صفحة الكاتب : كريم شلال نعمه

ملحمة الغدير... إبحار في لجج الجمال المحمدي ورسو على شواطئ علي ع
كريم شلال نعمه

لقد عرفت الشعوب هذا النوع من أنواع الشعر، فالأدب الأوربي شهد هذا النوع من الشعر الملحمي الذي كتبت به ملاحم البطولة الأولى مثل الإلياذة والأوديسة للشاعر اليوناني هوميروس. وهناك قول بأنها لعدد كبير من الشعراء، ولكن هوميروس جمع تلك الأشعار حيث كان ينشدها في جولاته على المدن اليونانية. وهناك (الإنيادة) لفيرجيل شاعر الرومان وهناك (الشاهنامة) للشاعر الفارسي الفردوسي وهناك أيضا (المهباراتا)  و(الرامايانا) عند الهنود القدماء. أما في أدبنا وتراثنا العربي فليس لدينا ملاحم على النحو الذي رأيناه عند الأمم الأخرى، ويرجع ذلك إلى أن الوزن الشعري في الشعر العربي أكثر انضباطاً، كما أن ميل العرب إلى الإيجاز يحول دون قبولهم الى الإطالة الشديدة التي تقتضيها تلك الملاحم؛ وان ظهرت بعض تلك الملاحم في القرون الوسطى باللغة الدارجة لإعجابهم بالبطولة ولحاجتهم لها، مثل (سيف بن ذي يزن، أبي زيد الهلالي (أما في العصر الحديث فهناك محاولات من بعض الشعراء لنظم ملحمة ومثال ذلك (الإلياذة الإسلامية لأحمد محرم, وهي عن سيرة الرسول ص وجهاده وصحابته).
 لقد تبدل كل شيء في عصرنا، فنحن في عصر (الانتقال الجزيئي والواقعية المجازية)، وإن الدعوة إلى دين عالمي ـ هو الإسلام ـ لا ينبغي لها إلاّ أن تواجه السحر بالسحر والشعر بالشعر! فالمجد للشعراء في الأرض والسماء! والخلود لمن قال بيتاً من الشعر! أو أذاع بيتاً من الشعر!! ولكن بضوابط تدخلت السماء في صياغتها لتنزل سورة باسم (الشعراء) ليصوغ القرآن الكريم للشاعر أسلوبه ويحدد له هدفه، بل ويوضح للمتلقي طريقه، فتنطلق الأشعار لتستقر في صدر الخصوم، وتُرتجل الأرجاز في خضمّ المعركة لتزيدها حماسة وبأساً وضراماً، وتجعلها أشد شراسة وضراوة، ثم تتولد أغراض جديدة لتضاف إلى أغراض الشعر التقليدية. وليس الشعر هكذا عند العرب وحدهم، فهو كذلك أيضاً عند الإغريق والرومان والفرس، وهو كذلك في الهند والصين واليابان، وهو الإطار الأوسع الذي بمقدوره أن يحتوي الملاحم التي أبدعتها شعوب المعمورة في الشرق والغرب، قديماً وحديثاً.
 ويستمر الشعر سلاحاً فتاكاً في ساحات الصراع، فيكون أولُ حِجَاج جاء لنصرة آل البيت النبوي (عليهم السلام) منطلقاً من لسان شاعر شاب مسيحي لبناني تمكن أن يصل الى مصافي العمالقة من الشعراء أمثال شعراء المعلقات وحتى المتنبي مرورا بالفرزدق وجرير، فيسجل الشعر بذلك دوره الريادي في الولاء، ويكون هو الصوت الوحيد الذي علا عندما خفتت كل الأصوات خشية التكميم والتعقيب والحبس والفتك والقتل، ويكون الشاعر هو أول من قال: كلا للباطل والطواغيت والمتحكمين في رقاب عباد الله الأحرار! لذا يعد الشاعر اللبناني (بولص سلامة) من أشهر الشعراء الذين وقفوا جزءاً مهماً من شعرهم على ذكر أهل البيت عليهم السلام، فتنوعت قصائده فيهم متضمنة عدة أبواب من الشعر من مديح ورثاء وغيرهما. ومعظم هذه القصائد تضمنها ديوانه "عيد الغدير" الذي اصطلح النقاد والباحثون على إطلاق إسم الملحمة عليه، وعدت قصيدته من شعر الملاحم، والملاحم هي جمع ملحمة، قال ابن منظور (والمَلْحَمة الوَقْعةُ العظيمة القتل، وقيل موضع القتال، وأَلحَمْتُ القومَ إِذا قتلتَهم حتى صاروا لحماً، وأُلحِمَ الرجلُ إِلحاماً، واستُلحِمَ اسْتِلحاماً إِذا نَشِب في الحرب فلم يَجِدْ مَخْلَصاً فكل وقعة عظيمة بين طرفين أعمل فيها السلاح في الأجساد وأثخن فيها بالجراح فهي ملحمة بالمعنى اللغوي، بغض النظر عن كونها محمودة أو مذمومة، أو كونها في جاهلية أو إسلام.
أما اصطلاحا فالملحمة في نصوص الشرع هي القتال العظيم بين المسلمين والكفار، وقتال الملاحم يختلف عن قتال الفتن، فالفتنة قتال المسلمين بعضهم، والملاحم قتالهم الكفار. وفي الحديث: (أنا محمد، وأنا أحمد، ونبي الرحمة، ونبي التوبة، والحاشر، والمقفى، ونبي الملاحم) ، قال النووي رحمه الله: (لأنه ص بعث بالقتال)، وفي ذلك مدح للملاحم في الجملة، لكون منازلاته ومعاركه ص ضد الكفر والظلم والاضطهاد جهادا في سبيل الله وسعيا لرفع كلمته، وكذلك جهاد كل من اتبع هديه واقتفى أثره إلى يوم الدين. وربّ معترض قال: ما بال هذا المسيحي يتصدّى لملحمة إسلامية بحتة؟ أجل إنه مسيحيّ، ولكن التاريخ مشاع للعالمين. مسيحيّ ينحني أمام عظمة رجل يهتف باسمه مئات الملايين من الناس، في مشارقها ومغاربها خمساً كل يوم. رجل ليس في مواليد الحوّاء أعظم منه شأناً وأبعد أثراً وأخلد ذكراً. رجل يذكره النصارى في مجالسهم فيتمثّلون بحكمه ويخشعون لتقواه، ويتمثّل به الزّهّاد في صوامعهم فيزدادون زهداً وقنوتاً، وينظر إليه المفكّر فيستضيء بهذا القطب الوضّاء، ويتطلّع إليه الكاتب الألمعي فيأتمّ ببيانه، ويعتمده الفقيه فيسترشد بأحكامه، ويقرأ الجبان سيرته فتهدر في صدره النخوة وتستهويه البطولة، إذ لم تشهد الغبراء ولم تظلّ السماء أشجع منه، وملحمة عيد الغدير هي أول ملحمة عربية وفق ما أجمع عليه معظم نقاد الأدب العربي، وهي تتناول أهم نواحي التاريخ الإسلامي من الجاهلية إلى آخر دولة بني أمية. ويشير الشاعر في تصديره لهذه الملحمة إلى أنه نظمها استجابة لاقتراح السيد عبد الحسين شرف الدين في العام 1947 وأنهاها سنة 1948. 
وإذا كان العنوان يوحي باقتصار الملحمة على حديث الغدير فالأمر ليس كذلك " فليس حديث الغدير سوى فصل من هذا الكتاب الذي مداره أهل البيت في أهم ما يتصل بهم من الجاهلية إلى ختام مأساة كربلاء" ولما عزم الشاعر على نظم هذه الملحمة، إنصرف إلى درس المراجع التاريخية، ويقول أنه قلما اعتمد مؤرخو الشيعة بل الثقات من مؤرخي السنّة قطعاً للظن والشبهات، مع تقيده بالتاريخ جهد الإستطاعة... وهذه الملحمة منظومة في أكثر من ثلاثة آلاف بيت من البحر الخفيف موزعة على سبعة وأربعين فصلاً أو قصيدة، يبدأها الشاعر بقصيدة عنوانها "صلاة" يشير فيها إلى معاناته من المرض ومنتهياً بمديح الإمام علي عليه السلام فيقول:‏ 

يا مليك الحياة أنزل عليّا‏ 

عزمةً منك تبعث الشعر حيا‏ 

واهبَ النور والندى للروابي‌‏ 

وقد اقتضاه تأليف هذا الكتاب ستة أشهر، ثلاثة منها لدراسة الموضوع تاريخياً وثلاثة للنظم، تخلّلها من الألم الممضّ الّذي يذهل البصير‌ة ـ على حدّ تعبيره ـ ولكنّه اختلس الوقت اختلاساً من الفترات الّتي يهادنه فيها الألم. فانه ظلّ أسير الفراش قرابة أربعين عاماً أجريت له خلالها ثلاث وعشرون جراحة.
فمن هذا العملاق الذي تشرف بنظم هذه الملحمة الرائعة؟ لقد ولد الشاعر في بكاسين قضاء جزين جنوب لبنان سنة 1902 ودرس في عدة مدارس، وبعد ذلك درس الحقوق في الجامعة اليسوعية ثم عمل قاضياً فترة من حياته. أُصيب بمرض أقعده الفراش قرابة أربعين عاماً أُجريت له خلالها أكثر من عشرين عملية جراحية، وتوفي عام 1979. 
ترك الشاعر بالإضافة إلى "عيد الغدير" عدة كتب نثرية منها "مذكرات جريح" و"حكاية عمر" و"الصراع في الوجود".‏ 
وملحمة عيد الغدير هي أول ملحمة عربية وفق ما أجمع عليه معظم نقاد الأدب العربي، وهي تتناول أهم نواحي التاريخ الإسلامي من الجاهلية إلى آخر دولة بني أمية، وملحمته التي دفعها إلى مطبعة النسر في بيروت وصدرت في كانون سنة 1947 ثم تكرر طبعها، ومنها طبعة أخرى سنة 1961 وطبعة أخرى سنة 1999. في ملحمته المكونة من سبع وأربعين قصيدة، تحتوي بمجملها على (3415) بيتاً طرق بولص سلامة أبواب التاريخ الإسلامي بدءا بالفترة التي سبقت ميلاد النبي الأكرم محمد ص وسلم مروراً بميلاده وانبثاق الرسالة السماوية ثم فصول التاريخ الإسلامي التي كان عليٌ عليه السلام أكبر صناعها فيصور ميلاده في بيت الله، ومرافقته لنبي السماء ونهله من روي ماء محمد وكيف صاحبه وكان أول المؤمنين به وتتفجر عبقرية بولص وهو يصور مشاهد خلدتها صفحات التاريخ وطمسها الحاقدون، أبدع في تصوير حادثة الغدير محور ملحمته وجاد بكل ما أُودع من بيان، ثم يصور تفجع الدنيا لرحيل آخر أنبياء السماء وبداية زمن الزمهرير، ويصور حال الأمة وهي تقتسم إرث السماء وعليٌ يودع محمد...
لو تخيرنا بعض مشاهد هذه الملحمة لبدأنا:
 بالصور الرائعة لبولص سلامة لأمجاد بني هاشم وعزهم أيام الجاهلية وكيف كانوا نبراساً في دنيا الجاهلية المظلمة، وفي هذه القصيدة يقول:


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


كريم شلال نعمه
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2023/07/07



كتابة تعليق لموضوع : ملحمة الغدير... إبحار في لجج الجمال المحمدي ورسو على شواطئ علي ع
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net