ثورة العشرين العراقية رمز للشموخ والتحدي
السيد زين العابدين الغريفي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
السيد زين العابدين الغريفي

لا يُمكن لمقالة أن تستوعب ثورة أمَّة لها مقدماتها وأحداثها ورجالها ونتائجها كما هي ثورة العشرين في العراق التي فيها الكثير من الدروس والعِبَر والمواقف البطولية التي تحكي عن مطالب الأمَّة في التحرر والسيادة والعزَّة ... ورفض كُل مصادر الذل والمهانة والإستعباد والعمالة ، ولذا صارت رمزاً ونبراساً يعتز بها أحرار العراق وظل وقع صداها يرّن في أذهان العالم .
ومعلوم تأريخياً أنَّ الثورة انبثقت من الفرات الأوسط وقادها وحثَّ عليها علماء النجف وكربلاء وتفاعل معها العشائر العراقية الحُرَّةِ الأبية فنهضوا للكفاح المُسلَّح ضدَّ المُحتل البريطاني جنباً إلى جنب مع علمائهم ومراجعهم ، وعلى الرغم من عدم وجود التكافؤ بين المحتل والمجاهدين الأحرار في العدَّةِ والعَدَد إلاّ أنَّ الإرادة الإيمانية والدوافع الوطنية المشروعة والدفاع عن حقوق الإنسان كانت أقوى لتستنهض الهِمَم وتزيل العوائق والمُثبِّطات وتتحدّى الطاغوت وتُثبِت وجود الوعي والإرادة والمقاومة والتحدِّي لدى الشعب العراقي لرفع براثن الجراثيم والفايروسات القادمة من الغرب وإزالتها عن أرض المسلمين العرب .
ولم يكن هذا أمراً بسيطاً بل يحتاج إلى عملٍ وتعاون وجهاد وتضحية لأنَّ طبيعة استنقاذ الحقوق من الطواغيت تتطلب ذلك ، حيث عمل المُحتل على حبس الرجال المعارضين والمقاومين أو نفيهم إلى بلاد نائية أو قتلهم وفِعِل كل ما هو قبيح وفاسد بحق الشعب وقد بذلوا وسعهم لزرع آفات الجهل والمرض والمجاعة بين أبناء الشعب بما لا يناسب المقام بيانها ، والإعتداء أيضاً على كرامته ومقدراته ، ولذا انبرى المرجع الكبير السيد محمد سعيد الحبوبي (قدس) في عام 1333 هـ الموافق1915م إلى مواجهة قوّات الإحتلال الإنكليزي حيث خرج إلى الناصرية لقتالهم مع مجموعة من المجاهدين ، ولمَّا انتشر خبر خروجه إلى الناصرية خرجت معه الجموع الكبيرة للقتال معه ، وقد قدَّمت له الحكومة العثمانية أموالاً قدرها خمسة الآف ليرة ذهبية كمساعدة له على مواصلة جهاده ولكنه أبى ورفض قبولها قائلاً :(( ما زلت أملك المال فلا حاجة لي به ، وإذا ما نفذ فشأني شأن الناس آكل مما يأكلون وأشرب مما يشربون)) هكذا هو فعل القادة الرساليين الذِّين لا يبيعون أنفسهم إلاَّ لله تعالى ولا يتعاملون إلاَّ بما هو مشروع فيزهدون في الدنيا ويتورعون عن ارتكاب الشبهات فضلاً عن المحرمات ، وجاهد أحسنَ جهاد وأدَّى وظيفته ورسالته ومَرَّت عليه ظروف عصيبة ولكنه يقوى عليها بإيمانه وتقواه وحُسُن ظنِّه بالله تعالى ورضاه بقضاء الله وقدره إلى أن وافته المنية في عشية الأربعاء في الثاني من شعبان من عام 1333هـ الموافق 1915م في الناصرية ، وحُمِلَ جثمانه الطاهر إلى النجف الأشرف ، وفارق الدنيا وهو لا يأسف على شيء كأسفِهِ أنَّه سمعَ ورأى محتلاً غاصباً يدوس أرض وطنه بصورة فاتح ، ولكنَّ الأحرار في العراق لم يتركوا الجهاد ولم يرضخوا لإرادة المُحتل ولم يقبلوا بوجوده وبقاءه فكانت ضريبة ذلك هو القتل والحبس والنفي والمطاردة والحصار ... فبقيت الثورات والانتفاضات الشعبية تتوالى وتزداد ضد المحتل ، حتى عام 1920 م التي اشتعلت فيها شرارة الثورة من جديد ابتداء من قضاء الرميثة على يد عشيرة الظوالم بقيادة الشيخ شعلان أبو الجون الذي كان مسترشداً وممتثلاً لرأي المرجعية الرشيدة المتمثلة بالمجدد الميرزا الشيرازي الذي أصدر فتواه الشهيرة ــ والتي انتفضَ لأجلها العراق بأجمعه ــ : (( مطالبة الحقوق واجبة على العراقيين ويجب عليهم في ضمن مطالبتهم رعاية السلم والأمن ويجوز لهم التوسل بالقوَّة الدفاعية إذا امتنع الإنكليز عن قبول مطالبهم )) .
وقد اجتمعت أسباب وعوامل متعددة لإشعال الثورة وايقادها أهمها :
1 ــ عدم ايفاء بريطانيا بوعودها اتجاه الشعب العراقي بنيل العراق الاستقلال التام والسيادة غير المنقوصة على جميع أراضيها .
2 ــ سوء المعاملة التي تعرض لها الشعب العراقي ، وتوهين الرموز الدينية والإجتماعية ، وتفضيل الأجانب في الوظائف كالهنود والأرمن داخل العراق في ظل الحكم الأجنبي .
3 ــ مطاردة القادة الوطنيين وزعماء الحراك ونفيهم خارج البلاد ، وكان أبرزهم الميرزا محمد رضا نجل المجدد محمد تقي الشيرازي (قدس سره) .
فثارت حفيظة العراقيين وقرروا الانتفاضة ضد الحكم الإنكليزي بكافة الوسائل المشروعة ، بتوجيه ورعاية من المرجعية الرشيدة على طول الثورة .
ولأجل ذلك طلب الحاكم العسكري في النجف الأشرف من العلماء الكبار أن يكتبوا للإمام الشيرازي رسالة مواساة لنفي نجله الميرزا محمد رضا الشيرازي في ضمن اجتماع بحضور سماحة الشيخ عبد الكريم الجزائري والشيخ الجواهري والشيخ عبد الرضا ومعهم الحاج محسن شلاش ، فقاطعه الشيخ عبد الكريم الجزائري وقال : أيّ ولدٍ يعنيه حضرة الحاكم من أولاد الميرزا الإمام الشيرازي (أهو حاج مخيف أم أولاده أحرار الحلَّة أم أولاده رجال كربلاء إذ أنَّه لم يبلغ هذه المنزلة التي هو عليها إلاَّ لأنَّه ينظر إلى جميع العراقيين بصفتهم أولاده ) .
وبعد صدور الفتوى المباركة صار العراقيون أكثر إقداماً وتحدّياً وارتباطاً بالعلماء ، فاجتمع زعماء العشائر في دار عبد الواحد سكر بأمرٍ من سماحة الإمام الشيرازي والقيادة في كربلاء وقد ثبَّتوا المطالب العراقية كآخر وسيلة لحقن الدماء ومن ثمَّ سلَّموها إلى الحاكم البريطاني الميجر نور بري وكانت المطالب هي :
أولاً : أن يُمنح العراق استقلالاً تامّاً لا تشوبه شائبة .
ثانياً : أن يتوقف القتال في الرميثة واطرافها حالاً .
ثالثاً : أن يتخلَّى الحكّام السياسيون مع جميع القوّات البريطانية عن مراكز الفرات وبلداته إلى بغداد لتدور المفاوضات بين زعماء الأمَّة العراقية والسلطة البريطانية المحتلة بشأن تقرير مصير العراق بجو هادئ .
رابعاً : أن يُطلق سراح الميرزا محمد رضا نجل الإمام الشيرازي ويفرج عن أحرار العراق المنفيين إلى جزيرة هنجام وغيرها كافة بلا استثناء دون قيد أو شرط .
وقد التفَّ العلماء ومراجع التقليد حول قيادة المجدد الشيرازي في وحدة واعية متعاونة لتكثيف الجهود من أجل طرد المُحتل ، وعندما رُفِضَت هذه المطالب استعد الجميع للإنتفاضة والثورة ، وفي يوم الأحد 24شوال /1338هـ الموافق 11تموز /1920م تقدمت جيوش العشائر وواجهت قوّات الإحتلال وهي تزحف بين المناطق والمحافظات حتى دمَّروا وأحرقوا لهم الباخرة الحربية (فاير فلاين) بعدما هجموا عليها في الشامية وقد اضطرت للفرار إلى الكوفة ثم تَمَّ ملاحقتها واحراقها في الكوفة ، وقد أحدث الثوّار خسائراً كبيرة في جيش المُحتَل في العَدد والعدَّة ما بين القتل والأسر وغنائم الحرب العسكرية ، وبعد أن وصَل أسرى الجيش البريطاني إلى النجف الأشرف كتب شيخ الشريعة الأصبهاني إلى مسؤول الثُوّار ما يلزم في الشريعة الإسلامية من معاملة الأسرى قوله : (( سلام عليك وثناء على اخلاصك وبعد فغير خفي على نباهتك أنَّ للأسرى في الشريعة الإسلامية مكانة عالية فالعناية بهم فرض والتوجه إلى إكرامهم حتم)).
وقد تعدّدت وقائع ثورة العشرين ولكلِّ واقعة شخوصها وأحداثها ابتداء من الرميثة مروراً بالشامية وأبو صخير والكوفة والنجف الأشرف والرارنجية وكربلاء والحلّة وبغداد ... . فكانت الثورة الشرارة التي أدت إلى استقلال العراق بعدما قتل العراقيون من البريطانيين زهاء مائة ألف ، وقتل البريطانيون من العراقيين زهاء مائتي ألف .
وفي الختام أقول : إن هذه الثورة الخالدة قد جسدت بوضوح مدى ارتباط الجماهير بالفقهاء والعلماء ، كما كشفت عن مدى حب العراقيين لاسيما أهل الفرات الأوسط والمناطق الجنوبية لبلدهم وتفانيهم وبذلهم مهجهم في سبيل تحقيق الاستقلال والسيادة ، وعلى الرغم من شدة بطش الجيش الإنكليزي ومعاملته الوحشية إلا أنه لم ينسلخ المجتمع العراقي عن مبادئه وقيمه التي استقاها من الدين الإسلامي الحنيف فجسدوا أسمى وأروع صور النبل والسماحة والأخلاق في التعامل مع العدو المحتل ، وكأن لسان حال الشاعر يتكلم عنهم في هذه الأبيات الخالدة :
إنَّا لقوم أبَت أخلاقنا شـــــــــــــرفاً *** أن نبتدي بالأذى مَن ليس يؤذينا
بيضٌ صــــنائعنا سُــــــودٌ وقائعنا *** خُضرٌ مرابعنا حُمْرٌ مواضــــينا
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat