ركبتُ من مرآب الأحياء أحد الباصات الصغيرة المعروفة محلياً بـ(الكية)، وجلست على كرسيها القلاب اسما ومسمى، فهو يقلّبك ذاتَ اليمين وذات الشمال مع كل انعطافة أو (لوفة)، ويحرّكك إلى الأمام تارة وإلى الوراء أخرى، مع كل مطب أو (طسة)، وما أكثر (اللوفات والطسات) في بلادنا هذه الأيام، نظراً للأعمال والمشاريع الخدمية التي قامت على ساق، ولم تضع على الأرض قدماً راسخة بعد..
على العموم، جلست مع الجالسين، وما إن جلست حتى جمع ثمن الكراء أو (الكروة)، وما إن جمعت حتى بدأت النقاشات العراقية المعهودة، المذمومة المحمودة.. وبلا مقدمات حميت وازدادت حمّاها أو (حماوتها) فلم تبقِ لمسؤول حكومي أو برلماني أو سياسي قلّ أو كثر جسمه أو اسمه، كبر أو صغر دوره في صنع القرارات السياسية وصياغة القوانين الحكومية..
نعم لم تبق للمسؤول حيلة أو عذراً، ولم تذر له ذريعة أو حجة يدفع بها التهمة عن نفسه، وعمن انتخبه وأوصله إلى منصبه المضطرب أو كرسيه القلاب، كالذي جلست عليه في الكية.
ولا يخفى السر أن معظم ما تفضل به الراكبون أو (العبرية) وأبدوه من آراء ووجهات نظر هو صحيح بنسبة كبيرة، ولكن ما لفت نظري غير ذلك..
ما لفت نظري أن الركاب جميعا كانوا يتكلمون بصدق غاضب، وعصبية تكاد تحرق المقابل.. وكل منهم كان في الغالب متأثراً برأي أو أسلوب محلل سياسي ممن تكثر الفضائيات استضافتهم لكاريزميتهم، فهو (أي المواطن) ينتصر لآرائه ويرددها ببغاويا ومن دون أدنى تأمل..
هنا تذكرت بعض اللقاءات الإعلامية السريعة التي كنت إلى زمن غير بعيد أجريها مع المواطنين.. تذكرت كم كنت أعاني حتى أجد من الناس من يتحدث بجرأة وحرقة كهذه، تعبر عن الحرص والشعور بالمسؤولية الوطنية والشرعية، ولما أصل إلى غايتي وألفي من يقتنع بالحديث للمايكروفون، يسألني ماذا تريد أن أقول؟ وعندما أجيبه قل ما شئت، يستغرب (لأن بعض الإعلاميين يلقنون المواطن أقوالهم تلقيناً)، ثم يتحدث فإذا به يتلعثم ولا يدري ما يقول وأحياناً لا يعي ما يقول..
فأين شجاعته وحماسته الفائقة التي يبديها في الكية؟ أين خطاباته الرنانة في المقهى الشعبي؟ لماذا يعيش المواطن العراقي هذه الثنائية ولا أقول الازدواجية؟!
لماذا يتحدث بصراحة وجرأة بين الناس، بينما ينسى حروف اللغة العربية بل اللهجة المحلية مع وسائل الإعلام؟!
في الأمر سر يكشفه القابل من الأيام أو يسقطه القلاب من الكراسي.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat