صفحة الكاتب : محمد عبد الرضا الربيعي

شذرات أدبية من حياة شاعر أهل البيت عليهم السلام دعبل بن علي الخزاعي [148هـ 246 هـ]  الجزء الثالث
محمد عبد الرضا الربيعي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 واصل دعبل إلقاء أبيات تائيته، حتى اذا وصل الى:
وقبر ببغداد لنفسٍ زكية * تضمّنها الرّحمنُ في الغرفاتِ 
قال له الإمام الرضا (ع): أفلا ألحق لك في هذا الموضع بيتين بهما تمام قصيدتك؟ قال دعبل: بلى يا ابن رسول الله، فقال الإمام (ع):
وقبر بطوس يا لها من مصيبة * توقد في الأحشاء بالحرقاتِ     
الى الحشر حتى يبعثَ اللهُ قائماً * يفرّجُ عنّا الهمّ والكرباتِ     
 فقال دعبل للامام (ع): هذا القبر في طوس قبر من هو؟ فأجابه الإمام: قبري. هذه الأبيات وسواها، تتفجر دموعاً ملحوظة، بحيث لا يكاد يرددها أي متذوق، حتى يكاد ينفطر قلبه أسى ولوعة.. ويلاحظ ان (الصوت – الايقاع) و(الصورة)، لهما أثرهما الفاعل في نتاج هذا الشاعر، الى درجة ينبهر المتلقي حيالهما كل الانبهار.. ولنقرأ البيتين الآتيين اللذين تلاهما الشاعر في نهاية تائيته بين يدي الإمام (ع)، فقال: 
خروج إمام لا محالة خارج * يقومُ على اسم الله والبركاتِ
يميز فينا كُلَّ حقٍ وباطل * ويجزي على النعماء والنقماتِ 
 يبكي الامامُ (ع) بكاء شديداً، ثم يرفع رأسه الى دعبل ويقول: يا خزاعي نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين.. فهل تدري من هذا الامام، ومتى يقوم بها؟ فأجابه دعبل: يا مولاي، إني سمعت بخروج إمام منكم، يطهر الأرض من الفساد، ويملؤها عدلاً. قال الامام (ع): يا دعبل: الامام بعدي محمد ابني، ومن بعد محمد ابنه علي، وبعد علي ابنه الحسن، وبعد الحسن ابنه الحجة القائم المنتظر في غيبته، المطاع في ظهوره، لو لم يبقَ من الدنيا إلا يوم واحد، لطوّل اللهُ ذلك اليوم، حتى يخرج ليملأها عدلا كما مُلئت جورا. وأما متى؟ فأخبار عن الوقت، وقد قال رسول الله (ع) حين سُئل: متى يخرج القائم من ذريتك؟ فقال: مثله مثل الساعة: (لا يُجَلِّيها لوقتِها إِلاَّ هُوَ ثقُلَت فِي السماواتِ وَالأَرضِ لا تَأتِيكم إِلاَّ بَغتَةً).
 ويرى المتابع في هذا ملمحاً سياسياً، يواصل فيه الشاعر الفكرة التي آمن بها أكثر المسلمين، والتي أكدها المصطفى (ص)، وهي فكرة خروج الامام المهدي بن الامام العسكري (عج) في آخر الزمان، وهذا ما أشار اليه الشاعر دعبل في أبياته آنفة الذكر، وهو ما آمن به وغيره من شعراء الشيعة، مما يتصل بعقيدتهم، ويمثل ذلك التبشير بالمهدي المنتظر، الذي سيعود من غيبته ليملأ الأرض عدلاً، كما مُلئت ظلماً وجوراً، ولينتقم من أعداء آل البيت، وممن ظلمهم.. كقول القاسم بن يوسف الكاتب مشيراً الى هذا الأمل الذي يخفق في قلوب الشيعة، والأخذ بحقهم عند خروج الامام المهدي (عج):
إني لأرجو أن تنالَهم * مني يد تشفي جوى الصدر     
بالقائم المهدي إنْ عاجلاً * او آجلا إنْ مَدَّ في عمري     
 ومما تجدر الاشارة إليه، أن فكرة ظهور الامام المهدي (ع) والتبشير بها موجودة في شعر شعراء الإمامية فقط؛ إذ أنها تعد سمة مميزة لهذا المذهب. ولا غرابة من ان تائية دعبل المارة الذكر، حظيت باعجاب الكثير من الأدباء، فقد وصفها ابن المعتز بأنها (أشهر من الشمس، ولا حاجة بنا الى تضمينها، ولا تضمين شيء منها)، ويصفها أبو الفرج بقوله: (من أحسن الشعر وفاخر المدائح المقولة في أهل البيت (ع). ويقول عنها الحموي ملخصاً إعجابه بها ان: (قصيدته التائية في أهل البيت، من أحسن الشعر وأسنى المدائح، قصد بها علي بن موسى الرضا (ع) بخراسان)، ويعلق باحث معاصر عليها بقوله: (ولعل دعبلا الخزاعي في مقدمة الذين نهضوا بالجانب التصويري المؤثر في تائيته التي قصد بها علي بن موسى الرضا بخراسان... إذ كانت صورة لما ابتلي به العلويون من نكال وهوان).
 ومن هذا يتضح للباحث أن هذه التائية بمجموعها، سجل لكل قتلى العلويين، وما وقع عليهم من ظلم وأذى، وما حلّ بهم من مصائب، بتصوير حزين ومثير، يتفجرُ عاطفة حزينة، تسحر أي متذوق حينما يرددها.. كما تبدو أهمية هذه التائية كمرثاة سياسية عقائدية، من كثرة رواتها من أعلام أهل السنة، فضلا عن الذين شرحوها ورووها من اعلام الطائفة الشيعية، وهذا ما حفز صاحب كتاب (الغدير)، على أن يلفتَ نظر الباحثين، الى أن مستهل القصيدة ليس كل ما ذكره رواتها وشراحها، بل انها مبدوءة بالنسيب، آخذا بما سار عليه الشعراء في بناء القصيدة، لذا بُدئت بأبياته:
تجاوبن بالأرنان والزفرات * نوائح عجم اللفظ والنطقاتِ
وقد يعجب المتلقي من جرأة الشاعر دعبل، رغم قسوة العباسيين ومطاردتهم لخصومهم.. فقد دافع عن حرية معتقده، وجاهر بها، لا يخاف لومة لائم، ولا عقوبة ظالم؛ إذ تمثلت تجربته المريرة في شعره.. وبعد ذلك فدعبل يعيش حالة الرفض لواقع حياة الشعراء المداهنين، فالرفض أصبح ظاهرة نافرة في شعره، تعبر عن جرأة أدبية في شخصيته الفذة، قلّ نظيرها في المواجهة، وفي رفضها للانصياع لولاة عصره، وفي سعيها الدؤوب لهجائهم المُقذع في كل مناسبة.. وهذه الجرأة الأدبية جعلته لا يترك أميراً ولا وزيراً ولا والياً، إلا هجاه بلسانه القاطع.. حتى تحوّل شعره الهجائي الى شعر ملتزم في تشيعه لآل علي (ع)، وهذا يدل على شخصية ترفض الانقياد والتبعية، وتأبى الكبت والانطواء، ولا تخضع للواقع المعاش.. فحرية القول عند دعبل تقابلها قيمة الحياة، ومن لا حرية رأي له، فهو انسان لا قيمة له في هذه الحياة. وحسب القارئ هذه الأبيات الثلاثة التي قالها دعبل، عندما بلغه نعي المعتصم، وقيام الواثق، للدلالة على رفضه، وعدم اكتراثه بكل من يتولى الخلافة، إذ يقول متهكما:
الحمد للهِ لا صَبْرٌ ولا جَلَدُ * ولا عزاءٌ إذا أهل البلى رقدوا       
خليفة مات لم يحزن لهُ أَحَدٌ * وآخر قامَ لم يفرحْ بهِ أَحَدُ 
فمرَّ هذا ومرَّ الشؤْمُ يتبعُهُ * وقامَ هذا فقامَ الويلُ والنكدُ


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد عبد الرضا الربيعي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/06/25



كتابة تعليق لموضوع : شذرات أدبية من حياة شاعر أهل البيت عليهم السلام دعبل بن علي الخزاعي [148هـ 246 هـ]  الجزء الثالث
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net