يمثل الرثاء غرضا رئيسيا من أغراض الشعر العربي ، نظرا لما يجسده من آلام وأحزان تختلج النفس البشرية نتيجة لفقدانها أعزتها، فالشاعر يترجم حزنه ويعبر عنه بألفاظ تجسد المحنة والهواجس التي تعتريه من جراء ما يقاسيه من ألم الخسارة ووجع الفراق، ولم يكن الرثاء حكرا على العرب وحدهم، فالإنسان على مر الأزمان يعبر عن أحزانه بلغات وألوان مختلفة، ولكن العرب أجادوا فيه وسالت أقلامهم بفيض من عطاء حزنهم بفقد إخوتهم خاصة وبني جلدتهم بشكل عام،
وبالرغم من ان الباحثين يرون ان هذا النوع من الشعر لم يكن من أبواب الشعر عند عرب قبل الاسلام وإنما ضمناً بين المديح، إلا أنه من الصعب الجزم بذلك نظرا لقلة الإرث الأدبي الذي وصلنا منهم فلم يصل إرثنا الشعري الجاهلي الى اكثر من نصف المائة من القصائد، وهو عدد ضئيل جداً بالنسبة لقريحة العرب الشعرية الهائلة، ولعل الأحداث التي عاشها العرب آنذاك من نزاعات وفقدان تفصح عن أكثر من ذلك.
القصيدة الرثائية الإمامية
وللرثاء أهمية كبيرة نظراً للأثر البالغ الذي يتركه في نفوس المتلقّين، و ما يثيره من مشاعر الثورة والعصيان والرفض للظلم علاوة على آثار الحزن التي من المفترض أن تكون هي السمة الأبرز لذلك الشعر، ومن هنا اقترن الرثاء بمظلومية أهل البيت عليهم السلام نظرا لظلامتهم المتكررة على مر العصور، فقد كان لهم حضور واسع في هذا المجال لاسيما وان رثاءهم عليهم السلام شمل الأب والابن والأخ، وترجم حزنهم العميق الذي استلهم منه الشعراء استنفارهم للقصيدة الرثائية الأمامية إن صح التعبير، وبالرغم من أن أهل البيت عليهم السلام شجعوا الشعراء على النظم في ظلامتهم خاصة في أيام الدولة العباسية إلا أن أبيات الرثاء التي صدرت منهم بشكل عام وعن أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء عليهما السلام بشكل خاص كانت عصارة الصبر وترجمة لخلاصة الموقف المؤلم الذي يدك أركان النفس، فلا يعود الدمع المنهمر كالسيل قادراً على استنزافه، بل ان تلك الابيات تخطت الألم لتكون تأجيجا للضمائر وإعلانا للموقف من احداث عصرهم وما رافقها من ظلم وفتن، ومع إن الإرث الأدبي الذي وصل الينا عن أئمتنا عليهم السلام كان أغلبه يصب في خانة الخطب النثرية ذات المدلولات الرفيعة واللغة الأنيقة والمعاني الأخاذة، الا أن التاريخ استطاع ان يسجل لنا عنهم بعض الأبيات في الرثاء.
قصائد رثاء الزهراء عليها السلام
ومن تلك المراثي قول السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام حين جلست عند قبر الرسول ص:
قَد كانَ بَعدكَ أنباءٌ وَهَنْبَثَةٌ لَوكنتَ شَاهِدَها لَم تَكثُرِ الخُطَبُ
إِنَّا فَقدنَاك فَقْدَ الأرضِ وَابِلها واختَلَّ قومُك فاشهَدْهُم فَقد نَكَبُوا
تَجَهَّمَتْنَا رِجالٌ واستُخِفَّ بِنا بَعد النَّبي وَكلُّ الخَيرِ مُغتَصَبُ
قَد كَان جِبريلُ بِالآياتِ يُؤْنِسُنَا فَغِبْتَ عَنَّا فَكُلُّ الخَيرِ مُحتَجَبُ
وَكنتَ بَدراً وَنُوراً يُستَضَاءُ بِهِ عَليكَ تَنزِلُ مِن ذِي العِزَّةِ الكُتُبُ
فَقد لَقينَا الذي لَم يَلْقَهُ أَحدٌ مِن البَريَّةِ لا عُجْمٌ وَلا عَرَبُ
سَيعلَمُ المُتَولِّي ظُلمَ حَامَتِنَا يومَ القيامَة أَنَّى سَوفَ يَنقَلِبُ
فَسوفَ نَبكِيكَ مَا عِشنَا وَمَا بَقِيتْ لَنَا العُيونُ بِتِهْمَالٍ لَهُ سكبُ
فكأنما استجمعت السيدة فاطمة الزهراء جل الكمد والحزن الذي في داخلها من جراء فقد والدها النبي العظيم (صلى الله عليه وآله وسلم) وما عانته من الظلم، فتنطق بتلك الأبيات الشجية لتبكي وتبكي الناس معها.
ولو تفحصنا كيف أنها(سلام الله عليها) أخذت قبضة من تراب قبره (صلى الله عليه وآله وسلم) وقربتها من وجهها الكريم لتقول أبياتها المشهورة:
مَاذَا عَلى مَن شَمَّ تُربَةَ أحمد أَنْ لا يَشُمَّ مَدَى الزَّمَانِ غَوَالِيا
صُبَّتْ عَلَيَّ مَصَائِبٌ لَوأَنَّهَا صُبَّتْ عَلَى الأَيَّامِ صِرْنَ لَيَالِيَا
لأدركنا كمية العاطفة التي من الممكن أن تتفجر في شعر الرثاء، ولاسيما وان السيدة الزهراء عليها السلام مزجت بين الحب والشوق والحزن على أبيها (صلى الله عليه وآله) في تلك الأبيات المعبرة، كما لم يفتها أن تترجم الانكفاء الذي شهدته الأمة بعد وفاته (صلى الله عليه وآله) وتنكرها لجميل سيرته معهم.
وفي أبيات أخرى رسمت صورة لذلك الليل البهيم الذي خيم على حياتها عليها السلام وحياة المسلمين بشكل عام فمزجت هذه المرة بين الحزن والثورة وتبيان الظلامة ونسجت من ذلك رثاء يحمل بين طياته الرفض لتنكر الأمة لوصية الرسول (صلى الله عليه وآله) حين قالت:
قَلَّ صَبرِي وَبَانَ عَنِّي عَزَائي بَعدَ فَقدِي لِخَاتَمِ الأَنبِيَاءِ
عَينُ يَا عَينُ اسكُبِي الدَّمعَ سَمحاً وَيْكِ لا تَبخَلِي بِفَيضِ الدِّماءِ
يَا رَسُولَ الإِلَه يا خِيرةَ الله وَكَهفَ الأَيتَامِ وَالضُّعَفَاءِ
لَو تَرى المِنبَرَ الَّذِي كَنتَ تَعلُوُ قَد عَلاه الظَّلامُ بَعدَ الضِّياءِ
رثاء علي عليه السلام للنبي وفاطمة صلوات الله وسلامه عليهما
وقد شاطر أمير المؤمنين عليه السلام فاطمة عليها السلام لوعة الحزن ومرارة الفراق، وهو الذي فاضت روح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بين يديه.
فكان (عليه السلام) يرثي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ويقول:
الموت لا والداً يبقى ولا ولدا هذا السبيل إلى أن لا ترى أحدا
مات النبيُّ وَلَم يَخلُدْ لأُمَّتِه لو خلّد الله خلقاً قبله خلدا
للموتِ فينا سهامٌ غير خاطئة من فاتهُ اليوم سهم لم يفته غدا
سريعا مُني بفقدان فاطمة (عليها السلام) المرير ليصور فداحة الخطب وشدة الألم وهو واقف عندها يتلوى مما ألمَّ به فلا يكاد ينطق رثاءه حتى يغرق لحيته الكريمة بالدموع، وكأن الكون الواسع قد تصاغر أمامه فلم يعد يتسع في عينيه الكريمتين لنظرة اخيرة الى وجه فاطمة عليها السلام، فلما نفض عليه السلام يده من تراب القبر هاج به الحزن فأرسل دموعه على خديه وحول وجهه الى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شاكيا ومبينا الحيف الذي وقع عليهم في خطبة معروفة، وفي السياق نفسه نسبت اليه (عليه السلام) أبيات غاية في الشاعرية والحزن والتي صورت بدقة الحالة الوجدانية التي كابدها الإمام علي عليه السلام آنذاك، وهو يصارع فقدان فاطمة (عليه السلام) التي كانت ملجأه وأمانة الرسول صلى ألله عليه وآله عنده وأنيسه عند فقده له صلوات ألله وسلامه عليه وعلى آله، الى أن يصل الى الأبيات التي تترجم حالة رائعة من التسليم والاتعاظ فلا سبيل الى التملص من فقد الأحبة وإن طال الأمد، وتبقى خسارتهم هي الأكبر والرزية الأعظم التي تقظ المضاجع فيقول مسلما:
يريدُ الفتى ألا يموتَ حبيبُهُ و ليسَ إلى ما يبتغيهِ سبيلُ
ولـــيس جـــلـــيلاً رِزْءُ مـــالٍ وفـَـقْدُهُ ولـــكـــنَّ رِزْءَ الأكـــرمـــين جـــلـيلُ
ويصور التاريخ كيف أن أمير المؤمنين عليه السلام أكثر الشكوى عند قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قائلا في معرض شكواه من بين ما قال: لولا غلبة المستولين علينا، لجعلت المقام عند قبرك لزاماً، والتلبث عنده عكوفاً، ولأعولت إعوال الثكلى على جليل الرزية، فبعين الله تدفن ابنتك سراً، ويهتضم حقها قهراً، ويمنع إرثها جهراً، ولم يطل العهد ولم يخلق منك الذكر، وإلى الله ـ يا رسول الله ـ المشتكى، وفيك أجمل العزاء، فصلوات الله عليها وعليك ورحمة الله وبركاته.
ثم جعل يقول:
أرى عِللَ الدنيا عليّ كثيرةً و صاحبُها حتى المماتِ عليلُ
لكلِّ اجتماعٍ من خليلينِ فُرقةٌ و كلُّ الذي دونَ الفِراقِ قليلُ
و إنّ افتقادي فاطماً بعدَ أحمدٍ دليلٌ على ألا يدومَ خليلُ
فكانت ابيات الرثاء تلك خاتمة الشكوى وانعطافة الالم الذي اختلج صدره عليه السلام.
ونسب اليه بيتان في المعنى الاول نفسه، بقوله:
نفسي على زفراتها محبوسة يا ليتها خرجت مع الزفراتِ
لا خير بعدك في الحياة وإنما أبكي مخافة أن تطول حياتي
الرثاء رسالة لإصلاح الدين
ان هذه الأبيات القصيرة التي وصلتنا من أدب أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء عليهما السلام تلخص توظيفهم لشعر الرثاء في دورهم الرسالي الهادف الى إيقاظ النفوس واستنفارها، ونشر قضيتهم السامية التي هي في الأساس استكمال لدور الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) ومحاولتهم لبث حزنهم وشجونهم في المجتمع الذي انكفأ عليهم، هذا الحزن الذي حمل بين طياته الدعاية الروحية والنصرة الدينية والثورة على مناوئيهم في الوقت الذي كان العداء عليهم محتدما، والشحناء لهم متقدة والفتن تحيط بهم من كل جانب كقطع الليل المظلم، فكان الأدب من بين الأساليب التي استعملوها في الوقوف أمام تلك الهجمة الشعواء ضدهم، ويسر الرثاء بث نفثات الحزن وزفرات الأنين التي قرحت جفونهم وأقضَّت مضاجعهم عليهم وعلى آلهم السلام، حتى كأن تلك الأبيات القصيرة في الرثاء كانت بذرة الإنطلاق التي سار عليها شعراء أهل البيت (عليهم السلام) فيما بعد.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat