الأمنُ الفكريُّ والحفاظُ على الهويّةِ
ياسين يوسف اليوسف
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
ياسين يوسف اليوسف

من القضايا المهمّة التي تشغل فكر المهتمين بل الجميع – تقريباً- ، هي مسالةُ (الأمنِ الفكريّ)، وهنا لا أريدُ أنْ أسهبَ كثيراً ببيانِ المصطلحِ الذي راجَ مؤخَّراً وتناوله الكثير من المفكرين والباحثين بعناية كبيرة، فهو باختصار: أن تعيش الأفراد والجماعات داخل مجتمعاتهم بطريقةٍ آمنةٍ، مطمئنةٍ، مستقرّةٍ بعيدةٍ عن الأفكارِ المتطرِّفةِ و أخطارِ الغزوِ الثقافيِّ, والذي تعدّدت أساليبُهُ وتنوّعت أشكالُه بما يُنذر بهدم المبادئ، والقيم النبيلة السامية داخل المجتمعات التي تريد المحافظة على هويتها، وتاريخها، وتراثها، هذه الأفكار التي أسهمت وسائلُ التّواصلِ الاجتماعيّ، وأسهم عصرُ التكنلوجيا الحديثة كثيراً في انتشارها ورواجها من خلال هذا الغزو الذي تتعرض له البلدان والشعوب بشكلٍ مستمرٍّ، والذي يستهدف القيم، والتقاليد، والأعراف الاجتماعية الأصيلة، وذلك بانتشار بعض القنوات الفضائية التي تُروِّجُ لأمورٍ تؤثِّرُ سلباً على سلامةِ كلٍّ من المعتقد، والثّقافة، والأخلاق الفردية، والاجتماعية، وإثارة النعرات الطائفية، والقبيلة، وغيرها، فضلاً عن إعداد وبثِّ بعض البرامج والمواضيع الهابطة والتي تُسهم بانتشار ظاهرة (التسطيح الفكري)، لتجهيل المجتمع قد تصل في بعض الحالات لحد الإسفاف ، ومما تجدر الإشارة إليه أنَّ أكثر شرائح وطبقات المجتمع تأثّراً بالغزو الثقافي، أو ما يسمى بـ(العولمة) هم فئة الشباب والناشئة فهم يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي بكثرة، هذه (العولمة) التي تأتينا تحت مسميات عِدّة منها على سبيل المثال: (الحرية الفكرية)، أو (الدفاع عن حقوقِ المرأةِ وحرياتِها)، أو مواضيع برّاقة أخرى تتخذها غطاءً ومنطلقاً لأفكارها التي تريد تصديرها إلينا، وهنا استحضر مقولة شهيرة للأديب والكاتب الفرنسي (فكتور هوغو) حين يقول : ( تبدأ الحرية حين ينتهي الجهل لأنَّ منحَ الحرّيةِ لجاهلٍ، كمنحِ السّلاحِ لمجنون) ، لذا فقضية (الأمن الفكري) تمثل ضرورة حتمية، و مكانه مهمَّه في أولويات أي مجتمع يريد الحفاظ على هويته سواء كانت دِّينية، أم اجتماعيَّة، أم حضاريَّة، أم وطنية...، فكما نحتاج إلى (الأمن الصِّحي)، و(الأمن الغِذائي)، و(الأمن الاقتصادي) وغير ذلك، نحتاج إلى (الأمن الفكري)- أيضاً-، لأنَّه - وكما ذكرنا- يمسّ حياة الفرد والمجتمع واستقراره بشكل جوهري، ولتحقيق هذه الغاية السّامية لا بدَّ من تظافر جميع الجهود، لمنع تغلغل سلبيات ظاهرة انتشار العولمة الفكرية، ومنع انتشار الفكر المتطرف، و هو مسؤولية الجميع كلٌّ بحجمه وقدره ، مسؤولية الدَّولة، ومسؤولية أماكن ودور العبادة، والمراكز الثقافية، والجامعات، والمدارس، والأسر، والمفكرين، والمثقفين، وغير ذلك، من خلال (البرامج، والخطب ، والندوات، والمناهج التعليمية والتربوية السليمة، والتربية الأسرية الصحيحة،….)، وإنَّ من أهم وأبرز الدعائم التي يقوم عليها (الأمن الفكري) ، والمقوّمات التي تسهم في تكوينه والمحافظة عليه، هي التعليم الصحيح، فإنَّه المقوم الأول لحماية الهوية الاجتماعية، واللغوية للأمة من الضياع والاستلاب.
لذا فمن الضروري أن تهتم الجهات المتخصصة وتولي التعليم اهتماماً خاصَّاً، بالقدر الذي يحتاج إليه أبناء الأمة من الناشئة والشَّباب وزرع الثقة في نفوسِهم بدلاً من نزعها، ولابدَّ – أيضاً- من التركيز على دور الأسرة، والمدرسة، والمسجد في التوعية بأهمية هذا النوع من الأمن مما يحفظ للفرد ، والمجتمع استقراره، وأمنه، وطمأنينته مع محافظته على هويته الثقافية، وعاداته، وأصالته، ومعتقده الديني ، فالجهود الأمنية – وحدها- ليست كافيةً للحدِّ من ظواهر الانحراف في الفكر، وما يعتقده بعضهم أنَّ (الأمن الفكري) ما هو إلا أساليب وإجراءات أمنية فقط، فهو من الفهم الخاطئ.
وهنا لابدَّ من الإشارة والتوقّف عند نقطةٍ مهمَّةٍ رئيسةٍ وجوهريةٍ من الحديث، وهي أننا لا نهدف بحديثنا هذا عن (الأمن الفكري) أن نجعل شبابنا داخل قوالب محدَّدة ومغلقة تجاه ثقافة وحضارة الشعوب الأخرى، ولا نريدُ نبذَ أفكارَ الآخرين، وتاريخهم، وتراثهم، بل نقصد استقبال كل هذه الحضارات والثقافات ومقوِّماتها والاستفادة مما يتوافق مع مبادئنا، وثقافتنا، وأخلاقنا، فهناك رؤية لدى بعض الباحثين ترى أنَّ الأمنَ الفكريّ (( نوعٌ من الحجرِ على العقلِ البشريِّ))، وهذا التصوُّر لا مبرر له على الإطلاق، فالأمن الفكري لا يقوم على الحجر الفكري بأي حال من الأحوال، ولا يمنع من الاطِّلاع على العلومِ والمعارفِ والثقافات المختلفة، وإنَّما يهدِفُ إلى حمايةِ العقلِ البشريِّ مما قد يؤدي به إلى الانحراف الفكري والعقدي ومنع الخروج، أو الانحراف عن الوسطية والاعتدال من قبل بعض أفراد المجتمع، والذي يشكِّل تهديداً للأمن الوطني، أو أحد مقوماته الفكرية، والعقدية، والثقافية، والأخلاقية، والأمنية.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat