أبصارٌ شاخَصةُ نحو عنان السَّمَاءِ لعلها ترمق تلك المنارات الذهبية العالية، وتكحل ناظريها برؤية تلك القبة وهي تلمع كأنها شمس ساطعة، فتزيل تعب الطريق ولهيب الشمس الحارقة، في زيارة الأربعين بعد ان اكتظت الشوارع التي تربط كربلاء المقدسة بكل اتجاهاتها بالمحبين لآل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كلهم يجمعهم شي واحد وهو حبهم لبضعة الرسول الاكرم محمد (صلى الله عليه وآله)، رغم الاختلافات الكثيرة التي بينهم من حيث الشكل والجنس واللهجة واللغة ...
اليوم في هذه الزيارة تعلمت درساً مؤلماً ومفرحاً في آن واحد، فبالرغم من فرحتي بتلك الجموع الغفيرة وكثرة المحبين، كان هناك نقد يراودني لبعض الشباب الذين يتفننون بقصات الشعر وارتداء ملابس قد لا يستسيغها البعض، وكنت واهمًا بانه يجب ان يتم منع هؤلاء من اداء الزيارة احترامًا لسيد الشهداء (عليه السلام)، من باب يجب ان نتحلى قدر الإمكان باخلاق سيد الشهداء لنكون مصداقاً حياً لما يحبون أن يرونا عليه, وقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) : "معاشر الشيعة كونوا لنا زينا ولا تكونوا علينا شينا قولوا للناس حسنا، واحفظوا السنتكم، وكفوها عن الفضول وقبيح القول"..
عُدتُ بعد الزيارة مُحَمّلا بوزر مادار في خاطري بحق هؤلاء بعد ان روى لي أحد اصدقائي قصته التي يتحدث عنها ودموعه تكاد تتسابق على خديه شوقاً وندماً، كلما اتذكرها ابكي وادعو الله (تعالى) ان يسامحني فيقول: كان حالي كحالك مُتَضَجِّرا من ارتفاع صوت سماعات أحد الباعة المتجولين بصوت عالي وقت استراحتي حتى أخذت اسرع الى الباب كلما يمر أحد هؤلاء الذي يزعجني اكثرهم عسى ان يراني منزعجاً فيخجل ويخُفض صوت مكبرة الصوت التي تكاد تخترق اذني وتفتك برأسي.
اخذ كل ما يراني يسلم عليّ وهو مبتسم وانا غاضب، ما كنت اعرف لمَ هو مبتسم؟! حدثت هذه الحالة مرات عديدة، بينما انا اذمه في كل مرة. انقطع هذا الشاب عن مروره فجأة في شارعنا ولفترة غير قليلة، ولأن شكله مميز بسبب قصة شعره الكثيف وبنطاله الممزق المسمى (مودرن)، و(ستوتة) اصبح الكل يميزها، افتقدته لعدة ايام، لم اسمع ذلك الصوت الذي يزعجني،اخذت اراجع نفسي كثيرا، أُؤنبها، ترى هل انا السبب في قطع رزق ذلك الشاب في زقاقنا؟
فهممت بالسؤال عنه وهنا نزل الخبر كالصاعقة على قلبي عندما اتى الصوت ممن استفسرت منه بأن (صاحب الستوتة) انقطع عن العمل لتلبية نداء فتوى المرجعية للجهاد المقدس في الدفاع عن الوطن.
كم حاسبت نفسي وانا أوبخها!
كيف لي ان اقيم الناس حسب ظاهرهم؟
كم استصغرت نفسي حينها!
كم شعرت ان ذلك الشاب الذي كنت اذمه للباسه وقصة شعره هو افضل مني واشجع واكثر إيماناً واشد بأسا!!
اخذت مني هذه الحادثة الكثير الى ان اصبحت في أحد الأيام بينما اسمع صوت مكبرات المساجد تنادي بتشييع جثمان الشهيد علي (صاحب الستوتة)، هنا صعقت وانا اصرخ واقول:
عذرا ياعلي، انت اشرف مني!
عذرا ياعلي، انت اشجع مني!
عذرا ياعلي، انت تستحق الحياة التي انا لا استحقها ولذلك كان لك شرف الشهادة لتحيا حياة ابدية عند مليك مقتدر، وجلست على الأرض باكيا نادباً حظي، ارجو من الله تعالى العفو عني، لم تفارقني تلك الإبتسامة الجميلة المرسومة على وجه (عَليّ) فهي تشعرني بالخجل من نفسي، صديقي الذي يسرد القصة بينما انا ابكي وأوبخ نفسي لم فكرت بنفس الطريقة التي فكر بها صاحبي الذي لاينام من شدة الألم؟
عذرا ياصاحب الستوتة، لم يمنعك فقر حالك وظروف الحياة الصعبة التي كنت تعيشها، وكنت تقاتل من أجل توفير لقمة عيشك، لم تمنعك من اداء زيارة سيد الشهداء (عليه السلام) وختمت حياتك بالشهادة تلبية لنداء المرجعية ونحن نجلس وننّظر وكأننا مَن يصنّف الناس في ميزان الدنيا الباطل ولا نعلم ما تخفي السرائر.
عذرا ياعلي، انت من علمتني درسا قاسيا، وانت وامثالك من كانت دماؤهم تنير وتؤّمن لنا الطريق لزيارة سيد الشهداء عليه السلام.
نعم.. لا تستهزؤا بالشباب الذي ينجرف احيانا لبعض الملابس ذات القصات الغريبة، وتسريحات الشعر المبتكرة، والظهور بستايل جديد لا ينطبق مع اعرافنا وتقاليدنا التي اعتدنا عليها.
لانقول انهم على حق لاختيارهم تلك الملابس، وانما لا نتركهم للتيارات والافكار المنحرفة لتأخذ بايديهم نحو الهاوية، فهم محتاجون منا وقفة ومساندة لنرشدهم نحو الطريق الصحيح.
فهنيئا لك يا (عَليّ) وجثمانك يطوف في حضرة سيد الشهداء (عليه السلام )، فقد كنت في كل عام تسير نحو مرقده الشريف سيرا على قدميك وادخلت السرور على قلب نبينا محمد وآل محمد عليه وعليهم افضل الصلاة وأتم التسليم، وملأت قلب اعداء أهل البيت (عليهم السلام) غيظا.
فهنيئاً لك ياعلي تلك الشهادة وحشرك الله (تعالى) مع من تحب يا (عَليّ).
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat