مرت الأيام، وهي حبلى بالأحداث، لتمسد جفوناً خالجها النوم، فالروح كغصن أسير يتلوى على مدارجها.. يسكب الليل أفيونه لينام ملء جفونه، ثمة حدث خلف الستار، يقوده الى مبتغاه، فكلماته التي تصدح بحب آل البيت (عليه السلام) في مجالس العزاء، لم تعد تفي بالغرض، فأبجدية المعارك بحاجة الى حتوف الأبطال .
تألق الأمل في عينيه، فقلبه ينبض بهدوء، وهو يسرد رؤياه على عمته:
- ياسر، أيها الحبيب، انه اللقاء، فالشهادة كرامة من الله تعالى.. فتشبث برؤياك..!
السماء تزخر بالنجوم، والقمر يسح بأنواره، يرسل ضوءاً ذهبياً؛ ليرشد تلك الأرواح الى سفر الخلود..
الأرض ستهدي فلذات اكبادها، لتزهر الحياة بنجيع دمائهم..
فقبل استشهاده بيوم، وسم ياسر ساعاته الأخيرة، مرتشفاً من كأس العاشقين في رياض العسكريين (عليهما السلام)، صلى صلاة المودعين ..
فثمة هاجس يطرق شغاف قلبه.. ما أقرب اللحاق بقافلة سيد الشهداء..
رنّ هاتفه.. اطال النظر الى شاشته.. وكأنه يرى صورتها بعد استشهاده..!
رق قلبه لها، ترقرقت دموعه في زوايا عينيه..
(- هلا يمه اشلونكم، زرت ودعيتلكم، سلميلي على ابوي واخوتي، وديري بالج على نفسج.
- يمه ما اوصيك.. دير بالك على نفسك.
ساد الصمت.. وكأنه يود أن يقول لها: يمة.. من يوصلج خبر استشهادي.. كولي ابني البطل ميخاف سواها.
- في امان الله.. ادعيلي يمه وصيري قوية..)
كنخلة ميساء تسمرت في مكانها، طوقتها الافكار والتساؤلات:
هل ينعى نفسه.. وهل هذا الوداع الأخير..؟
فعند بوابة الانتظار، تناثرت كلمات القائد على شغاف قلوبهم كالبلسم.. إن هذا يومكم، يوم يبرز فيه الأبطال، ويوم تعانق ارواحكم فيها ارواح الماضين في الدفاع عن المذهب، سيفيض نحركم دماً عبيطاً، ليحبس التاريخ أنفاسه عند رذاذ الخطوب، فمن أراد الحياة الأبدية، فليلتحق بي.. العدو لا يبعد عنا سوى امتار.. فإما النصر أو الشهادة..
انتفض قبل اصدقائه منادياً: نحن لها، هيهات من الذلة.. إن لم يجبك بدني عند استغاثتك.. ولساني عند استنصارك.. فقد اجابك قلبي، وسمعي، وبصري، ونحيبي، وزفرتي، وعويلي، وشهيقي، وبكائي، وانقلاب أحوالي، وجميع ما يتعلق بي..
سار امامهم، والمنايا تلتحق بهم على اثر شذاهم، ففي قاطع (المكيشيفة) أبلى رجال الله بلاء، بلغت فيها القلوب الحناجر، وزلزلوا زلزلاً عظيماً..
اصوات الرصاص امتزجت بصيحاتهم:
الله اكبر.. لبيك يا داعي الله..
ضربوا لهم من بين السواتر الى الخلد طريقا عذباً..
مرت ثلاث ليال، وغيمة الحزن تطوف على وجه والده..
انقطع الاتصال به، وضع يديه على وجهه، وكأنه يخترق المسافات، ليصل اليه: (اين انت) فثمة هاجس يومض في داخله؛ ليكشف له الأسرار.. نهض بخطى واهنة..
اسبغ وضوءه.. افترش سجادته:
- الهي.. يا راد يوسف ليعقوب من بعد مغيبه، ويا كاشف ضر ايوب.. اردد عليّ ولدي ياسر..
عيناه تعلقت بالسماء، وقلبه يناجي غائباً طال انتظاره..
هل غفت عيناك واستعجلت الرحيل..
فيا أيها الراحل.. تمهل لم يحن بعد الوداع..
ففي دياجي الليل.. اليك الروح تحبو.. وقد أظناها الاشتياق..
تردد الأصداء صوتك.. ليغسل وجهك المرمل ألف دمعة..
وألف دمعة تأهبت واحتشدت.. لتؤدي تحية الشرف العسكري لروحك.. وهي تحلق نحو الزرقة المتسامية، حيث الروح والريحان، والشهداء والصديقين..
تبكيك امك تخاطبك:
- كيف تغفو وتنام..؟ انت حلمها الأجمل.. سابقى على عتبة الانتظار.. أقبع.. أعد اللحظات لأراك..
مع خيوط الفجر الندية.. يهمس لي طيفك باشتياق:
(يمه ذكريني من تمر زفة شباب)
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat