ملحمة عاشوراء بين أهل البصائر والعمى
فاطمه الركابي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
فاطمه الركابي

عاشوراء هذه النهضة التي لطالما تجدد إحياء ذكراها في كلّ سنة؛ فهي ملحمة الخلود لمن شهدها، ولمن استلهم وسيستلهم منها، وواحدة من الدروس التي يمكن أن نتعلمها من هذه الملحمة الملهمة هي ملامح الصراع الدائم بين أهل البصائر وأهل العمى.
سبحانه وتعالى يقول: «... فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا»[سورة الأنعام:١٠٤]، فالبصيرة تعطي للإنسان رؤية واضحة لمعرفة نفسه ورسالته وغاية وجوده، فيسهل عليه معرفة ما له وما عليه وما يراد منه، أما العمى فقد عبرت الآية عنها (فَعَلَيْهَا)، أي وكأنه إذ اختار العمى فإنه سيأتي بحجاب ويضعه على عين قلبه فلا يجعلها تبصر شيئا من الحق بعد ذلك ابداً.
من آثار البصيرة على أهلها:
إن قيمة البصيرة تكمن بأن أهلها يرون كل شيء وفق ميزانه الالهي السماوي، لا الأرضي الداني، هم يرون حقيقة «كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ»[سورة البقرة:٢٤٩]، فالناصر هو الله تعالى.
ويرون أن البقاء مع الحق نجاة بكل الأحوال، فهذه آيات الله تبصرنا «أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ»[سورة الزمر:٣٦]، بلى فهو المسدد هو الولي الكافي المؤيّد؛ فهم لا يرون قلة عدد الملتحقين بجبهة الحق ضعفًا في جبهتهم لذا لا تنكسر همتهم، ولا كثرة عدد جيوش أهل الباطل تأييدًا لذا لا تتراجع اقدامهم بل يزيد ذلك من إقدامُهم.
هم يدركون أن الدنيا جبهتين: ظلام ونور، وإن الأصل هو النور وإن كان أصحابه قلة، فالشمعة المضيئة في الغرفة الظلماء تكسبها الضياء، وتوجد لمن فيها وضوحا في رؤية ما فيها من أشياء، ولكن هيهات هيهات أن يحجب الظلام الضياء! وهم بها يعلمون أن من لم يُعط النور من الله تعالى ذاته ستكون مُظلمة، فتعالى قال لهم: «وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ»[سورة النور:٤٠]، وقال: «يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء»[سورة النور:٣٥]، بالنتيجة لن تكون لغيرها مصدر ضياء.
بينما من له نور من ربه فهو سيكون ممن يرى الحقائق كما هي، ويكون مصدر نورانية لغيره، وهذه الحقيقة يؤكدها قوله تعالى: «وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ»[سورة الأنعام: ١٢٢]، يعني هناك من هو يعيش ويمشي بين الناس لكنه بلا نور، بلا بصيرة، أعمى القلب، وقد يكون منتكس البصيرة، فيرى الظلمة ضياء، والباطل حقّا.
شاهد ومشهد كربلائي:
ولأن الإمام الحسين (عليه السلام) مصباح هداية لم يَكفّ عن دعوة القوم حتى في ساحة المعركة، كان يقترب منهم ليبين ويوضح، ليبث من نوره في قلوب أولئك ممن غُرر بهم، لعل سحابة العمى تنجلي عن بعضهم ليبصروا مواضع اقدامهم أين هي؟ ولأي مصير شقي ستأخذهم؟
وأهل البصائر الذين التحقوا بسيد الشهداء(عليه السلام) كانوا ايضًا درجات، كما ورد «لما رأى الحسين(عليه السلام) ذلك منهم ــ أي من أصحابه العزم والصمود ــ قال لهم: «إن كنتم كذلك فارفعوا رؤوسكم وانظروا إلى منازلكم. فكشف لهم الغطاء - بإذن الله - ورأوا منازلهم وحورهم وقصورهم. فقال لهم الحسين(عليه السلام): يا قوم إني غداً أقتل وتُقتلون كلكم معي، ولا يبقى منكم واحد. فقالوا: الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك، وشرّفنا بالقتل معك، أو لا ترضى أن نكون في درجتك يا بن رسول الله؟ فقال: جزاكم الله خيراً»(١)، فهم كانوا من أهل البصائر لكن الاستقامة في يوم عاشوراء كان تتطلب أن يفتح لهم إمامهم الحسين(عليه السلام) نافذة على الغيب ليطلعهم على مقامهم، وليريهم ما سينالونه بالثبات معه وفي جبهة الحق.
وبالمقابل هناك من لم يكن محتاجًا لذلك؛ لأنه كان «نافذ البصير» كما وصفه إمامنا الصادق(عليه السلام)، فأبو الفضل(عليه السلام) كان يملك أعلى درجات البصيرة التي لم يحتج بوجودها الى ما يُثبتُه؛ لأنه كان يحمل ذاتا قد ذابت بسيدها، فصارت ذاتا كلها نور، ترى ما لا يراه الآخرون؛ فكان يرى ما يراه له إمامه، ويعمل ما يريده منه مولاه وسيده الحسين(عليه السلام).
ومن هنا نعرف كم للبصيرة من دور على مصير الإنسان الأبدي، فهي تكسبه الثبات فيما يعتقد عندما تشتدّ الاختبارات والفتن، وتهبه سكينة نفسية عندما القلب يمتحن.
______
(1) مقتل الإمام الحسين (عليه السَّلام).
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat