صفحة الكاتب : ياسين يوسف اليوسف

دُعاء (كُمَيْل)[1] ومضامينه الأخلاقية
ياسين يوسف اليوسف

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

يقول ألِكْسيس كاريل  ـ وهو طبيبٌ وجرّاحٌ وفيزيولوجيٌّ فرنسيُّ حاز على جائزة نوبل في الطبّ عام 1912م ـ : (( هذا، وحين يغدو الدعاءُ عادةً، يصبحُ ذا أثرٍ قويٍّ على الطّباع، من أجل ذلك يجب أن  نواظبَ على الدعاء))[2] ، وقد انكبَّ هذا الرجل على دراسة الدعاء وتأثيره على صحّة الإنسان وشفائه من الأمراض العضويّة من خلال عدّة مؤلَّفات، مع أنّه لم يكن رجلَ دين أو فيلسوفاً أو متصوّفاً. 

  وينقل عنه أيضاً: (( إنّ العقولَ البشريّةَ قد تقدّمت كثيراً، ولكنَّ من المأسوف له بقاءَ القلوب على ضَعفها ؛ إذ لا يمكن تقويتها إلّا عن طريق الإيمان ، ثمّ إنّ جميعَ المفاسد والفساد المنتشر والمستشري في العالم ما هو إلّا بسبب قوّة العقول، وبقاءِ القلوب على ضعفها وعدم تقويتها))[3].  ومن المعلوم أنّ قوّةَ القلب إنّما تكون بالارتباط بالغيب، والإيمان، وكثرةِ الدعاء، والتوسُّل بالخالق العَظيم.

ومن الأدعية المأثورة التي وصلت إلينا: الدعاء المعروف بدعاء كُمَيْل، الذي يعدُّ من الأدعية ذات الأبعاد الروحانيّة العظيمة، والمفاهيم الفلسفيّة الراقية، فيه مضامينُ عاليةٌ، وقد تصدّى الكثير من العلماء لشرحه وبيان  فضله وتأثيره، وقد قال فيه الشيخ عبّاس القمّي: (( هُوَ من الدّعوات المعروفة. قالَ العلّامةُ المجلسيُّ (رض): إنّه أفضل الأدعية، وَهُوَ دعاء الخضر عليه السلام، وقد علّمه أميرُ المؤمنين عليه السلام كميلاً، وَهُوَ من خواصّ أصحابه، ويدعى به في ليلة النّصف من شعبان، وليلةِ الجُمعة، ويجدي في كفاية شرّ الأعداء، وفي فتح باب الرّزق، وفي غفران الذُّنوب. وقد رواه الشَّيخُ والسَّيِّد كلاهما، وأنا أرويه عَن كتاب (مصباح المتهجِّد) وَهُوَ هذا الدُّعاء.. ))[4] .

ورغم أنّ هذا الدعاء يُعرف بدعاء كُميل، لكنّ الدعاء ليس لكُميل بن زياد النخعي، وإنّما هو للإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وفي الرواية أنّه دُعاء الخُضر عليه السلام.

 إذا تعرّضنا إلى مستوى الإثبات التاريخيّ لهذا الدعاء، فإنّه يرجع إلى مصدرَين أساسيّين ـ وسائر الكتب ترجع إليهما ـ وهما: مصباحُ المتهجّد للشيخ الطوسيّ (460هـ)، وهو الأقدم والأهم، فقد قال الشيخ: (( روي أنّ كميلَ بنَ زياد النخعيَّ رأى أميرَ المؤمنين عليه السلام ساجداً يدعو بهذا الدعاء في ليلة النصف من شعبان: اللهمَّ إنّي أسألك برحمتك التي وسعت كلَّ شيء، وبقوّتك التي قهرتَ بها كلَّ شيء..))[5] .

والمصدر الثاني هو كتاب (إقبال الأعمال) للسيّد ابنِ طاووس (664هـ)؛ إذ قال: >ومن الدَّعَوات في هذه الليلة: ما رويناه بإسنادنا إلى جدّي، أبي جعفر الطوسيّ رضي الله عنه، قال: رُوي أنّ كميلَ بنَ زياد النخعيَّ رأى أميرَ المؤمنين عليه السلام ساجداً يدعو بهذا الدعاء في ليلة النصف من شعبان. أقول: ووجدتُ في روايةٍ أخرى ما هذا لفظُها: قال كميلُ بنُ زياد: كنتُ جالساً مع مولاي أمير المؤمنين عليه السلام في مسجد البصرة، ومعه جماعة من أصحابه، فقال بعضهم: ما معنى قولِ الله عزّ وجلّ: {فيها يفرق كلّ أمر حكيم}؟، قال عليه السلام: ليلة النصف من شعبان، والذي نفسُ عليّ بيده، إنّه ما من عبدٍ إلّا وجميع ما يجري عليه من خيرٍ وشرٍّ مقسومٌ له في ليلة النصف من شعبان إلى آخر السنة في مثل تلك الليلة المقبلة، وما من عبدٍ يحييها ويدعو بدعاء الخضر عليه السلام، إلّا أجيب له. فلمّا انصرفَ، طرقتُه ليلاً، فقال عليه السلام: ما جاء بك يا كميل؟ قلت: يا أمير المؤمنين، دعاءُ الخضر، فقال: إجلس يا كُميل، إذا حفظتَ هذا الدعاءَ، فادعُ به كلَّ ليلة جمعة، أو في الشهر مرّة، أو في السنة مرّة، أو في عمرك مرّة، تُكفَ، وتُنصرْ، وتُرزقْ، ولن تعدمَ المغفرةَ، يا كميل، أوجبَ لكَ طولُ الصحبة لنا أن نجودَ لكَ بما سألتَ، ثمّ قال: أكتب:  ))اَللّـهُمَّ اِنّي أَسْأَلُكَ بِرَحْمَتِكَ الَّتي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء، وَبِقُوَّتِكَ الَّتي قَهَرْتَ بِها كُلَّ شَيْء، وَخَضَعَ لَها كُلُّ شَيء، وَذَلَّ لَها كُلُّ شَيء، وَبِجَبَرُوتِكَ الَّتي غَلَبْتَ بِها كُلَّ شَيء، وَبِعِزَّتِكَ الَّتي لا يَقُومُ لَها شَيءٌ..))[6] .

وفي هذا المصدر ـ أعني إقبالَ الأعمال ـ يذكر ابنُ طاووس أنَّ أميرَ المؤمنين عليّاً عليه السلام علَّم تلميذه كميلَ بنَ زياد  هذا الدعاء المشهور  على أرض البصرة .

ويُذكر أنَّ أميرَ المؤمنين عليه السلام، بعد انتهاء معركة الجمل، بقيَ في البصرة  ما يقرب من (72 ) يوماً؛ ليعالج الآثار السلبيّة على المجتمع البصريّ[7]؛  نتيجةً لتعرّضه إلى الاعلام المغرض والمضلّل من قِبَل أعداء أمير المؤمنين عليه السلام.

قد يرى بعضُهم  أنّه لا سند معتبرَ لإثبات صحّة ورود دعاء كميل عن المعصوم، وهنا أريد الإشارة إلى بعض الأمور المهمّة، التي قد سبقي إلى ذكرها الكثيرُ، ولكن، أذكرُها للتذكير والتأكيد، وهي كما يأتي:

أوّلاً: إنَّ الدعاء ذكره  شيخُ الطائفة الطوسيُّ رحمه الله  في كتاب (مصباح المتهجد)، حيث سمّاه بدعاء الخُضر، وقال: إنّ كميلَ بنَ زياد النخعيّ رأى أمير المؤمنين عليّاً ساجدا يدعو بهذا الدعاء في ليلة النصف من شعبان ، وهذا  يمنحه درجة من الاعتبار؛ لأنَّ كتاب (مصباح المُتَهَجّد) ـ أو ما يسمى بـ (المصباح الكبير) ـ من الكتب المعتبرة، وقد حَظي باهتمامٍ كبيرٍ من قِبَل علماء الشيعة.  

وكذلك ذكر الدعاءَ السيّدُ ابنُ طاووس في الإقبال ، وهذا الكتاب من الكتب المهمّة التي تعدّ مصدرا من المصادر الرئيسة في الدعاء، اعتمد عليه الكثيرُ من العلماء المتأخّرين .

ثانياً: جرت عادة الإماميّة على أنّهم ينقلون الأدعية عن المعصومين (عليهم السلام)، ولا يروون الدعاء عن غير المعصوم، وهم لا يهتمّون بذكر السّند، خلافا للروايات الفقهية؛ فإنّهم يتشدّدون في ذكر سندها، وهذه أشبه بالقاعدة، ومن ذلك دعاءُ كميل.

ثالثاً: يُضاف إلى ما تقدَّمَ أنّ  متنَ الدعاء يفصح عن أنَّه صادرٌ من أهل العصمة والطهارة؛ فالمتن شاهدٌ على صحّة السّند.

رابعاً: جرت العادةُ على التسامح في سند المستحبّات والمكروهات، وهناك قاعدة معروفة لدى الفقهاء تعرف بقاعدة (التسامح في أدلة السنن)، يمكن العمل بالدعاء من خلالها .

 

[1] هو كميلُ بنُ زياد النَّخعيّ، صاحب أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، قتله الحجّاجُ بنُ يوسف الثقفيُّ عام 82 هـ؛ لشدّة ولائه وحبِّه  لعليّ بن أبي طالب عليه السلام.

[2] كتاب الدعاء ، البروفسور الكسيس كاريل، ترجمة: د. محمد كامل سليمان: ص45.

[3] شرح دعاء كميل المعروف بأسرار العارفين : السيد جعفر بحر العلوم: ص14.

[4] مفاتيح الجنان: ص 115.

[5] مصباح المتهجد: 844 ـ 850.

[6]  إقبال الأعمال، ابن طاووس : 3: 331 ـ 338.

[7] ينظر: أمير المؤمنين في رحاب البصرة، د. جواد  النصر الله، طبعة مركز تراث البصرة: ص115.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ياسين يوسف اليوسف
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2022/06/15



كتابة تعليق لموضوع : دُعاء (كُمَيْل)[1] ومضامينه الأخلاقية
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net