من الأمور التي منحها الله تعالى للإنسان ليوصله الى الرأي الصائب والموقف السليم هو العقل والقدرة على استخدامه ,لأن تشخيص الخطأ لمسألة معينة أو تبني رأياً معيناً أو يمكن تداخل عناصر عديدة ضمن مشكلة واحدة تُفقد الإنسان القدرة على التوازن مما سيفضي به في نهاية المطاف الى تبنيه رأياً أو مبدأ أو عقيدتاً غير قابلة للنقاش أو التعديل فضلاً عن النقد .
والقران الكريم الذي يحدثنا عن النجاح وأدواته ومقوماته ويذكر لنا أمثلة عنه , بنفس الوقت يذكر لنا الفشل وأسبابه ونتائجه , ويحذرنا أن نتورط به سواء على مستوى الفرد أو على مستوى المجتمع ,ولعل من أهم عوامل الفشل هو أن يكون الإنسان قافلاً ورافضاً لكل أنواع النقاش المتعلق بالمبدأ الذي يتبناه . قال تعالى : قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين . (الشعراء: 136) , فلا يمكن لمثل هكذا شخص أن نتوقع انه سيغير من رأيه لمجرد النقاش أو سماعه الحجج المنطقية لأنه سيرفض الانصياع للحقيقة وسيخبرك بموقفه السلبي مقدماً وسيزيد من إصراره وتمسكه برأيه الذي يعتقد انه صائب ويحاول الآخرون حرفه عن جادة الصواب , قال تعالى : واني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا . (نوح: 7) , وقال تعالى أيضا :﴿ وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ (الأنفال : 32) .
ومن الواضح أن تركيبة الإنسان تكون ميالة لسماع الآراء التي توافق رأيه أو الإشادة به من الآخرين , بينما يشجع الدين الإسلامي أتباعه على تبادل وطرح الآراء وإظهار الاحترام للآخرين وان لم تكن هناك قناعة بها , لامتصاص حالة التشنج والمحافظة على المودة وكسب الآخرين , وبنفس الوقت نرجو التأثير على نفوسهم وسلوكهم وهو ما نحتاجه اليوم في مجتمعنا , ورد عن رسول الله (ص) أنه قال : «لا تكونوا عونا للشيطان على أخيكم» . (صحيح التجاري ). , وفي سيرة الإمام زين العابدين (ع) أنه مر يوما برجل فبادر الإمام بالسب والشتم فمشى الإمام معرضاً عنه كأنه غير مقصود بكلامه , فاقترب إليه الرجل قائلاً إياك أعني , وأجابه الإمام فوراً : وعنك أغضي وانصرف عنه . ومرة أخرى افترى عليه رجل وبالغ في سبه فالتفت عليه الإمام (ع) بهدوء وبرودة أعصاب قائلاً : إن كنا كما قلت فنستغفر الله , وان لم نكن كما قلت : فغفر الله لك . (باقر شريف القرشي ,حياة الإمام زين العابدين :77 ) , وفي بلادنا كما في غيرها من البلدان نكون بأمس الحاجة الى شرعنه التعددية وعدم إلغاء الأخر وان يفهم الجميع انه لا مجال للتعايش إلا بقبول الآخر واحترامه ذاتاً ورأياً وعقيدتاً .
وفي التجربة التي أسسها رسول الله (ص) في المدينة المنورة خير دليل على فكرة التعايش , فلم نقرأ أو نسمع أن هناك شخص قُتل أو سُجن أو نُفي بسبب الاختلاف في الدين أو العقيدة أو الرأي وهو ما أكده قولة تعالى : ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) ﴾(سورة الكافرون ).
وذات الأمر نلاحظه في زمن أمير المؤمنين (ع) وتعامله مع الذين جيشوا الجيوش وقاتلوه فلم يكن قتاله معهم بسبب اختلاف في الرأي أو في العقيدة وإنما بسبب تجاوزهم القانون وتهديد هم للسلم المجتمعي , وقد منع أمير المؤمنين (ع) أن يقاتلهم احد بعده بقوله : لا تقاتلوا الخوارج بعدي فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه .( نهج البلاغة : 61 ) .
فهو (ع) بذلك يرفض الدعوات التي تحرض على قتال كل من يختلف معه برأي أو فكرة أو عقيدة وإنما يشرع القتال بسبب خروجهم عن القانون والنظام وسفك دماء المسلمين , أما باقي الحقوق ( حقوق المواطنة ) فلم يحرمهم منها وخاطبهم مباشرة قائلا : إن لكم عندنا ثلاثا : لا نمنعكم صلاة في هذا المسجد , ولا نمنعكم نصيبكم من هذا الفيء ما كانت أيديكم في أيدينا ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا . ( تأريخ الطبري , ج 5 :626 )
وكان (ع) بهذا السلوك ينطلق من قاعدة قرآنية متينة , أكدها قوله تعالى : ﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ ( المائدة : 33 )
إذن التعايش وقبول الآخر رهن الحوار الهادف الذي ينطلق من الأرض المشتركة ويراعي أليونة والوسطية والهدوء أما ثقافة ( أسكت ولا تتكلم ) فإنها لا تصل بنا الى الهدف المنشود , ونحن نحتاج الى علاج لهذه الظاهرة يبدأ من المنزل ثم المسجد والمؤسسات التربوية والإعلامية وليست مسؤولية فرد بعينه .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat