بحث مُستل من كتاب (بل عبادٌ مكرمون- دراسة قرآنية وحديثية في نقد الغلوّ) لكاتب المقال
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله جلّ جلاله:
- {قالَ يا إِبلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسجُدَ لِما خَلَقتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص: 75]،
- {بَدِيعُ السَّماواتِ وَالأَرضِ وَإِذا قَضَى أَمراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [سورة البقرة: 117]،
- {إِنَّما قَولُنا لِشَيءٍ إِذا أَرَدناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [سورة النحل: 40]،
- {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزقاً لَكُم فَلا تَجعَلُوا للهِ أَنداداً وَأَنتُم تَعلَمُونَ} [سورة البقرة: 22]،
- {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُم مِنهُ شَرابٌ وَمِنهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرعَ وَالزَّيتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعنابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَومٍ يَعقِلُونَ * وَما ذَرَأَ لَكُم فِي الأَرضِ مُختَلِفاً أَلوانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَومٍ يَذَّكَّرُونَ * وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ البَحرَ لِتَأكُلُوا مِنهُ لَحماً طَرِيّاً وَتَستَخرِجُوا مِنهُ حِليَةً تَلبَسُونَها وَتَرَى الفُلكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبتَغُوا مِن فَضلِهِ وَلَعَلَّكُم تَشكُرُونَ * وَأَلقَى فِي الأَرضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُم وَأَنهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُم تَهتَدُونَ * وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجمِ هُم يَهتَدُونَ * أَفَمَن يَخلُقُ كَمَن لا يَخلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [سورة النحل: 10-17]،
- {قُل مَن يَرزُقُكُم مِنَ السَّماءِ وَالأَرضِ أَمَّن يَملِكُ السَّمعَ وَالأَبصارَ وَمَن يُخرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُل أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس ع: 31]،
- {إِنَّ فِي خَلقِ السَّماواتِ وَالأَرضِ وَاختِلافِ اللَّيلِ وَالنَّهارِ وَالفُلكِ الَّتِي تَجرِي فِي البَحرِ بِما يَنفَعُ النّاسَ وَما أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِن ماءٍ فَأَحيا بِهِ الأَرضَ بَعدَ مَوتِها وَبَثَّ فِيها مِن كُلِّ دابَّةٍ وَتَصرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ المُسَخَّرِ بَينَ السَّماءِ وَالأَرضِ لآياتٍ لِقَومٍ يَعقِلُونَ} [البقرة: 164]،
- {يا أَيُّها النّاسُ اذكُرُوا نِعمَةَ اللهِ عَلَيكُم هَل مِن خالِقٍ غَيرُ اللهِ يَرزُقُكُم مِنَ السَّماءِ وَالأَرضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤفَكُونَ} [سورة فاطر: 3]،
- {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنهُم أَحسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئاتِهِم فِي أَصحابِ الجَنَّةِ وَعدَ الصِّدقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ} [سورة الأحقاف: 16]،
- {إِلَيهِ يَصعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصّالِحُ يَرفَعُهُ} [سورة فاطر: 10]،
- {وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ فَليَستَجِيبُوا لِي وَليُؤمِنُوا بِي لَعَلَّهُم يَرشُدُونَ} [سورة البقرة: 186]،
- {وَقالَ رَبُّكُمُ ادعُونِي أَستَجِب لَكُم} [سورة غافر: 60]،
- {ادعُوا رَبَّكُم تَضَرُّعاً وَخُفيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُعتَدِينَ * وَلا تُفسِدُوا فِي الأَرضِ بَعدَ إِصلاحِها وَادعُوهُ خَوفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحسِنِينَ} [سورة الأعراف: 55-56]،
- {أَمَّنْ يُجِيبُ المُضطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكشِفُ السُّوءَ وَيَجعَلُكُم خُلَفاءَ الأَرضِ أَءِلٰهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ} [سورة النمل: 62].
المقصود بوساطة الفيض هو أنه لا يصل شيء من الله تعالى إلى الخلق كالرزق وغيره إلا عن طريق إمام الزمان سلام الله عليه الذي يقول عنه بعضهم بأنه "قُطب عالم الإمكان"، بل يعتبر البعض أن وجود الممكنات نفسه فيض يحتاج لواسطة، أي إن الله لم يخلق كل الموجودات مباشرة بل بواسطة هي واسطة الفيض، وهذا يستلزم أن يكون الواسطة عالماً بكل شيء في عالم الإمكان لأن كل شيء يمر من خلاله، بل إن وساطة الفيض ليست إلا تعبيراً ثانياً عن فكرة الصادر الأول الخطيرة كما يتضح من النص التالي في شرح معنى الفيض: (والمراد منه: العطاء الإلهي، وهو يصدق على جميع ما سوى الله تعالى، إذ أن كل شيء سواه "تعالى" ممكن بالذات، لانحصار الوجوب بالذات به "تعالى شأنه")[1]، ثم يقول الكاتب في شرح معنى الواسطة في الفيض: (ويراد بها: الموجود الذي لا يصل الفيض إلى بقية الموجودات الإمكانية إلا بواسطته)، ثم يقول بأن الواسطة في الفيض منحصرة بمحمد وآله صلوات الله عليه وعليهم. بينما ذَكر غيرُه عن الأنبياء سلام الله عليهم: (مع أنّهم في حقيقة الأمر كلّهم وسائط الفيض الإلهيّ وسفراء الله تعالى)[2].
ويضيف البعض بأنه لا يرتفع شيء من أعمال الخلائق إلى الله سبحانه كالدعاء وغيره إلا عن طريق الإمام سلام الله عليه أيضاً. ووساطة الفيض هذه تعني أن للواسطة دوراً تكوينياً يشمل كل الخَلق.
لو تدبرنا في الآيات المذكورة آنفاً وفي غيرها من آيات الذكر الحكيم لم نجد أي دليل قرآني على هذه المزاعم، وإن ما ذُكر في القرآن المجيد من خلق الله سبحانه لكل شيء ورزقه وباقي عطاياه للمخلوقات لم يُلحظ فيه أي واسطة بالمعنى الذي يذكره أصحاب القول بوساطة الفيض، وكذا قبول أعمال العباد والأدعية المذكورة في القرآن وكيفية استجابتها من الله تعالى. ولسان الآيات المذكورة أعلاه يأبى وجود هكذا وساطة إلا بتكلّف تَجلُّ بلاغة القرآن وفصاحته عنه. فالآيات التي تحدثت عن الخلق وعن الرزق لم تذكر خالقاً ورازقاً غير الله تعالى ولا أن الخلق قد حدث بواسطة كائن عاقل غير الله تعالى.
ولو كان الأمر كما يقولون بوجود واسطة الفيض في كل شيء بين الله وعباده لما تمت حجة الله في العديد من الآيات حينما يحتج سبحانه بخلقه للخلق ورزقه لهم كما في قوله سبحانه: {يا أَيُّها النَّاسُ اذكُرُوا نِعمَةَ اللهِ عَلَيكُم هَل مِن خالِقٍ غَيرُ اللهِ يَرزُقُكُم مِنَ السَّماءِ وَالأَرضِ لا إِلهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤفَكُونَ} [سورة فاطر: 3]. بمعنى آخر: لو آمن الناس بما يقوله أصحاب القول بوساطة الفيض وأن الله تعالى لم يخلق ولم يرزق مباشرة لما كانت حجة الله بالغة على العباد كما قال تعالى: {قُل فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ} [سورة الأنعام: 149]، لأن الناس سوف لن يروا قدرة الله لأنها محجوبة عنهم بمن هو واسطة للفيض. وما يرونه هو قدرة الواسطة فحسب، وسيعسر بيان أن هذا واسطة ويوجد وراءه خالق قدير. وفي الحقيقة حتى هذه القدرة المطلقة لله تعالى غير واضحة حينئذ، لأن كل شيء في الكون إنما يجري عن طريق الواسطة كما يزعم غلاة زماننا.
لم تُشر الآيات التي تكلمت عن قبول الأعمال واستجابة الدعاء إلى واسطة تكوينية بين العبد وربه، فهو سبحانه ليس بعيداً حتى نحتاج لواسطة توصل أعمالنا ودعائنا له، وهو الذي يتقبل الأعمال وليس غيره، قال تعالى:
- {أَلَم يَعلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقبَلُ التَّوبَةَ عَن عِبادِهِ وَيَأخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ} [سورة التوبة: 104]،
- {وَهُوَ الَّذِي يَقبَلُ التَّوبَةَ عَن عِبادِهِ وَيَعفُو عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعلَمُ ما تَفعَلُونَ * وَيَستَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ وَيَزِيدُهُم مِن فَضلِهِ وَالكافِرُونَ لَهُم عَذابٌ شَدِيدٌ} [سورة الشورى: 25-26]،
- {إِلّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيهِم وَأَنَا التَّوّابُ الرَّحِيمُ} [سورة البقرة: 160]،
- {قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمتُ نَفسِي فَاغفِر لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} [سورة القصص: 16]،
- {فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ} [سورة آل عمران: 37]،
- {إِلَيهِ يَصعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصّالِحُ يَرفَعُهُ} [سورة فاطر: 10].
وفيما يتعلق بالأدعية فالله سبحانه قريب يجيب دعوة الداعي، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد، قال جلّ شأنه: {وَلَقَد خَلَقنا الإِنسانَ وَنَعلَمُ ما تُوَسوِسُ بِهِ نَفسُهُ وَنَحنُ أَقرَبُ إِلَيهِ مِن حَبلِ الوَرِيدِ} [سورة ق: 16]، وإن جميع الأدعية المذكورة في القرآن الكريم ليس فيها ذكر لأي واسطة بين العبد وربه سبحانه وتعالى، سواء كانت هي الأدعية الواقعة فعلاً كأدعية الأنبياء[3] سلام الله عليهم وغيرهم، أو الأدعية التي أمر الله بها كقوله تعالى: {فَادعُوا اللهَ مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَو كَرِهَ الكافِرُونَ} [سورة غافر: 14] وقوله سبحانه: {ادعُوا رَبَّكُم تَضَرُّعاً وَخُفيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُعتَدِينَ} [سورة الأعراف: 55]. فيا تُرى لو كان لواسطة الفيض وجود فلماذا غفل عنها جميع الأنبياء سلام الله عليهم؟ ولماذا لم يُبينها القرآن الحكيم كي نسلك سبيل الهداية بالإيمان بها وجعلِها واسطة بيننا وبين الله تعالى؟ ألا يأمرنا سبحانه باتباع أحسن القول: {فَبَشِّر عِبادِ * الَّذِينَ يَستَمِعُونَ القَولَ فَيَتَّبِعُونَ أَحسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُم أُولُو الأَلبابِ} [سورة الزمر: 17-18]؟
ولو قيل بأن الدعاء المباشر بلا واسطة لا ينافي وجودها قلنا إن هذا غير واضح ويفتقر إلى الدليل القطعي، أي كيف نقول "يا ألله يا أرحم الراحمين" ثم لا يصل الدعاء إليه سبحانه إلا عبر غيره؟ هل إن الله بعيد وهذا الغير أقرب منه إلينا ولا يصل الدعاء له إلا بهذا الغير؟ أليس هو سبحانه أقرب إلينا جميعاً (وليس للمعصومين فقط) من حبل الوريد؟ وهل هناك مانع يمنع استماع الله السميع العليم لدعاء عباده؟ أليس هذا القول يستلزم نسبة العجز لله جلّت قدرته؟ ثم أي معنى يبقى حينئذ للقرب في قوله سبحانه: {وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ}؟ وعلى زعمهم ينبغي أن يكون الجواب إذا سأل العباد عن الله تعالى فإنه قريب عبر واسطة الفيض لا أنه قريب مطلقاً، أو إنه قريب لواسطة الفيض فقط وليس لكل العباد.
ثم كيف ينسجم هذا مع ما ورد من أدعية الأئمة سلام الله عليهم كما في ملحق دعاء الإمام الحسين سلام الله عليه في يوم عرفة: {وَمَتى بَعُدتَ حَتّى تَكُونَ الآثارُ هِيَ الَّتي تُوصِلُ اِلَيكَ}. فهذا القول لا يتلاءم أبداً مع ادعاء وساطة الفيض.
إن قولنا آنفاً لا يعني أننا ننكر ما ورد في بعض الأدعية الواردة عن الأئمة سلام الله عليهم من توسل إلى الله تعالى أو استعطاف لرحمته وفضله بمثل قول "بمحمد وآله" أو "بحق محمد وآله" صلى الله عليه وعليهم وما شابه، فهذا له معنى مقبول غير وساطة الفيض المزعومة، ويمكن أن يقوله الداعي أو لا يقوله، وأكثر الأدعية الواردة عن الأئمة سلام الله عليهم سواء الخاصة بهم أو التي علّموها لأصحابهم لا يوجد فيها هذا التوسل أو الاستعطاف، وإنما ورد فيها بعدد قليل نسبة لعموم أدعيتهم. لذا فجَعلُ جميع الأدعية مقرونةً بالتوسل ليس نهج القرآن الكريم ولا أهل البيت صلوات الله عليهم.
لو قُرنت جميع الأدعية بالتوسل فهذا يجعل الناس يظنون بوجوبه أو يحسبون أن الله لا يستجيب لأحد إلا بالتوسل، وهذا لا يتلاءم مع الآيات الكريمة التي أمرت بالدعاء بلا وضع لقيدِ كالتوسل. ومن أجاد الاستماع إلى كلام المعتقدين بوساطة الفيض والولاية التكوينية ومن تأثر بهم سيجد أنهم لا يكادون يذكرون الله وحده. وأصبحت القاعدة في الدعاء عندهم هي التوسل بأهل البيت صلوات الله عليهم أو بأحدهم أو بأحد أبنائهم، وكأنّ دعائهم لا يستجاب إلا بالتوسل ولا يمكن أن يصل إلى الله سبحانه إلا عن طريق أحد الأولياء. وهذا التعوّد على الدعاء بالتوسل (وليس ذكره أحياناً الذي ورد في بعض الروايات كما قلنا) يمكن أن يؤثر على عقيدة الإنسان، فيعتقد - ولو في مرحلة اللا شعور - أن أهل البيت صلوات الله عليهم هم أقرب إليه من الله تعالى، لأنه سبحانه وفق هذا لا يستجيب لعباده مباشرة إلا بواسطة بينه وبينهم بخلاف ما ذكره في كتابه الكريم بأنه قريب بلا ذكر لأي واسطة. فالنتيجة - حسب هذا - أن الواسطة ستكون أقرب إلى الناس من ربهم سبحانه وتعالى، وهذا خلاف ما يلزم الاعتقاد به لكل مسلم.
الدعاء المباشر لغير الله تعالى
من عادة البشر إذا تطرّفوا فإنهم لا يقفون عند حد قريب في التطرف. ولهذا فإن كثيراً من الناس أصبحوا لا يدعون الله بحق أولياءه فحسب، بل أخذوا يدعون الأولياء مباشرة بلا ذكر لله تعالى، لاعتقادهم أن الولي قادر على نصرتهم وإغاثتهم بسبب ما يملك من ولاية تكوينية وتفويض. وربما لا يسمون دعائهم هذا دعاءً بل يقولون إنه طلب وتوسل واستغاثة وغير هذا من التعابير. ولكن تغيير الاسم لا يغير شيئاً في الواقع لأنه في كل الأحوال سؤال وطلب من الداني إلى العالي في ظهر الغيب كي يحقق له العالي ما يريد.
ولو قالوا إنهم إنما يدعون أو ينادون الولي مباشرة لأنه مأذون من الله تعالى بإغاثتهم فهذا - لو حدث قليلاً - لأمكن تفهمه رغم عدم قناعتنا به بسبب أمر الله لنا بدعائه هو سبحانه: {وَقالَ رَبُّكُمُ ادعُونِي أَستَجِب لَكُم} [سورة غافر: 60] و {ادعُوا رَبَّكُم تَضَرُّعاً وَخُفيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُعتَدِينَ} [سورة الأعراف: 55]، والقرآن يهدي للتي هي أقوم، ولعدم ثبوت هذه الوظيفة التكوينية للولي. ولكن إذا أصبح عادة فإنه مخالف بوضوح لما جاء في الكتاب والسنة ويمثل نوع استغناء عن الله تعالى، لأنه سيؤول إلى اتكال على الولي واستعانة به دائماً بحجة مأذونيته من الله سبحانه. وبمرور الوقت سيُنسَى الله جلّ شأنه ويصبح الاتكال والاستعانة حقيقيين بالولي دون الله سبحانه، لأن مقتضى طبيعة الإنسان هي أنه يأتلف ويأنس أكثر بمن يلهج به لسانه ويستحضره قلبه دائماً وينسى الغير أو يقل ذكره له، والغير هنا هو الله جلّ وعلا. لذا تجد الكثير من الناس يعتقدون أن الطبيب هو من يشفيهم عندما يصف لهم العلاج وينسون الله جلّ ذِكره لاستئناسهم بعالم المادة ونسيانهم المسبب الحقيقي للأمور.
كما إن الدعاء المباشر لغير الله تعالى قد وفّر الذريعة لأعداء التشيع بتحليل دماءنا بحجة أن الشيعة مشركون يدعون غير الله سبحانه، ولا ينفع أي تبرير مع هؤلاء المكفِّرين. لذا فالتمسك بهذا النهج غير المنسجم مع القرآن المجيد وسيرة أهل البيت صلوات الله عليهم إنما هو نهج خطير يضر بالمذهب وأفراد المذهب عقائدياً واجتماعياً ويشكل خطراً على حياتهم ولا نفع فيه.
هذا وقد ورد ما ينافي صحة هكذا فعل كما في دعاء عرفة للإمام الحسين سلام الله عليه: {لَيسَ كَمِثلِكَ مَسؤولٌ، وَلا سِواكَ مَأمُولٌ} وما في دعاء أبي حمزة الثمالي عن الإمام السجاد سلام الله عليه: {وَالحَمدُ للهِ الَّذي اُناديهِ كُلَّما شِئتُ لِحاجَتي، وَأَخلُو بِهِ حَيثُ شِئتُ لِسِرِّي بِغَيرِ شَفيعٍ فَيَقضي لي حاجَتي، الحَمدُ للهِ الَّذي لا أَدعُو غَيرَهُ وَلَو دَعَوتُ غَيرَهُ لَم يَستَجِب لي دُعائي، وَالحَمدُ للهِ الَّذي لا أَرجُو غَيرَهُ وَلَو رَجَوتُ غَيرَهُ لأخلَفَ رَجائي} و {يا مَفزَعي عِندَ كُربَتي، وَيا غَوثي عِندَ شِدَّتي، اِلَيكَ فَزِعتُ وَبِكَ استَغَثتُ وَبك لُذتُ، لا أَلُوذُ بِسِواكَ وَلا أَطلُبُ الفَرَجَ إلا مِنكَ، فَأَغِثني وَفَرِّج عَنّي}. ولو قال البعض بأن الإمام هو واسطة الفيض ولا يحتاج لواسطة، ولذلك يحق له أن يقول هكذا، قلنا لو كان الأمر كما يقولون بأن هذا خاص بالإمام سلام الله عليه لم يصح للمؤمنين أن يدعوا بهذه الأدعية بعد أئمتهم أبداً. وهذا خلاف السيرة المتوارثة منذ عصر الأئمة سلام الله عليهم، مما يكشف بطلان هذا الكلام. وهذا يُضاف إلى ما أوردناه سابقاً حول ادعاء قدرة الإمام سلام الله عليه على كل شيء، ومع هذه القدرة لا يمكن تفهم كلمات هذا الدعاء التي تعني فقراً وحاجة فعليين.
لو آمن شخص بوساطة الفيض حُقّ له أن يسأل الواسطة مباشرة ولا يسأل الله تعالى، لأن هذا جارٍ فيما تعوده الناس في دنياهم. فمثلاً حين يسألون مسؤولاً له صلاحيات واسعة فإنما يسألونه مباشرة ولا يحتاجون لأن يُذَكِّروه بأنه مخول من قبل رئيس الدولة مثلاً أو من قبل القانون. وهذا الدعاء المباشر لغير الله سبحانه واقع فعلاً بكثرة، وقد نظّر له البعض وقال به بعض المنبريين كما في بعض التسجيلات المرئية المنشورة على موقع "يوتيوب"، لأنه حسب زعمهم فإن واسطة الفيض الذي هو الإمام المعصوم سلام الله عليه لم يمتلك صلاحية وساطة الفيض فحسب بل له ولاية تكوينية على كل الخلق ومفوّض من الله تعالى تفويضاً كونياً واسعاً.
قال الله تبارك وتعالى:
- {فَادعُوا اللهَ مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَو كَرِهَ الكافِرُونَ} [سورة غافر: 14]،
- {إِنَّ الَّذِينَ تَدعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمثالُكُم فَادعُوهُم فَليَستَجِيبُوا لَكُم إِن كُنتُم صادِقِينَ} [سورة الأعراف: 194]،
- {إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصّالِحِينَ * وَالَّذِينَ تَدعُونَ مِن دُونِهِ لا يَستَطِيعُونَ نَصرَكُم وَلا أَنفُسَهُم يَنصُرُونَ} [سورة الأعراف: 196-197]،
- {قُلِ ادعُوا الَّذِينَ زَعَمتُم مِن دُونِهِ فَلا يَملِكُونَ كَشفَ الضُّرِّ عَنكُم وَلا تَحوِيلاً} [سورة الإسراء: 56]،
- {قُلِ ادعُوا الَّذِينَ زَعَمتُم مِن دُونِ اللهِ لا يَملِكُونَ مِثقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الأَرضِ وَما لَهُم فِيهِما مِن شِركٍ وَما لَهُ مِنهُم مِن ظَهِيرٍ} [سورة سبأ: 22].
وعن إبراهيم الكرخي قالَ: عَلَّمَنا أَبُو عَبدِ الله عليه السلام دُعاءً وأَمَرَنا أَن نَدعُوَ بِه يَومَ الجُمُعَةِ: {اللَّهُمَّ إِنِّي تَعَمَّدتُ إِلَيكَ بِحاجَتِي، وأَنزَلتُ بِكَ اليَومَ فَقرِي ومَسكَنَتِي. فَأَنا اليَومَ لِمَغفِرَتِكَ أَرجَى مِنِّي لِعَمَلِي، ولَمَغفِرَتُكَ ورَحمَتُكَ أَوسَعُ مِن ذُنُوبِي، فَتَوَلَّ قَضاءَ كُلِّ حاجَةٍ هِيَ لِي بِقُدرَتِكَ عَلَيها وتَيسِيرِ ذَلِكَ عَلَيكَ. ولِفَقرِي إِلَيكَ فَإِنِّي لَم أُصِبْ خَيراً قَطُّ إِلا مِنكَ، ولَم يَصرِف عَنِّي أَحَدٌ شَرّاً قَطُّ غَيرُكَ، ولَيسَ أَرجُو لآِخِرَتِي ودُنيايَ سِواكَ ولا لِيَومِ فَقرِي ويَومِ يُفرِدُنِي النّاسُ فِي حُفرَتِي وأُفضِي إِلَيكَ يا رَبِّ بِفَقرِي}[4]،
وعن أبي حمزة الثمالي عن الإمام الباقر سلام الله عليه: {ادعُ في العِيدَينِ والجُمُعَةِ إذا تَهيّأتَ للخروج بهذا الدعاء، وقُل: ... وَلَم أَفِد إِلَيكَ اليَومَ بِعَمَلٍ صالِحٍ أَثِقُ بِهِ قَدَّمتُهُ، وَلا تَوَجَّهتُ بِمَخلُوقٍ أَمَّلتُهُ}[5]،
وفي دعاء كميل عن أمير المؤمنين سلام الله عليه: {اِلهي وَرَبّي مَنْ لي غَيرُكَ أَسأَلُهُ كَشفَ ضُرّي وَالنَّظَرَ في اَمري}،
وفي مناجاة التائبين عن الإمام زين العابدين سلام الله عليه: {إلهِي هَل يَرجِعُ العَبدُ الآبِقُ إلا إلَى مَولاهُ أَم هَل يُجِيرُهُ مِن سَخَطِهِ أَحَدٌ سِواهُ}[6].
الخلط بين الوساطتين التشريعية والتكوينية
يخلط الكثير بين الوساطة التشريعية والوساطة التكوينية التي تُسمى وساطة الفيض، فلا ريب أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله هو رسول الله إلى الإنس والجن ليبلغهم دين الله تعالى، أي إنه الواسطة التشريعية بيننا وبين الله سبحانه، وأئمة الهدى سلام الله عليهم هم أوصياؤه صلى الله عليه وآله وخلفاؤه، وهم الأدلاء على حلال الله وحرامه، وهم الذين أُمِرنا باتباعهم دون غيرهم في حديث السفينة، أي إنهم واسطة تشريعية بيننا وبين الله سبحانه عن طريق سيدهم ونبيهم محمد صلى الله عليه وآله كما دلّت أحاديثهم الشريفة على هذا مثل ما ورد عن الإمام الصادق سلام الله عليه: {حَلالُ مُحَمَّدٍ حَلالٌ أَبَداً إِلَى يَومِ القِيامَةِ وحَرامُه حَرامٌ أَبَداً إِلَى يَومِ القِيامَةِ لا يَكُونُ غَيرُه ولا يَجِيءُ غَيرُه}[7]، وأيضاً عنه سلام الله عليه: {فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا تعالى وسنة نبينا صلى الله عليه وآله، فإنا إذا حدّثنا قلنا قال الله عزّ وجلّ وقال رسول الله صلى الله عليه وآله}[8]، وكما عن الإمام الرضا سلام الله عليه أن السائل قال له: كل شيء تقول به في كتاب الله وسنّته أو تقولون فيه برأيكم؟ قال سلام الله عليه: {بل كل شيء نقوله في كتاب الله وسنة نبيّه}[9].
ولكن الوساطة التكوينية لأهل البيت صلوات الله عليهم، أي جعلهم وسطاء بين الله وخلقه بما يُسمى "وساطة الفيض"، فهي ما لم نرَ دليلاً عليها. لذا فإن البعض حين يقولون "يا علي" للاستعانة به سلام الله عليه أو يقولون "يحفظك الحسين" مثلاً فهذا يعني أنهم يعتقدون بوجود دور تكويني لأهل البيت صلوات الله عليهم يمكنهم معه أن يقوموا بمهام تكوينية من إعانة للناس وحفظ وغيرهما، وحينما يُسألون عن هذا يقولون إن الإمام سلام الله عليه هو وسيلة إلى الله. وهذا خلط بين كون الإمام سلام الله عليه وسيلة في عالم التشريع وبين كونه وسيلة في عالم التكوين، فالثابت هو أن الأئمة سلام الله عليهم إنما هم وسائل تشريعية. وعليهم أن يثبتوا أنهم سلام الله عليهم يمثلون وسيلة في عالم التكوين حتى يصح ما يُعطى لهم من دور تكويني.
وهذا الخلط بين المفهومين قد وقع فيه بعض من ألّفوا مؤيِّدين للولاية التكوينية وتبعهم الناس فيه كما في النص التالي: (مما لا شك ان الهدف من خلق كل البشرية هو توحيد الله وعبادته، وبما أن الممكنات متفاوتة، جعل الله العالم والجاهل منهم، ليرجع الجاهل إلى العالم ويتعلم منه هداية الله وسبل الرشاد. ولكن لم يكن هذا القدر بالكافي لتتميم العبودية الحقيقية وربطها بالألوهية الوحدانية، وذلك للبون الشاسع بين العبد المظلم الذي يعيش في الماديات، وبين نور الله المطلق الخالص من كل مادة ونقص، فكان لا بد من وسائط تستطيع ان تلتقي بجانب المادة وبجانب النور، تتأثر وتؤثر، فكان أهل البيت عليهم السلام)[10] ثم قال: (فأنزلهم الله من عالم الأنوار إلى عالم المادة، من أجل هذه المهمة الصعبة. وصحيح انه خلاف طبع الأولياء "النزول" إلا أنه كان لابد منه لانحصار الهداية بهم والوساطة عليهم). حيث يلاحظ أنه في بدء كلامه قد تكلم عن رجوع الجاهل إلى العالم لغرض الهداية، وهذا أمر تشريعي، ولكنه قد حوّل الأمر إلى أمر تكويني بقوله: (فكان لا بد من وسائط تستطيع ان تلتقي بجانب المادة وبجانب النور)، فالأئمة سلام الله عليهم لا يأخذون الأمور التشريعية من الوحي، وإنما يأخذونها من رسول الله صلى الله عليه وآله كما مرّ آنفاً، فهم أوصياؤه وليسوا رسلاً مثله. لذا فإن كلام الكاتب يصب في عالم التكوين. وهذا خلط بلا دليل.
[1]) الولاية التكوينية بين القرآن والبرهان، ص 82.
[2]) تفسير المحيط الأعظم، ج ١، ص مقدمة ٤٦.
[3]) وهم سلام الله عليهم ليسوا جميعاً وسائط للفيض عند القوم، أي لو قيل بأن واسطة الفيض لا يحتاج لواسطة فإن غيره من الأنبياء سلام الله عليهم ممن لم يكن واسطة فيض يبقى محتاجاً لهذه الواسطة حسب زعمهم. ومع هذا فلا وجود لذكر أي واسطة في أدعية وأقوال الأنبياء سلام الله عليهم.
[4]) الكافي، ج ٢، ص ٥٨٠.
[6]) ملحقات الصحيفة السجادية.
[7]) الكافي، ج ١، ص 58.
[8]) اختيار معرفة الرجال، ج ٢، ص 489.
[9]) بصائر الدرجات، ص 321.
[10]) الولاية التكوينية لآل محمد عليهم السلام، ص ٨٨.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat