الطرقُ التجارية في التاريخ الجزء الأول
خليفة عايد
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
خليفة عايد

إن المتتبع لتصانيف أصحاب المسالك والبلدانيين في القرنين الثالث والرابع للهجرة، يلاحظ كثرة شبكات الطرق التي كانت تربط بين المدينة الواحدة وضواحيها، وبين المدن في نفس الأقليم وبين أقاليم الخلافة الأخرى، وكذلك يلاحظ أن بعض تلك الطرق، قد حملت شهرة كبيرة من خلال كونها عابرة للأقاليم، كطريق خراسان الذي كان يربط بغداد ببلاد ما وراء النهر وخوارزم شرقاً.
إن العنصر الاقتصادي يفرض نفسه، ويكشف عن المضامين والأهداف التي قامت الطرق لأجلها، وهي وان اختلفت في اهميتها من حيث كونها طرقا رئيسية او ثانوية، إلا ان الغرض من مدها كان واحداً في كل العصور، حيث ان تبادل المنفعة والارتقاء بمستوى المعيشة للافراد والمجتمعات، كان الهدف النهائي لارتياد الانسان لهذه الطرق. وبغض النظر عن تطور علاقة المدينة مع ضاحيتها ومع المدن الاخرى، والتي كانت ثمرة للاحتكاك البشري، فان حاجة المدينة إلى مزيد من السلع الغذائية لسد رمق العدد المتزايد باستمرار من السكان، وحاجتها كذلك للمواد الأولية التي تدخل في الصناعة التي أعطت للتجمع السكاني صفة المدينة، في مقابل حاجة القرية لصناعات المدينة وخدماتها، والتي تعد من الشروط اللازمة لاستمرار عملها الوظيفي.
لقد أدى ذلك كله في المحصلة النهائية، إلى مد جسور الاتصال بين الطرفين، ولذلك فقد اختصت كل مدينة بضاحية تتمثل في مجموعة من القرى، ترتبط واياها بشبكة من الطرق، تقع المدينة منها موقع العقدة الجذرية، وهذا ما يفسر احتواء المدن المسورة آنذاك، على عدة ابواب كانت تطل من خلالها على ضواحيها والمدن المجاورة، فمدينة (زرنج) المسورة مثلا، كانت تحوي خمسة أبواب، وقد اطلق على احدها، وكان يطل على ضواحيها المزروعة، اسم باب الطعام.
وفي ضمن الأقليم الذي كان يحوي عادة أكثر من مدينة، نجد دائماً احدى هذه المدن قد تفوقت على اقرانها بخصائص ادارية واقتصادية، وحملت لقب قصبة الاقليم، وهي ما ينطبق عليها في المفهوم الاقتصادي الحديث، لقب مدينة (الظهير التجاري) التي تعيش بالاقليم وعليه، فهي كالعملاق الجالس على بوابة الأقليم، بيد تكتنس محاصيله، وبيد تبادل بها منتجاته مع الاقاليم الاخرى.. وهي عادة ترتبط مع الاقاليم بشبكة من الطرق، هي صورة مكبرة لعلاقة المدينة مع ضواحيها، فمدينة بغداد مثلا كونها عاصمة الخلافة، وقصبة اقليم العراق، كانت ترتبط بشبكة كثيفة من الطرق البرية والنهرية مع كافة مدن الأقليم كالبصرة والكوفة وواسط، حيث كانت السلع والبضائع تتدفق بينها وبين هذه المدن، بشكل شبه يومي عبر طرق التجارة الداخلية، هذا على نطاق المواصلات في الأقليم الواحد.
أما المواصلات على مستوى الأقاليم، فقد كانت هي الأخرى محكومة بأهداف اقتصادية، فاختلاف الأقاليم في خصائصها الجغرافية والبشرية، وكما عبر عن ذلك ابن الفقيه حين قال: (لولا ان الله عز وجل خص بلطفه كل بلد من البلدان، وأعطى كل اقليم من الأقاليم بشيء منعه غيرهم، لبطلت التجارات، وذهبت الصناعات، ولما تغرّب أحد، ولا سافر رجل..). وعلى هذا الأساس، فقد تباينت الاقاليم في قدراتها الانتاجية، وصنفت إلى أقاليم منتجة للمواد الأولية والمنتجات الغذائية، وأقاليم أخرى كانت على مستوى من الرقي الذي يؤهلها لانتاج السلع المصنعة.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat