لا يتعامل مع الواقع بل ما يرتسم في ذهنه او في مخيلته من صور تخص الواقع او تمثله وتعينه)) ( ). على تشكيل الواقع متفقا مع التسميات في بعض الاحيان او مختلفا، لكن الوصف يطابق الواقع ويشابهه، لذلك يتعرف القارئ على بعض الامكنة الواقعية لبعض البلدان او المدن ومدى تأثيرها وسطوة حضورها، وبالحديث عن المكان الواقعي هو المكان الذي يمتلك قرائن واقعية ومرجعيات تنتسب الى الواقع.
إنَّ براعة المكان الواقعي بمرجعيته تأتّت من معاينة المكان، لأن دلالة المكان أثّثت البناء العام واستلهمت جغرافية الامكنة ووظيفتها بمحمولها الدلالي.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat