صفحة الكاتب : د . راغدة المصري

المرأة في الطف (الحضور والشهادة)
د . راغدة المصري

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 أحدثت المرأة في حضورها المميز في النهضة الحسينية وارتباطها بالفكرة العقيدية، تحوّلا في فهم دور الأمومة والزوجية والاخوة، وقدمت أنموذجًا تربويًّا خالدا للتاريخ، حينما كانت تحفّز وتبعث الهمم وتشدّ الأزر، وقد وصل الأمر ببعض النساء إلى المشاركة في المعركة وحتى الاستشهاد.. فمنذ أن حدد الإمام الحسين(عليه السلام) أهداف خروجه للانتفاضة، والتصدي للظلم والعدوان، وإذا المرأة بأبعاد شخصيتها النوعية تتجسد كشريك وُظف حضورها الفاعل في النشاط الميداني للتعبئة، والتحريض على الجهاد.
وجاء الحراك النسوي  في النهضة منطلقاً من دافعين:
الدافع الأوّل: الإيمان بأهداف النّهضة الحسينيّة، وتثبيت منطلقاتها للحفاظ على كل ما يتعلّق بها من أهداف آنيّة وبعيدة المدى، أي  التكتيكيّة والاستراتيجيّة. والتي أعلنها الامام الحسين (عليه السلام):
" مَنْ رَأَى سُلْطَانًا جَائِرًا مُسْتَحِلاً لِحرَمِ اللَّهِ، نَاكِثًا لِعَهْدِ اللَّهِ، مُخَالِفًا لِسُنَّةِ رَسُولِ الله، يَعْمَلُ فِي عِبَادِ اللَّهِ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، فَلَمْ يُغَيِّرْ عَلَيْهِ بِفِعْلٍ وَلا قَوْلٍ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ مُدْخَلَهُ، أَلا وَإِنَّ هَؤُلاءِ قَدْ لَزِمُوا طَاعَةَ الشَّيْطَانِ، وَتَرَكُوا طَاعَةَ الرَّحْمَنِ، وَأَظْهَرُوا الْفَسَادَ، وَعَطَّلُوا الْحُدُودَ، وَاسْتَأْثَرُوا بِالْفَيْءِ، وَأَحَلُّوا حَرَامَ اللَّهِ، وَحَرَّمُوا حَلالَهُ، وَأَنَا أَحَقُّ من غيري"(1).
 خطاب الامام الحسين (عليه السلام) عام لكل الناس وليس خاصاً بعهده، بل كل زمان ومكان، وتبيان لدور الفرد بعملية التغيير، وواجبه المطالبة بحقوقه، وحقّه في التعبير عن رأيه، والتصدي للحاكم المستبد قولاً وفعلاً: الذي "يَعْمَلُ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، ينشر الْفَسَادَ، يعطَّل الْحُدُود والقوانين، يستأثر بما يفيء به الله على المسلمين وعلى الناس". فالحراك الحسيني له طابع انساني، مرتبط بالتنمية البشرية بكافة جوانبها: الاجتماعيّة، الاقتصاديّة، الحقوقيّة (اقامة القضاء)، المعرفية (ارشاديّة اصلاحيّة) للعودة الى الدّين الحنيف.
 إنّ خروج الامام الحسين(عليه السلام) كان للإصلاح  في أمّة جده، وتحقيق العدالة الاجتماعية: ”وإنِّي لم أخرج أشِراً ولا بَطِراً، ولا مُفسِداً ولا ظَالِماً، وإنَّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أُمَّة جَدِّي (ص)، أُريدُ أنْ آمُرَ بالمعروفِ وأنْهَى عنِ المنكر، وأسيرُ بِسيرَةِ جَدِّي وأبي علي بن أبي طَالِب (عليه السلام)، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق"(2).
 ولا يكتمل الاصلاح الا بوجود المرأة التي تعدّ ركيزة اساسية في البناء المعرفي لعملية التغيير، بدورها التربوي المفعم بالعطف والمحبة والحنان، وزرع قيم الخير والعدالة والجمال, فكان للمرأة الدور البارز والكبير في المشاركة السياسية وصنع القرار، وكانت ملتزمة بوسائل الحراك التي حددها الامام الحسين(عليه السلام:(
 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
- السلمية: سيعتمد الصبر إلى أن يقضي الله بينه وبينهم.
- المعيار الأساسي: الحق.
 الدافع الثاني: اليقين بتحقيق أهداف النّهضة الحسينيّة، وانتصار الدم على السيف، وكانت الصبغة الدينية الملازمة للعمل باعثاً لامتلاك الدافع الايماني والهمة العالية. والصبغة صفة ملازمة لمجتمعنا المتدين، ولا  تنفك عنه، فهي تلازمه ملازمة الروح للجسد، وأي جهود منزوعة الصبغة الدينية، لن تكون لها نتائج إيجابية، فالدعوة  صريحة للعبادة في قول الله تعالى: ((صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ)) [البقرة: 138]. 
وصبغة الله سبحانه، هي التي خلق الله الناس عليها، وأطلق عليها تسميات مختلفة تارة بـ(الفطرة)، وأخرى (التوحيد)، وثالثة (الميثاق)، أو الولاء والولاية لله، والانتماء إلى الله ورسوله وأهل بيته (عليهم السلام)، وهي الاعتقاد الفكريّ والروحيّ والاتّباع العمليّ الذي يُعطي الرفعة والمكانة السامية في الدنيا والآخرة.. وهي تشخيص الهويّة لفرد أو جماعة متميّزة بالفكر والعقيدة والقيم والسلوك.
والصبغة باعث لامتلاك الدافع الايماني المنظم للحركة، في شخصية الفرد العامل، صاحب الهمّة العالية التي تعطي الإنسان العامل إرادةً قويةً لإنجاز الأعمال، متحدّياً كافّة العقبات، وعلو الهمة: هو مدى القوة التي يتمتع بها هذا الدافع. وجاء تعريف الهمــة لغوياً بعدة معانٍ منها ما جاء في لسان العرب: "والمهمات من الأمور الشدائد المحرقة... وهمّ بالشيء يهم همّاً: نواه وأراده وعزم عليه"(3).
ارتقت نساء الطف بهمتها العالية من خلال:

الوعي الديني: انطلق نساء الطف بهمّة عالية، جوهرها الدافع الايماني، الذي هو ركيزة الأعمال، أصل قبولها، وقوة الإيمان في القلب ترتقي بصاحبها إلى أعلى الدرجات الممكنة من العمل والبذل والصبر والتفاني.. وما يصحب هذا العمل من أحكام: جهد وعمل، وإتقان، وأمانة وإخلاص:
 - اطاعة الله تبارك وتعالى، وهو الهدف من الحياة: "وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ". (البينة: 5).
- طاعة الرسول والتمسك بكتاب الله تعالى، وسُنّة رسوله وأهل بيته (عليهم السلام)، ففيهم الخير والفوز والفلاح في الدنيا والآخرة: "وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا" (الاحزاب: 71).
- التأسي برسول الله وأهل بيته (عليهم السلام): ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا)). (الاحزاب: 21).
 إن الإيمان الصادق ليس مجردَ إدراك ذهني، أو تصديق قلبي، غير متبوع بأثر، إنما اعتقاد، وحقيقة الإيمان في قلب المؤمن تتجسد بالعمل، والهمّة العالية هي لمن ينشد الآفاق البعيد، ويحمل أهدافاً بعيدة، وطموحاً عالياً، وفكراً مبدعاً في عمله وحركته وسلوكه، ومن دونهما فهو إنسانٌ متثاقل إلى الأرض، راضٍ بواقعه مستسلم لظروفه، لا تتوسّم فيه خيراً.
 إن الوعي الديني الذي امتلكته نساء الطف أمدّهن بقدرات هائلة على  العمل والتحمل والصبر الشجاعة والأمل والإخلاص والتوكل والثقة بالله وبالنفس غيرها.. فكنّ نساء واعيات مؤمنات بالأهداف الاصلاحية، مبلغات، يُعَرِّفْنَ الناس بالقضية والنهضة وأهدافها وأسبابها، وكنّ بعد المعركة محطة اخبارية متنقلة، في مسير السبي، وبين الناس، مما أدى الى تخليد النهضة الحسينية في الوجدان الشعبي كل هذه القرون.
الصبر والثبات: والتجلد في تحمل المصاعب والمحن، والابتلاءات الفردية والاجتماعية.  أعظم الناس وأعلاهم همة، الأنبياء ورسول الله وأهل البيت (ص)، لذلك أمرنا الله تعالى أن  نصبر مثلهم، فالأنبياء وأهل البيت (عليهم السلام) امتلكوا صفة علو الهمة بالارادة القوية، فقد منّ الله تعالى على بعض بها فجعل اولو العزم أفضلهم قال تعالى: "فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ" (الاحقاق: آية 35).
لم تخرج النسوة في كربلاء عن صبرها, فترى الحوراء زينب (عليها السلام) بعد استشهاد الإمام (عليه السلام) تتقدّم بكلّ ثبات وجلال من الجسد الطاهر وتزفّه إلى السماء قائلةً: "اللهم تقبّل منّا هذا القربان".
 تجلت أدوار الأمومة والزوجية بأبهى صورها، ضمن دائرة الأهداف العامة في سبيل نصرة الإمام الحسين (عليه السلام)، فتحولت بذلك إلى أدوار رسالية ومحطات انطلاق لرسم هوية ثائرة للمرأة المسلمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومن مشاهد وصور كربلاء النسوية :
 زوجة زهير بن القين: التي  حرّضت زوجها على اللقاء بالإمام الحسين (عليه السلام) في الطريق، وهي تعلم أنّ الإمام سيلقي عليه الحجّة بالنصرة التي سوف ينال من بعدها الشهادة، وبعد عزمه على المضي مع الإمام, قالت له: خار الله لك, وأسألك أن تذكرني يوم القيامة عند جدّ الحسين (عليه السلام).

أمّ وهب: عندما أعلمها زوجها بنيّته الالتحاق بركب الإمام الحسين (عليه السلام) قالت له: أصبت أصاب الله بك أرشد أمورك، افعل واخرجني معك، ولمّا برز زوجها للقتال حملت عموداً بيدها، وتقدّمت للقتال قائلةً: "فداك أبي وأمّي، قاتل دون الطيّبين ذريّة محمّد".
 وكانت السيدة زينب(عليها السلام) الوجه الآخر للنهضة الحسينية، ارتبطت بالحدث وارتبط بها، مما جعلها بطلة عظيمة، ليس فقط بسبب ما فعلته، ولكن بفضل سجاياها وماهيتها وقدرتها في أن تحمل الناس على التأثر والإقتداء بها.
 وتجلى  البعد  التنموي (المعرفي- الحقوقي) للنهضة معها بشكل خاص، من خلال :
- تعبئة طاقات المجتمع وإرشادها الى الطريق الصحيح، وزرع القيمّ الاسلاميّة الاصيلة  التي استشهد من أجلها الامام الحسين(عليه السلام.(
 -إزالة حواجز العجز والتبعية والذل، بخطبها الثوريّة المباشرة، التي واجهت بها الحكّام الأمويين في مجالسهم، ففضحت الوجه المزيّف للحكم الأمويّ، وبثّت روح الحريّة والعدالة والعزّة والنصر والأمل في الأمة، من خلال الوعي بمفهوم الحرية والظلم  والعدوان والمقاومة، وكيفية مواجهة الاستبداد والإرهاب.
 أعطت بطلة كربلاء النهضة الحسنية بُعدها المكاني والزماني، أمدّتها بعناصر الاستمرار والتجدد؛ لما حوته من  قيم اسلامية عالية، منذ لحظة وقوعها إلى اليوم وحتى المستقبل، أعطاها الصبغة العالمية لحركات ثورية متعددة .
 فإذا ببطلة كربلاء(عليها السلام) تعاصرنا بأبعاد شخصيتها النوعية وتتجسد بيننا، ونسمع الصوت الزينبي يتردد صداه في الاثير، في العراق، مع الحشد الشعبي، وفي لبنان مع المقاومة، وايران، وسوريا، والبحرين، واليمن... من خلال رسالتها الاعلامية الخالدة في التاريخ التي أوصلت صرخة الحسين (عليه السلام) الى كل مكان وزمان، يرزح تحت نير الظلم؛ ليكون "كل يوم عاشوراء، وكل ارض كربلاء"، وها نحن نخط اليوم تاريخنا بالدماء الحسيني، تكتب حروفه زينبيات العصر .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج/3،307، 
  المجلسي، بحار الانوار،ج/ 44-229
  - لسان العرب لأبن منظور 12/ 620.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . راغدة المصري
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/03/23


  أحدث مشاركات الكاتب :



كتابة تعليق لموضوع : المرأة في الطف (الحضور والشهادة)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net