كان نهار يومنا هذا طويلاً، أو هكذا بدا لنا؛ بسبب ما اكتسحنا من العطش في هذا اليوم القائظ الذي أذاب شحومنا وصهر ذنوبنا.
وتلك اللعينة (الكهرباء) التي لا تنفك عن الغدو والرواح كل لحظة، فيستحيل المكتب إلى جحيم لا يطاق، فتتسابق ذرات العرق مكونة على وجوهنا المنهكة تضاريس قاسية.
قبالنا كان رجل يجلس، رجل سبعيني، بدا لي كأنه مجرد هيكل غادرته الروح، فلقد التصق جلده على عظمه، وأنامله المرتجفة تلك بدت تداعب أوراقاً مبعثرة على مكتبه.
بالقرب منه كانت ترقد قارورة ماء مثلجة، قد ترشحت من برودته قطرات على خارجه، يُبلل بها محرمه الذي يضعه على رأسه بين آونة وأخرى، وتارة يرطب بها شفتيه اليابستين.
كان زميلي الشاب يسترق النظر لتلك القارورة بين الفينة والأخرى، وهو يلوك لسانه التي بدت كالخشبة من شدة العطش.
كنت أتابعه على مضض هكذا عبثاً، فلقد أنهينا العمل ولا أدري لِمَ ما زلنا محبوسين بين جدران هذه الغرفة النتنة..!
همست بأذنه وأنا أرمي حزمة من الأوراق فوق مكتبه:
- لم يبقَ إلا القليل، صبراً .
انفرجت شفتاه عن نصف ابتسامة خاملة، وأجابني وهو يحد نظره لساعته اليدوية:
- القليل..! الساعة الآن الواحدة والنصف ظهراً..!
أتدري هنالك سجال في داخلي منذ ما يقارب الساعة، في أن ارتشف ذلك الماء أم أمسك؟
طفقت بيدي اقلبها مدهوشاً
- يا الله لقد أفطرت..!
- كيف ولم آتِ بمفطر؟
- مجرد ترددك في النية يوجب بطلان الصوم، فيجب استدامة النية.
- لكني لم أعلم بذلك، ثم إني تراجعت عن عزمي في الافطار وجددت نية الصوم .
- حتى وإن رجعت في نية الصوم أو جددتها، بطل صومك -على الأحوط وجوباً-.
لاح في وجهه مسحة من الفرح، وبرقت عيناه بخبث، وأجابني، وهو يرفع سدادة القارورة:
- إذن أنا مفطر وسأشرب الماء.
جذبت القارورة من يده:
- مهلاً، سيكون ذلك إفطاراً متعمداً، وتكون كفارته عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين، او إطعام ستين مسكيناً.
- ألم تقل بأني مفطر؟
- بلى، لكن الحكم يختلف في الحالتين، الآن انت مفطر، لكن عليك الإمساك ومن ثم القضاء.
ارتمى في كرسيه وغار فيه، وقال بيأس:
- هل النية تفعل كل ذلك؟
- نعم، بل أكثر، فعلى أساسها نبني بصحة العمل العبادي أو فساده.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat