فتح بابه ولكن ، ليس لديه عشاء
الشيخ مظفر علي الركابي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
الشيخ مظفر علي الركابي

فتح بابه ليستقبل الزوار ، ولم يكن عنده عشاء حتى يطعمهم ، ترك زوجته بين جدران المطبخ مع قدورٍ فارغه ، وقد فتحت باب الثلاجة وما فيها غير إناء فيه ماء قراح ، نظرت إليه واطالت النظر وانسابت منها الدموع على خديها ، وتوجهت بقلبها إلى معشوقها تخاطبه بكلمات متواضعة تنم عن بساطة في التعامل وعن عقيدة فطرية لم تدخلها تشكيكات الفلاسفة ، ولا تنظيرات الأصوليين ، ولا تفريعات الفقهاء ، ولا ولا...
خاطبته بقلبٍ مفعم بالإيمان ، وبولاءٍ صادقٍ لم يمتزج يوماً بريب ، مع يقين قاطع بتحقق ما تريد .
نعم خاطبته باللغة التي لا يفهمها غيره ( سيدي ابو علي بحگ اشفايفك الما ظاگت گطرة ماي ، بحگ چبدك المتفطر من العطش ، مولاي ابو علي بحگ اوليدك عبد الله الرضيع الذبحوه بحضنك ، أبو علي بعزيزك علي الأكبر الگطعوه بالسيوف ، بعد بيش أحلفك سيدي أبو علي ، بحگ احزام ظهرك گمر العشيرة ، بعد بيش احلفك وأنه أدري بيك ما تردني ولا تخيب ظني ، أبو علي احلفگ بأم المصائب أدري بيك من تسمع إسمها يحترگ گلبك ، احلفگ بزينب بزينب ، لا تفشلني الليلة ويه زوارك )
قالت تلك الكلمات : وهي بين دموع المصيبة ودموع الخدمة ، وترى الخدمة شرفاً وأي شرف .
عجباً إنها العقيدة ، إنه الإيمان عندما يملأ القلب سوف تظيق به الدنيا .
لكنها كانت على يقين إن زوجها سوف يعود ومعه عشاء الزوار .
نعم خرج الزوج وهو أبي النفس تعلم من سيده ومولاه معنى الإباء ، خرج بسيارته التكسي لكي يكسب رزقه بالحلال ، ويمتنع أن يستدين مع صعوبة العيش وقلة ذات اليد ، لأنه يرى أن الدين ذل [ومعشوقه الذي قد نال شرف الشهادة وهو يسير على خطى معشوقه ويقتدي به ] وقد بقيت كلماته تصك مسامع الدهر ( هيهات منا الذلة )
هو هكذا هذا الرجل يفهم على بساطته شعارات الحسين ( ع ) وما هو المغزى منها من دون تفلسف وتنظير .
ركن سيارته منتظراً شخصاً ما يقصده لتوصيله الى مكان ما .
طال وقوفه عصر ذلك اليوم ، وهو يرى أهل المواكب يستقبلون الزوار ، ويرى جيرانه يتسابقون الى المواكب ( وطريق المشايه ) لأخذ الزوار إلى بيوتهم ليقوموا بواجب الخدمة، فيرى جاره فلان قد استقبل عشرون نفراً ، وجاره الآخر التاجر فلان قد استقبل خمسون نفراً ، وجارٍ آخر قد استقبل عدداً من الزوار ، وهو في حسراته ويتمنى أن عنده ديوانية ( براني في بيته ) تتسع لهذا العدد ، لكنه بيت لا تبلغ مساحته خمسون متراً ما فيه إلا غرفتين فقط ، لا يتسع إلا هو وزوجته وابنه الصغير علي ذي الخمس سنوات وقد تركه مع الزائر الأجنبي هو وزوجته يقوم بخدمتهما ، ويعين أمه في خدمة الزوار.
وما زال ابو علي متكئاً على سيارته التكسي الصفراء ، وقد أوشكت الشمس الصفراء على المغيب ، وهو لم يحصل على أية مبلغ حتى يأتي به عشاء إلا زواره .
بدأت الشمس تنزل شيئاً فشيئاً مودعة يوم لا يعود ، وليحل الظلام يزحف كأنه عباءة سوداء لامرأة ليغطي النور ويحل الليل ، وقد كاد آذان المغرب أن يُرفع من مأذنة المسجد الذي بجواره .
وأبا علي وهو في دوامة تفكيره يضربُ أخماساً بأسداس ، وإذا به يلمحُ شبحاً من بعيد يقترب إليه بخطوات ثقيلة ، فيحدق النظر به ، وإذا به يقترب له شيئاً فشيئاً .
وكلما اقترب تتضح معالمه ، حتى بدى على رأسه عمامه ، بقى أبو علي واجماً من هذا ؟
وهل هو أمام معصوم ، أم صاحب العصر !
وصل صاحب العمامه إلى أبي على وبعد السلام فتح باب السيارةوجلس على الكرسي .
-(يلّه حجي مستعجل اريد اوصل لمسجد الحسين الناس منتظرتني لصلاة الجماعة )
-(ابو علي بخدمتكم مولانا )
وقد انفرجت اساريره ، وتهلل وجهه فرحاً
اوصل الشيخ إلى المسجد قبل أن ينتهي آذان المغرب
التفت الشيخ إلى أبي علي ( حجي تنتظرني أكمل الصلاة حتى ترجعني للبيت وبيك خير ودلل بالأجرة ، لو انطيك اجرتك وتروح )
- لا لا شيخنا اريد الأجرة زوار ابو علي عندي وگبل أخذ الكروه منك وأمر عله السوگ أخذ دجاجه ومسواگ الزوار ينتظروني )
- دمعت عينا الشيخ وقال : سيدي ابا عبد الله ما هذا العشق ؟
وما هذا الحب ؟
ماذا صنعت بهذه النفوس !
هذا صاحب التكسي لا يملك شيئاً منتظراً الأجرة حتى يأخذ العشاء لزوارك .
ما هذا العطاء ؟
وما هذه التربية ؟
وما هذه التضحية ؟
وما هذه المواساة والإيثار ؟
نعم سيدي إنها الدروس التي تعلمها هذا الإنسان البسيط من واقعة الطف .
إنها ثمرات تلك التضحيات التي كانت على أرض كربلاء .
إنها تلك الدماء التي سقت هذه الأخلاق .
إنه عطاء الطف .
إنه الحب الذي يصنع الرجولة والقيم والمبادئ .
إنه ميدان التسابق إلى الفضيلة .
- سيدي يا أبا عبد الله وفق الحجي أباعلي وكل خدمتك بالتوفيق لهم في حياتهم الدنيا ، والشفاعة لهم في الأخرى
- بقلم الشيخ مظفر علي عبد الحسين الركابي
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat