بحث مُستل من كتاب (بل عبادٌ مكرمون- دراسة قرآنية وحديثية في نقد الغلوّ) لكاتب المقال
بسم الله الرحمن الرحيم
تساؤلات حول وساطة الفيض
إن كان معنى واسطة الفيض هو نفس معنى ما يسمى بالصادر الأول كما يُفهم من كلام البعض فيرد عليه ما أوردناه سابقاً تحت عنوان "الولاية التكوينية المدّعاة لأهل البيت صلوات الله عليهم- ج1"، وهذا القول يستلزم نسبة العجز إلى الله تعالى لأنه لا يمكن لله سبحانه أن يخلق ويرزق إلا بوجود واسطة الفيض حسب زعمهم الذي يحبكون فيه الكلمات كي لا ينكشف هذا اللازم.
وإن كان بمعنى آخر هو أنه يمكن الخلق والرزق بلا وجود لواسطة الفيض ولكن لحكمة ما وضع الله تعالى هذا الأمر المزعوم، فحينئذ نسأل ما الحكمة وما الدليل على هذا؟ ولا نفهم ولا نستسيغ أي حكمة تُدّعى لأجل هذا ما دامت خفية ولا وجود لها في الكتاب الكريم رغم أن وساطة الفيض المدّعاة من أهم الأمور في الوجود، وقد تطرقنا فيما سبق إلى عدم وجود دليل يصمد أمام كتاب الله تعالى لو عُرض عليه.
ولو تغاضينا عن هذا وسألنا من الذي يكون واسطة للفيض بالضبط عند القائلين بهذا الأمر؟ هل هو إمام الزمان المعروف بشخصه واسمه أم هو وجوده النوري؟ فإن كان بشخصه فهذا يعني أن وساطته متوقفة على حياته، وإن كان بوجوده النوري فلا دخل للحياة في هذا، لذا فإن رسول الله صلى الله عليه وآله سيكون أحق من غيره بأن يكون واسطة للفيض في كل الأزمنة، أما الأئمة سلام الله عليهم فإما أن يكونوا وسائط طولية أخرى أو يقال إن لهم نفس نور النبي صلى الله عليه وآله، وأهل البيت جميعاً صلوات الله عليهم نور واحد، وسيخرج الأنبياء سلام الله عليهم من هذا الحكم أو يكونون وسائط طولية أيضاً. والقول بأن نور أهل البيت صلوات الله عليهم نور واحد يخالف ما يقولونه بأن أول ما خلق الله نور النبي صلى الله عليه وآله أو الحقيقة المحمدية.
وواقع الحال أن القائلين بوساطة الفيض مختلفون في تفسيراتهم. ولكن المعروف عندهم أو عند أغلبهم أن الإمام الحجة المهدي عجل الله فرجه الشريف هو واسطة الفيض في زماننا، وهذا يستلزم أن يكون الإمام بنفسه هو واسطة الفيض لا بوجوده النوري - على فرض ثبوت هذا الوجود النوري مضافاً لشخص الإمام سلام الله عليه -.
وكذا نسأل ما هي آلية عمل واسطة الفيض؟ وكيف ينقل رزق الله وكل ما يمنّ به سبحانه إلى جميع الخلائق من إنس وجن وملائكة في كل اللحظات؟ وكيف سيتحمل وجوده البشري مهمة تفوق قدرات جميع الخلائق؟ ألا ينافي هذا الصفة البشرية التي أكدها القرآن الكريم لسيد الخلق صلى الله عليه وآله فضلاً عمّن دونه؟
ثم هل لواسطة الفيض إرادة ما في التوصيل بين الله والخلق؟ وكيف تعمل هذه الإرادة؟
فإن كان واسطة الفيض مجرد واسطة ولا إرادة له في هذا فلا ميزة له حينئذ على القوانين الطبيعية التي تنظم الكون المادي، فهي لا إرادة لها وتعمل وفق ما قدّره الله لها.
وإن كان له إرادة، فإن كانت في طول إرادة الله تعالى ولا خيار لواسطة الفيض في تغيير أي شيء فما ميزته عن بعض الملائكة المناط بهم تدبير بعض الأمور؟ إلا إذا قيل إن ميزته في سعة مهمته، وهذا يرد عليه ما ذكرناه من افتقاره للدليل.
وإن كان له خيار في تغيير أو قبول أو رفض إيصال بعض الأعمال من باب التفويض الإلهي له فهنا حالتان:
الأولى: ما يتعلق بما يُسمى قوس الصعود (أي ما يصعد من الخلق إلى الله تعالى)، فإن ظاهر الآيات المذكورة آنفاً لا يعطي خياراً لأحد من الخلق في إيصال الدعاء إلى الله تعالى، وكذا باقي الآيات التي أكدت على قبول الأعمال الصادرة من العباد بلا إشارة لواسطة لا من طرف جلي ولا من طرف خفي كقوله سبحانه: {إِذْ تَستَغِيثُونَ رَبَّكُم فَاستَجابَ لَكُم أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُردِفِينَ} [سورة الأنفال: 9] وقوله تعالى: {وَقالَ رَبُّكُمُ ادعُونِي أَستَجِب لَكُم} [سورة غافر: 60] وغيرها من الآيات الكريمة.
والثانية: ما يتعلق بما يُسمى قوس النزول (أي ما ينزل من الله تعالى إلى الخلق) فهذا يحتاج لدليل على هكذا تفويض شامل، وتقدم في العنوان السابق "التفويض التكويني" عدم وجود دليل عليه. وقد بيّن القرآن الكريم تدبير الملائكة لبعض الأمور الجزئية مثل تبليغ بعضهم الوحي الإلهي للأنبياء سلام الله عليهم وتكليف بعضهم نصرة المسلمين في معركة بدر وبعضهم قبض الأرواح، ولم يبين وجود مُدبِّر لكل شيء غير الله تعالى كما في الآيات المذكورة سابقاً ولاحقاً، بل إن الله تعالى قد ذكر في آيات عديدة نقصاً ذاتياً فعلياً وليس نظرياً فقط في أشرف خلقه صلى الله عليه وآله من حيث العلم والقدرة والغنى وغيرها كما ذكرناه بعناوين مختلفة فيما سبق. وهذا النقص لا يتلاءم مع ما يُدّعى من وساطة الفيض التي يلزم أن يكون صاحبها كاملاً من كل جهة.
وقد يحاول القائلون بوساطة الفيض أن يلووا عنق النصوص نحو ما يزعمون أو أن يلجئوا للتأويلات التي لا حجة فيها على أحد بعد ما بيّناه من لزوم تحصيل اليقين في الاعتقادات. وهذا اليقين يستلزم أن يكون النص قطعي الصدور جَلِيّاً في معناه حتى تتم الحجة به، أما عروض التأويلات المختلفة عليه فسوف يجعله متعدد الاحتمالات ولا يؤدي لليقين بأي منها. ولو استشهد البعض بقول الله تعالى لسليمان سلام الله عليه: {هٰذا عَطاؤُنا فَامنُنْ أَوْ أَمسِكْ بِغَيرِ حِسابٍ} [سورة ص: 39]، فهو تسخير من الله تعالى للمخلوقات وليس تفويضاً أصلاً وفق الآيات التي سبقت الآية آنفة الذكر: {فَسَخَّرنا لَهُ الرِّيحَ تَجرِي بِأَمرِهِ رُخاءً حَيثُ أَصابَ * وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنّاءٍ وَغَوّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصفادِ} [سورة ص: 36-38]، أي إنه ليس فعل سليمان سلام الله عليه بل فعل الله سبحانه. لذا لا يصح الاستدلال به على ما يُدّعى من وساطة فيض شاملة لأهل البيت صلوات الله عليهم، ولأن القائلين بهذا في زماننا لا يعطون الأنبياء سلام الله عليهم ما يعطونه للأئمة سلام الله عليهم من ولاية ووساطة فيض وتفويض.
ولنا أن نسأل - على افتراض لزوم وجود واسطة الفيض - أين كانت هذه الواسطة في قول الله المباشر للملائكة وجوابهم كذلك كما في الآية الكريمة: {وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَرضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجعَلُ فِيها مَن يُفسِدُ فِيها وَيَسفِكُ الدِّماءَ وَنَحنُ نُسَبِّحُ بِحَمدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعلَمُ ما لا تَعلَمُونَ} [سورة البقرة: 30]؟ وأينها في مثل قوله تعالى: {وَما كانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلا وَحياً أَو مِن وَراءِ حِجابٍ أَو يُرسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [سورة الشورى: 51]؟ وأينها في مثل قوله جلّ شأنه: {فَإِذا قَضَى أَمراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [سورة غافر: 68] وقوله سبحانه: {إِنَّما أَمرُهُ إِذا أَرادَ شَيئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [سورة يس: 82]؟ وما بال القرآن المجيد الذي فيه تبيان كل شيء قد أغفل ذكر هذا الأمر الخطير جداً في عالم الوجود؟ قال تعالى: {وَنَزَّلنا عَلَيكَ الكِتابَ تِبياناً لِكُلِّ شَيءٍ وَهُدًى وَرَحمَةً وَبُشرَى لِلمُسلِمِينَ} [سورة النحل: 89].
وكذلك السنة الشريفة القطعية فإنها لم تبين وجود وساطة الفيض، بل إن كلامهم صلوات الله عليهم الذي نقطع بأنه صادر منهم على نحو التواتر المعنوي واضح الدلالة على عدم وجود هكذا أمر كما ذكرنا فيما مرّ وفيما يأتي من رواياتهم وأدعيتهم. وكمثال هو ما رواه الشيخ الصدوق عن محمد بن الفضيل قال: (لما كان في السنة التي بطش هارون بآل برمك بدأ بجعفر بن يحيى وحبس يحيى بن خالد ونزل بالبرامكة ما نزل كان أبو الحسن عليه السلام واقفاً بعرفة يدعو ثم طأطأ رأسه، فسُئل عن ذلك فقال: {إني كنت ادعو الله تعالى على البرامكة بما فعلوا بأبي عليه السلام فاستجاب الله لي اليوم فيهم}. فلما انصرف لم يلبث إلا يسيراً حتى بطش بجعفر ويحيى وتغيرت أحوالهم)[1]. ويُفهم من هذه الرواية أن الإمام الرضا سلام الله عليه كان يدعو منذ مدة إلى أن استجاب الله له، ويؤيده ما في اللفظ الآخر للرواية على ما رواه الطبري: {إني كنت أدعو على هؤلاء القوم - يعني البرامكة - منذ فعلوا بأبي ما فعلوا، فاستجاب الله لي اليوم فيهم}[2]. فلو كان الإمام سلام الله عليه واسطة للفيض وله ولاية على كل الخلق فلماذا احتاج إلى هذه المدة الطويلة من الدعاء التي تقارب ثلاث سنوات ونصف منذ استشهاد الإمام الكاظم سلام الله عليه إلى هلاك البرامكة على ما يُروى في التاريخ؟
القابلية على تلقي الفيض
إن مما يدّعيه أصحاب القول بوساطة الفيض أن الخلق ليس لهم القابلية والاستعداد على تلقي الفيض الإلهي مباشرة من الله تعالى[3]، لذا لزم أن تكون بينهم وبينه سبحانه واسطة تتحمل هذا الفيض كي توصله للخلق.
وفي جوابنا عن هذا نقول إن هذا مخالف للقرآن الكريم كما بيّنا، فهو لم يذكر أي واسطة في كل ما ذكره حول خلق الله للخلق ونزول رحمته وعطاياه وصعود دعاء وأعمال العباد إليه جلّ وعلا رغم خطورة الأمر ورغم التفصيل الذي سرده في بعضها كما في قوله تعالى: {قُل أَئِنَّكُم لَتَكفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرضَ فِي يَومَينِ وَتَجعَلُونَ لَهُ أَنداداً ذَلِكَ رَبُّ العالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِن فَوقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقواتَها فِي أَربَعَةِ أَيّامٍ سَواءً لِلسّائِلِينَ * ثُمَّ استَوَى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلأَرضِ اِئتِيا طَوعاً أَو كَرهاً قالَتا أَتَينا طائِعِينَ * فَقَضاهُنَّ سَبعَ سَماواتٍ فِي يَومَينِ وَأَوحَى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمرَها وَزَيَّنّا السَّماءَ الدُّنيا بِمَصابِيحَ وَحِفظاً ذَلِكَ تَقدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ} [سورة فصلت: 9-12]، وقال سبحانه: {أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسانُ أَنّا خَلَقناهُ مِن قَبلُ وَلَم يَكُ شَيئاً} [سورة مريم: 67]، وقال جلّ شأنه: {إِلَيهِ يَصعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصّالِحُ يَرفَعُهُ} [سورة فاطر: 10]. فأين الواسطة في الخلق وفي رفع العمل الصالح؟ ولماذا لم يذكرها سبحانه في كل آياته؟
كما إن الآيات الكريمة ببلاغتها وحسن بيانها تأبى وجود هكذا واسطة خفية، فالقرآن تبيان لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين، قال سبحانه: {وَنَزَّلنا عَلَيكَ الكِتابَ تِبياناً لِكُلِّ شَيءٍ وَهُدًى وَرَحمَةً وَبُشرَى لِلمُسلِمِينَ} [سورة النحل: 89]، فلماذا لم يهدنا الله تعالى ويرحمنا ويبشرنا بتبيان واسطة الفيض والولاية التكوينية الشاملة؟ وهو أحسن الحديث بلسان عربي مبين: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ * بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [سورة الشعراء: 192-195]. فهل كَلَّ اللسان العربي المبين - وحاشاه - عن توضيح هذا الأمر الخطير في عالم الوجود؟ وقد قال تعالى: {اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيءٍ} [سورة الزمر: 62]، لذا فبناء على مزاعم القوم فإن هذه الآية لا يُقبل ظاهرها كما هو، فالله تعالى لم يخلق كل شيء، بل لم يخلق شيئاً أصلاً سوى الصادر الأول أو الحقيقة المحمدية أو أهل البيت صلوات الله عليهم، وهم تكفلوا بخلق كل شيء فعلاً، وكأنّ الكتاب العربي المبين لا يستطيع أن يوضح هذه المسألة الجوهرية في عالم الوجود كله.
ثم ما الذي يقصدونه بعدم القابلية على تلقي الفيض مباشرة؟
فإن كان المفاض عليه مادة أو طاقة فإنه ينتهي إلى الجسيمات الأولية elementary particles، وإن كان مخلوقاً روحانياً فمصدر الروح هو من الله تعالى، قال تعالى: {فَإِذا سَوَّيتُهُ وَنَفَختُ فِيهِ مِن رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ} [سورة الحجر: 29] وقال سبحانه: {الَّذِي أَحسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلقَ الإِنسانِ مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِن ماءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُوحِهِ} [سورة السجدة: 7-9]، والنفخ هنا مباشر بلا ذكر لأي واسطة. ولو كان الفيض رزقاً مثلاً فما هي القابلية لتلقيه؟ فالرزق المادي موجود على الأرض. وإن كان إمداداً غيبياً بإلهام أو فتح بصيرة مثلاً فإن الله قادر في كل ذلك على أن يرزق من يشاء وفق حكمته سبحانه إنْ كان العطاء صغيراً أو كبيراً. قال تعالى: {كُلاً نُمِدُّ هٰؤُلاءِ وَهٰؤُلاءِ مِن عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحظُوراً} [سورة الإسراء: 20]. وهؤلاء القوم يريدون إفهامنا أن عطاء الله محظور بسبب عدم القابلية لتلقِّيه مباشرة. والنتيجة هي أنه من غير الواضح ما هو الاستعداد والقابلية لتلقي الفيض أهو المادي أم الروحي، وأمر الكل واضح كما أسلفنا ولا يلزم وجود واسطة في كل هذا.
إن تحكيم بعض المباني والأذواق الفلسفية على كتاب الله تعالى إنما هو خطر عظيم يؤدي إلى تحريف الدين. فالمُسْلم يكون مرجعه القرآن الكريم الذي لم يقصِّر في بيان ما يحتاجه العباد لامتثال طاعة الله تعالى والفوز بالجنة، قال تعالى: {ما فَرَّطنا فِي الكِتابِ مِن شَيءٍ} [سورة الأنعام: 38]، ولا نحتاج لهكذا مباني مستقاة من استحسانات الفلاسفة ومن الأمم الوثنية قبل الإسلام.
إن القول بعدم قابلية جميع الممكنات ما عدا واسطة الفيض يستلزم نسبة العجز إلى الله تعالى، فهو سبحانه - وفق هذا - خَلَق الخَلق ناقصي الاستعداد أو القابلية ولا يمكن أن يمنحهم فيضه مباشرة. ولكن الصحيح هو أنه سبحانه على كل شيء قدير ويستطيع أن يخلق ما يشاء وكيف يشاء، وهو قادر على أن يعطي كلاً حسب قابليته، قال تعالى: {وَلَو بَسَطَ الله الرِّزقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوا فِي الأَرضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [سُورَةُ الشورى: ٢٧]، وليس مجبراً أن يجعل واسطة هي التي تفيض كما تشاء، وهذا بخلاف قول أصحاب وساطة الفيض الذين يقولون بوجوب وجود هذه الواسطة، ويتركون كتاب الله وراءهم ظهرياً. قال تعالى: {وَقَد آتَيناكَ مِن لَدُنّا ذِكراً * مَن أَعرَضَ عَنهُ فَإِنَّهُ يَحمِلُ يَومَ القِيامَةِ وِزراً * خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُم يَومَ القِيامَةِ حِملاً} [سورة طه: 99-101].
إن القول بعدم القابلية على تلقي الفيض الإلهي يستدلّون به أيضاً على الولاية التكوينية الشاملة للمعصوم، وهذا يناقض القرآن المجيد كما في الآية الكريمة: {قالَ يا إِبلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسجُدَ لِما خَلَقتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص: 75]، فأين الواسطة في خلق آدم سلام الله عليه والله يقول {خَلَقتُ بِيَدَيَّ}؟ كما إن أصل القول بوساطة الفيض ناشئ أو متزامن مع قاعدة (الواحد لا يصدر منه إلا واحد) الحاكمة عندهم على القرآن الكريم وكل الدِّين، نستجير بالله تبارك وتعالى.
ومن الجدير بالذكر أنه من غير المستحيل - من الناحية الوجودية - أن يجعل الله تعالى واسطة للفيض، فهو سبحانه على كل شيء قدير وبيده مقاليد السماوات والأرض، ولكن الأدلة القرآنية والروائية تمنع الوجود الفعلي لهذه الواسطة، إضافة إلى لوازمها التي تضر بعقيدة التوحيد.
وكما ذكرنا تحت عنوان "الخلط بين الوساطتين التشريعية والتكوينية" قول مَن خلَط في هذا فإن كلامه يصبّ أيضاً في مسألة عدم القابلية لتلقي الفيض، وهذا ما أكدّه غيره كذلك مستشهداً بمسألة وجه الحاجة للأنبياء سلام الله عليهم وأنه لا يمكن أن يتصل الله تعالى بالبشر مباشرة وعدم تحمل جميع البشر للوحي الإلهي[4]، فعدم قابلية الناس لتلقي الوحي الإلهي لا يعني عدم قابليتهم لتلقي كل شيء، لأن الوحي ثقيل لا يتحمله أيٌ كان، قال تعالى: {إِنّا سَنُلقِي عَلَيكَ قَولاً ثَقِيلاً} [سورة المزمل: 5]، بينما يمكن تلقي وتحمل بقية الفيوضات الإلهية. واستدل القائل برواية تدل على الوساطة التشريعية لا التكوينية، وهي ما عن الصادق سلام الله عليه أنه قال لِلزِّندِيقِ الَّذِي سَأَلَه مِن أَينَ أَثبَتَّ الأَنبِياءَ والرُّسُلَ؟ قالَ: {إِنّا لَمّا أَثبَتنا أَنَّ لَنا خالِقاً صانِعاً مُتَعالِياً عَنّا وعَن جَمِيعِ ما خَلَقَ، وكانَ ذٰلِكَ الصّانِعُ حَكِيماً مُتَعالِياً، لَم يَجُز أَن يُشاهِدَه خَلقُه ولا يُلامِسُوه فَيُباشِرَهُم ويُباشِرُوه ويُحاجَّهُم ويُحاجُّوه، ثَبَتَ أَنَّ لَه سُفَراءَ فِي خَلقِه يُعَبِّرُونَ عَنه إِلَى خَلقِه وعِبادِه، ويَدُلُّونَهُم عَلَى مَصالِحِهِم ومَنافِعِهِم وما بِه بَقاؤُهُم وفِي تَركِه فَناؤُهُم}[5]. فجواب الإمام سلام الله عليه في ذيل الرواية كان منصبّاً على الجانب التبليغي والتشريعي.
شواهد قرآنية على نفي وساطة الفيض
من المعروف أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله كان يتلقى القرآن الكريم بالوحي الإلهي عن طريق جبريل سلام الله عليه، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ * بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [سورة الشعراء: 192-195]. ولكن المفروض وفق القول بوساطة الفيض أن جبريل سلام الله عليه لا قابلية له على تلقي القرآن المجيد مباشرة من الله تعالى، بل لا بد أن يتلقاه من واسطة الفيض الذي هو النبي صلى الله عليه وآله. لذلك كيف نفهم تلقي النبي الأكرم صلى الله عليه وآله للوحي إذا كان هو نفسه من أنزله على جبريل؟ وما الداعي لنزول الوحي أصلاً إن كان الموحَى إليه هو واسطة الفيض الذي لا يحتاج لواسطة بينه وبين الله تعالى؟ وهل سيتلاءم هذا مع الآية الكريمة: {وَما كانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلا وَحياً أَو مِن وَراءِ حِجابٍ أَو يُرسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [سورة الشورى: 51]؟
إن العديد من الآيات الشريفة غير ما ذكرناه تدلّ بوضوح على نفي وساطة الفيض مثلما في قصة إبراهيم سلام الله عليه مع ضيوفه: {وَلَقَد جاءَت رُسُلُنا إِبراهِيمَ بِالبُشرَى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجلٍ حَنِيذٍ * فَلَمّا رَأَى أَيدِيَهُم لا تَصِلُ إِلَيهِ نَكِرَهُم وَأَوجَسَ مِنهُم خِيفَةً قالُوا لا تَخَف إِنّا أُرسِلنا إِلَى قَومِ لُوطٍ * وَامرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَت فَبَشَّرناها بِإِسحاقَ وَمِن وَراءِ إِسحاقَ يَعقُوبَ * قالَت يا وَيلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذا بَعلِي شَيخاً إِنَّ هَذا لَشَيءٌ عَجِيبٌ * قالُوا أَتَعجَبِينَ مِن أَمرِ اللهِ رَحمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيكُم أَهلَ البَيتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ * فَلَمّا ذَهَبَ عَن إِبراهِيمَ الرَّوعُ وَجاءَتهُ البُشرَى يُجادِلُنا فِي قَومِ لُوطٍ * إِنَّ إِبراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوّاهٌ مُنِيبٌ * يا إِبراهِيمُ أَعرِضْ عَن هَذا إِنَّهُ قَد جاءَ أَمرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُم آتِيهِم عَذابٌ غَيرُ مَردُودٍ} [سورة هود ع: 69-76]، فالمعروف أن إبراهيم سلام الله عليه كان هو الحجة في زمانه، أي المفروض إنه هو واسطة الفيض، والملائكة قد تلّقت الأوامر الإلهية عن طريقه، ولكن القرآن المجيد ينبئنا أنه ليس فقط لم يكن يعلم مَن هم ضيوفه وبما جاءوا به من أمر، بل أوجس منهم خيفة، ثم يجادلهم ويأتيه الأمر بأن يعرض عن هذا.
وكذلك الأمر ما في قصة موسى سلام الله عليه والعبد الصالح، فموسى من الأنبياء أولي العزم، أي إنه الحجة في زمانه. لكننا نرى في هذه القصة نسيانه للحوت وعدم علمه بعدة أمور يعلمها غيره (أي العبد الصالح) وعدم استطاعته الصبر أيضاً. والمفروض أنه هو الواسطة في نزول هذا العلم على العبد الصالح. وقد روي عن الإمام الصادق سلام الله عليه: {وإن موسى لما كلمه الله تكليماً، وأنزل عليه التوراة وكتب له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء، وجعل آيته في يده وعصاه وفي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وفلق البحر وغرق الله عزّ وجلّ فرعون وجنوده وعملت البشرية فيه حتى قال في نفسه: ما أرى ان الله عزّ وجلّ خلق خلقاً أعلم مني، فأوحى الله عزّ وجلّ إلى جبرئيل: يا جبرئيل أدرك عبدي موسى قبل أن يهلك، وقل له إن عند ملتقى البحرين رجلاً عابداً فاتَّبعه وتعلّم منه، فهبط جبرئيل على موسى بما أمره به ربه عزّ وجلّ فعلم موسى أن ذلك لما حدّثت به نفسه، فمضى هو وفتاه يوشع بن نون عليه السلام حتى انتهيا إلى ملتقى البحرين فوجدا هناك الخضر عليه السلام يعبد الله عزّ وجلّ}[6]. ونفس الإشكال يرد على عدم علم يعقوب سلام الله عليه بأمر يوسف سلام الله عليه حيث كان يعقوب هو الحجة في زمانه كما عن الباقر سلام الله عليه: {كان يعقوب الحجة وكان الملك ليوسف}[7] وغير هذا من الشواهد القرآنية.
ولو قال القوم بأن الأنبياء سلام الله عليهم لم يكونوا وسائط فيض سوى خاتمهم صلى الله عليه وآله، قلنا إن ما ذكرناه من آيات عديدة تدل على عدم إحاطته صلى الله عليه وآله علماً بكل شيء كفاية لمن تدّبر فيها.
هل كان علماؤنا الأوائل يعتقدون بوساطة الفيض؟
إن علمائنا الأوائل الّذين أبدعوا في حفظ تراث أهل البيت صلوات الله عليهم وألّفوا في ذكر عقائدهم والدفاع عنها ووضعوا أسساً متينة لمن أتى بعدهم لم يكونوا يدينون بهكذا أفكار ولم يذكروا هكذا صفات لأهل البيت صلوات الله عليهم ولم يذكروا مصطلح "واسطة الفيض" أصلاً، وإنما هو مصطلح صوفي تسلل إلينا مع الأسف. وكان اعتقاد علمائنا معتدلاً بدون غلو، وعندهم تحسس واضح من الغلاة، وقد ذكرنا بعض أقوالهم تحت عنوان "دعوى علم أهل البيت صلوات الله عليهم بكل شيء". أما ما ادّعاه البعض بأنه لم يعثر على من ينكر الوساطة في الفيض ممّن يُعتدّ بقوله من علمائنا، ثم لم يذكر أحداً ممن عدّدهم قال بها قبل القرن الرابع عشر الهجري لهو نوع تدليس على القرّاء[8].
وقد قال السيد المرتضى المتوفى سنة 413 ﻫ: (فأما ما حكاه عن بعضهم من أنه "لولا الإمام لما قامت السماوات والأرض ولا صح من العبد الفعل". فليس نعرفه قولاً لأحد من الإمامية تقدم ولا تأخر، اللهم إلا أن يريد ما تقدم حكايته من قول الغلاة)[9].
ومن المعاصرين ذكر الشيخ السبحاني: (ولو زعموا أن النبي والأئمة من جملة الأسباب لخلق العالم وتدبيره، وأن الفاعل الحقيقي والسبب الواقعي هو الله سبحانه، وهو لم يعتزل بعد، وإنما جعلهم في مرتبة الأسباب والعلل، فهذا القول وإن كان لا يوجب الشرك، لكنه غير صحيح، فان النبي والأئمة عليهم السلام ليسوا من أسباب الخلقة، بل هم يستفيدون من تلك الأسباب الطبيعية وتتوقف حياتهم على وجود العلل والأسباب المادية، فكيف يكونون في مرتبة العلل والأسباب؟ فالنبي والامام يستنشقان الهواء، ويسدان جوعهما بالطعام، ويداويان بالأدوية إلى غير ذلك من الأمور التي يتصف بها كل الناس. نعم إن للعالم الإمكاني ظاهره وباطنه، دنياه وأخراه مدبراً ومدبرات يدبرون الكون بأمره سبحانه كما ينبئ عنه قوله تعالى: {فَالمُدَبِّراتِ أَمراً} [النازعات: 5]. وقال سبحانه: {لا يَعصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُم وَيَفعَلُونَ ما يُؤمَرُونَ} [التحريم: 6]. وقال الصادق عليه السلام: {أَبَى اللهُ أَنْ يُجرِيَ الأَشياءَ إِلا بِأَسبابٍ، فَجَعَلَ لِكُلِّ شَيءٍ سَبَباً، وجَعَلَ لِكُلِّ سَبَبٍ شَرحاً، وجَعَلَ لِكُلِّ شَرحٍ عِلماً، وجَعَلَ لِكُلِّ عِلمٍ باباً ناطِقاً، عَرَفَه مَن عَرَفَه وجَهِلَه مَن جَهِلَه، ذاكَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله ونَحنُ}. ومع هذا الاعتراف فليس النبي والامام من أسباب الخلق والتدبير، وإنما هم وسائط بين الخالق والخلق في إبلاغ الاحكام وإرشاد العباد، وسائر الفيوض المعنوية من الهداية الظاهرية والباطنية)[10].
وحول أصل القول بوساطة الفيض ننقل النص التالي: (ولا يخفى أنّ نظريّة الفيض وفق نظام الوسائط تعود في جذورها إلى الفكر اليوناني، الذي رأى أنّ الصادر الأول هو العقل، وحصر العقول بعشرة، قال الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء "وهو من المدافعين عن النظرية": وذهب المشَّاؤون - وهم طائفة من الحكماء ورئيسهم المعلم الأول أرسطو - إلى حصر العقول الكليّة في العشرة، وليس المراد الكلّي المفهومي بل الكلي الوجودي ويسمونه على اصطلاح الحكماء برب النوع")[11].
وقال الشيخ البلاغي: (وكم جنى اتباع الفلسفة اليونانية بشطحات المتفلسفين والمتصوفين بمزاعم العرفان وجرّ على الحقائق ويلات عبثت بتوحيد بعض الناس لله في الإلهية وشؤونها وردتهم على أعقابهم من حيث لا يشعرون. أوليس من نحو ذلك خرافات المظاهر وأن الله سبحانه وتعالى لا يدرك من نحو ذاته بكل اعتبار إلى غير ذلك من الكلمات وهلم الخطب في مسألة العقول العشرة والعقل الفعال فإنها لم تُبق لله الواجب بالذات شيئاً مما تمجد به في القرآن الكريم من خلقه لكل مخلوق وعلمه وارادته ومشيئته وحكمته واعماله بل جعلته لغيره من مخلوقاته)[12].
[1]) عيون أخبار الرضا ع، ج 2، ص 245.
[2]) دلائل الامامة، ص 374.
[3]) الولاية التكوينية بين القرآن والبرهان، ص 86، والولاية التكوينية لآل محمد عليهم السلام، ص ٨٨.
[4]) الولاية التكوينية بين القرآن والبرهان، ص 88.
[5]) الكافي، ج 1، ص 168.
[6]) علل الشرائع، ج 1، ص 60.
[7]) تفسير العياشي، ج 2، ص 198.
[8]) الولاية التكوينية بين القرآن والبرهان، ص 83.
[9]) الشافي في الامامة، ج 1، ص 42.
[10]) كليات في علم الرجال، ص 420.
[11]) الشيعة والغلو، ص 424.
[12]) آلاء الرحمن في تفسير القرآن، ج 2، ص 136.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat