جابر بن حيّان بين الكيمياء والتصوّف والفلسفة
نبيل محمد حسن الكرخي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
نبيل محمد حسن الكرخي

لا يخفى الدور المهم والحيوي الذي تم على يد جابر بن حيّان حيث انتقلت الكيمياء على يديه بفعل تلمذته على الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) من صنعة غنوصية باطنية الى علم تجريبي رصين له دور واضح في تقدّم الحضارة الإنسانية.
كان جابر بن حيّان ينتمي الى عائلة شيعية دفعت ثمن تشيعها حيث قتلت السلطة الاموية والده لكونه شيعياً من الناشطين في الدعوة ضدهم تحت شعار اعادة السلطة الى آل البيت الاطهار (عليهم السلام) والتي تحولت بعد ذلك الى الدعوة العباسية بعد استيلاء اولاد محمد بن علي بن عبد الله بن العباس عليها وتأسيسهم الدولة العباسية، ومن جانب سار في طريق التصوّف وبرع في معرفة العلوم الصوفية الغنوصية وفي مقدمتها صنعة الكيمياء الى جانب اعمقه في الفلسفة. فجمع جابر بين التشيّع والتصوّف والفلسفة.
هناك عدّة محطات تواجهنا في حياة جابر بن حيّان، إحداها هي إنتمائه الصوفي من جهة، واخذه أسس علم الكيمياء الحديثة من الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، من جهة ثانية. فهو كان صوفياً لوضوح تحصيله صنعة الكيمياء وهي إحدى الصنائع الغنوصية الخمسة (الكيمياء والليمياء والهيمياء والسيمياء والريمياء) وسائر علوم السر والجفر حتى تلقب بالصوفي او لقبه به من تحدثوا عنه! والظاهر ان هذا الامر طغى بخصوص شخصية جابر بن حيّان على سائر صفات الصوفية كالزهد والرياضات والخلوات والكشف والشهود، وحتى على الفلسفة التي خاض فيها ايضاً! وحدود تلمذته للإمام الصادق (عليه السلام) فيما يبدو هي في حدود تعليمه أسس الكيمياء كعلم حقيقي نافع للبشر.
صنعة الكيمياء
في روضات الجنات: ابو موسى جابر بن حيّان الصوفي الطرسوسي كان من مشاهير قدماء العلماء بالأفانين الغريبة من الكيمياء والليمياء والهيمياء والسيمياء والريمياء وسائر علوم السر والجفر الجامع وأمثال ذلك[1].
واستكمالا لفهم معنى صنعة الكيمياء وهدفها في ذلك الوقت نقرأ ما كتبه د. راغب السرجاني حيث يقول: (وقد جاء في (لسان العرب) لابن منظور أن الكيمياء كلمة عربية مشتقة من كَمَى الشيء وتكمَّاه: أي ستره، وكَمَى الشهادة يكميها كميًا وأكماها: أي كتمها وقمعها. وقد فسَّرها أبو عبد الله محمد الخوارزمي (ت 387هـ) في كتابه (مفاتيح العلوم) بقوله: "إن اسم هذه الصنعة كيمياء، وهو عربي، واشتقاقه من كمى ويكمي: أي ستر وأخفى"، وهذا يتفق مع ما ذهب إليه الرازي حين سمَّى كتابيه في الكيمياء "الأسرار" و"سر الأسرار")، ثم يقول: (إذا كنا قد ذكرنا أن علم الكيمياء علمٌ إسلاميٌّ اسمًا وفعلاً، فلا ينفي هذا وجود ما كان يُسمَّى "الخيمياء"، وهي ذلك الفن القديم الذي قال البعض بنشوئه في مصر، وقال آخرون في الصين (القرن الثالث أو الخامس ق.م)، وكان أيضًا عند اليونان والسريان في حضارتهم. ولكن الحقيقة أن الخيمياء اليونانية والسريانية لم تكن ذات قيمة، ولم يكن لها علاقة بالكيمياء الحديثة، ولا بالتفكير العلمي على الإطلاق؛ حيث اعتمد الإغريق والسريان آنذاك على الفرضيات والتحليلات الفكرية؛ إذ إن الخيمياء تلجأ إلى الرؤية الوجدانية في تعليل الظواهر والخوارق في التفسير وترتبط بالسحر، وهو ما أطلق عليه المسلمون (علم الصنعة)، والذي كان يسعى منذ قديم الزمن إلى بلوغ هدفين بعيدين:
الأول: تحويل المعادن الخسيسة، كالحديد والنحاس والرصاص والقصدير إلى معادن نفيسة، كالذهب والفضة من خلال التوصل إلى حجر الفلاسفة.
والثاني: تحضير إكسير الحياة ليكون بمنزلة علاج يقضي على متاعب الإنسان، وما يصيبه من آفات وأمراض، ويطيل حياته وحياة الكائنات الحية الأخرى).
"أن المجمع عليه أن خالد بن يزيد ابن معاوية الأموي (ت 85هـ/ 704م) كان مُبتدَأ الاهتمام بهذا العلم من المسلمين، وهو الذي كان مرشحًا للخلافة، فلمّا لم ينلها صرف همَّه من السياسة إلى العلم؛ وروي أنه كلَّف بعض الأقباط المتحدثين بالعربية مثل: مريانوس، وشمعون، وإسطفان الإسكندري بجمع بعض المباحث الكيماوية الموجودة بالإسكندرية ونقلها إلى العربية. وبهذا وصلت الخيمياء بمفهومها الخاطئ إلى المسلمين، مع ما تخللها مما كُتِبَ فيها من الأضاليل والطلاسم والأوهام، وكان هدفها آنذاك تحقيق غايات وهمية لا تمتُّ إلى الكيمياء الحقيقية بصلة؛ إذ إن الأخيرة ترتكز على قواعد وقوانين علمية"[2]. وهذا يؤكد ما سبق لنا ذكره وهو ان بني امية كانوا هم وراء انتشار الغنوصية في المجتمع الاسلامي تحت غطاء الزهد والتقشّف! فهذا "الزاهد في الخلافة" خالد بن يزيد الاموي ينشر العلوم الباطنية الغنوصية ويحرص عل ترجمة كتبها الى العربية، واصبح اسم الكيمياء (الخيمياء) مرتبطاً بالاضاليل والطلاسم والاوهام والسعي لتحقيق اهداف وهمية من قبيل تحويل المعادن الى ذهب والحصول على إكسير الحياة أي الشباب الدائم!! ثم بعد ذلك يأتي خصوم آل البيت الاطهار (عليهم السلام) ليلصقوا هذه الاوهام والاباطيل والاهداف الموهومة بالامام جعفر الصادق (عليه السلام) من خلال استغلالهم تعليمه الكيمياء لجابر بن حيّان.
ونعود الى ابن النديم (متوفى 384هـ) لنجدهُ يقول عن جابر بن حيّان: (هو (ابو موسى عامي) ابو عبد الله جابر بن حيّان بن عبد الله الكوفي المعروف بالصوفي. اختلف الناس في امره، فقالت الشيعة انه من كبارهم، واحد الابواب، وزعموا أنه كان صاحب جعفر الصادق عليه السلام. وكان من اهل الكوفة. وزعم قوم من الفلاسفة انه منهم. وله في (كتب) المنطق والفلسفة مصنفات. وزعم أهل صناعة الذهب والفضة أن الرياسة انتهت إليه في عصره، وان امره كان مكتوماً، وزعموا انه كان يتنقل في البلدان لا يستقر به بلد خوفاً من السلطان عل نفسه. وقيل إنه كان في جملة البرامكة ومنقطعاً اليها، ومتحققاً بجعفر بن يحيى. فمن زعم هذا قال إنه عني بسيده جعفر هو البرمكي، وقالت الشيعة انما عني جعفر الصادق)[3].
لقد كان اشهر ما انتجه جابر بن حيّان هو صنعة الكيمياء ثم علم الكيمياء، وصنعة الكيمياء هي جزء من االصنائع الخمسة الغنوصية: (الخيمياء (الكيمياء)، والهيمياء (الطلاسم)، والسيمياء (السحر)، والليمياء (التسخير)، والريمياء (الشعوذة) ). وكانت صنعة الكيمياء مذمومة في تلك العصور من الناحية الدينية، ولذلك نجد ان شخصاً مثل الذهبي يذهب الى تحريم الكيمياء ضمن جملة من المحرمات، حيث يقول: (والعلم الذي يحرم تعلمه ونشره علوم الاوائل وإلهيات الفلاسفة وبعض رياضتهم بل أكثره، وعلم السحر، والسيمياء، والكيمياء، والشعبذة، والحيل، ونشر الاحاديث الموضوعة ) إلخ[4]. بينما علم الكيمياء هو علم حقيقي نافع يخدم البشرية، ولذلك فقد علّمه الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) لجابر بن حيّان لما وجد فيه من النباهة والكفاءة على فهم هذا العلم وتحمل اسراره، فيما يبدو.
اساتذة جابر
نعرف ثلاثة من اساتذة جابر بن حيّان، إثنان تلقى عنهم العلوم الغنوصية وفي مقدمتها صنعة الكيمياء. حيث تصنف العلوم الغنوصية الى خمسة اصناف هي: (الخيمياء (الكيمياء)، والهيمياء (الطلاسم)، والسيمياء (السحر)، والليمياء (التسخير)، والريمياء (الشعوذة)، ويختصرها البعض بأول حرف لكل منها بكلمة: (كهسلر). وأستاذاه الغنوصيان هما حرابي حميرات[5]، وخالد بن يزيد بن معاوية. أمّا أستاذه الثالث والذي علمه علم الكيمياء بما ينفع الناس، فهو الإمام جعفر الصادق (عليه السلام).
نقرأ "في كتاب الجلداكي (البرهان في أسرار علم الميزان). جاء في هذا المخطوط: الأستاذ الكبير جابر بن حيّان ولد في الكوفة، وهو من قبيلة أسد فهو طوسي الأصل صوفي المذهب، تتلمذ في صباه على حرابي حميرات أحد المعمرين. ويذكر لنا جابر أن حميرات هذا قد عاش أربعمائة سنة؛ أي أنه ولد في سنة 200 قبل الهجرة وعاش حتى حكم هارون الرشيد، أي أنه مات سنة 170هـ تقريباً. وعن هذا المعمر أخذ جابر العلم في صباه؛ ثم رحل إلى حيث يوجد الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه وتتلمذ عليه وصار بعده إماماً. ثم اتصل بعد ذلك بالبرامكة ومارس تحت ظلهم الكثير من التجارب، وعن طريق جعفر البرمكي اتصل اتصالاً مباشراً بهارون الرشيد وأهدي إليه الكثير من كتبه. وعلى هذا الأساس فإن جابراً يُعَدّ أستاذاً للكيمياء. ومما ساعده على ذلك أنه أحضر في أيامه الكثير من المؤلفات الكيميائية اليونانية من بيزنطة إلى بلاط الخليفة في بغداد. أضف إلى ذلك أن جابراً نفسه قد انهمك في الفلسفة حيناً من الزمن ثم مات وله من العمر تسعون عاماً أي حوالي سنة 210هـ أي 820م. بعد تصنيفه لثلاث آلاف رسالة وكتاب"[6].
وحيث إنَّ خالد بن يزيد توفي سنة 85هـ، 704م، مما يعني ان جابر بن حيّان قد ولد قبل هذا التاريخ بعشرين سنة على أقل تقدير، ثم نجده يتتلمذ على يد الإمام الصادق عليه السلام (ولد 80هـ-699م، وتوفي 148هـ-765م) ، ثم نجد حياته تمتد الى تكوينه علاقة مع البرامكة قيل انه اصبح استاذاً ليحيى البرمكي وابنه جعفر في الكيمياء. فهو عمر طويل عاشه جابر بن حيّان، مقارنة بأقرانه!
وقال الجلدكي الذي اطلق عليه أسم (جابر بن حيّان الصوفي)[7] أنَّ جابر بن حيّان جمع بين ثلاثة وجوه الأول ما حباه الله سبحانه به من الفهم العالي والذكاء المفرط والهمة المتطاولة والثاني ما نقل اليه من كتب اليونان وغيرهم لأنه اجتهد في فكها وحلّها واطّلع على كافة فروعها واصولها والثالث ما اخذع عن مشايخه الثقات ولاسيما ما أخذه عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)[8]. وايضاً ذكر في موضع آخر تلمذته على الامام جعفر الصادق (عليه السلام) [9].
وذكر الاستاذ زكي نجيب محمود استناداً الى كتاب الجلدكي ان جابر بن حيّان كان هو استاذ يحيى البرمكي وابنيه جعفر والفضل[10]، وليس الضد من هذا الذي نقله ابن النديم عن بعضهم! والحاصل ان هناك من يريد أن يسلب كل فضيلة عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام). فجابر بن حيّان المتوفى سنة 195 أو 197هـ ليس من جيل جعفر البرمكي وكان الأليق بمن كذب عليه ان يجعل يحيى البرمكي استاذه وليس ابنه جعفر! ولكن الغرض من اطلاق هذه الكذبة هو استغلال تشابه أسم جعفر بن يحيى للتعمية على كون جابر تلميذ للإمام جعفر الصادق (عليه السلام) وقد تعلم أسس علوم الكيمياء الحديثة منه.
وقال حاجي خليفة: (أول من تكلم في علم الكيمياء ووضع فيها الكتب وبين صنعة الاكسير والميزان ونظر في كتب الفلاسفة من أهل الاسلام خالد بن يزيد بن معاوية بن ابي سفيان، واول من اشتهر هذا العلم عنه جابر بن حيّان الصوفي من تلامذة خالد كما قيل:
حكمة اورثناها ؟؟ جابر... عن امام صادق القول وفي
لوصي طاب في تربته... فهو كالمسك تراب النجف
وذلك لأنه وفى لعلي واعترف له بالخلافة وترك الامارة)[11]! ولكن دعوى تركه الامارة قد لا تصح فخالد بن يزيد بن معاوية كان ولي العهد لمروان بن الحكم حينما بويع على الخلافة ثم نكث مروان فأزاحه عن ولاية العهد وجعلها لولديه عبد الملك وعبد العزيز[12]. وكان خالد بن يزيد يقول عن نفسه: (عنيت بجمع الكتب فما أنا من العلماء ولا من الجهال)[13] أي يمكن ان نصفه بتعابيرنا المعاصرة انه كان من المثقفين، ولم يكتف بذلك بل قيل أنَّ له مؤلفات هي: (السر البديع في فك رمز المنيع في علم الكاف، فردوس الحكمة في علم الكيمياء منظومة، كتاب الحرارات، كتاب الرحمة في الكيمياء، كتاب الصحيفة الصغير، كتاب الصحيفة الكبير، مقالتا ميريانس الراهب في الكيمياء، وصيته الى ابنه في الصنعة)[14]. ولعلها كتب ترجمت فنسبت اليه. وانما ذكرنا ما ذكرناه عن خالد بن يزيد بن معاوية لنوضح البيئة الفكرية والعلمية التي كانت سائدة في تلك الفترة والتي ساعدت على نمو العلوم والافكار الغنوصية في المجتمع الاسلامي.
وتلمذة جابر بن حيّان على الامام جعفر الصادق (عليه السلام) من المسلمات التاريخية، وكان جابر بن حيّان يذكر استاذه في كتبه بالعبارات التالية: (مولانا عليه السلام)[15]، وفي مواضع آخر: (سيدي جعفر)[16]، و(سيدي)[17]، تعظيماً لإمامه جعفر الصادق (عليه السلام)، ولا تليق هذه العبارات بسواه. يقول الدكتور جابر الشكري: (ولما استولى العباسيون على الخلافة سنة 749هـ رجع جابر الى الكوفة وانخرط في حلقات التعليم التي كان يعرضا الامام جعفر الصادق، ثم اتصل به ولازمه، ودرس عل يده بعض علوم الفقه والدين، ثم دخل مدخل الصوفيين ومال الى الصوفية ولذلك لقب بالصوفي. ذكرنا ان الامام جعفر الصادق كان ثاني من تكلم في علم الكيمياء، ويظهر ان اتصال جابر بالامام جعفر الصادق وملازمته له واحترامه لسيده، كما كان ينعته "سيدي جعفر" وكذلك اطلاعه على الكيمياء التي عمل بها، قد اثار في نفسه حب هذا العلم)[18].
جابر والتصوّف
وأمّا بخصوص تصوّف جابر بن حيّان فهو وإنْ إنتمى إلى المتصوفة لكنه لم يشتهر بالتصوّف إلا من خلال تلقبه به. وإلا فلم يرد ذكره في كتاب (نفحات الانس من حضرات القدس) لعبد الرحمن الجامي رغم انه ذكر تراجم (200) شخصية صوفية، ولا في كتاب طبقات الصوفية لأبي عبد الرحمن السلمي. وقد وجدنا بعد البحث والتدقيق أنَّ كتاب طبقات الصوفية لم يستوعب ذكر جميع الصوفية، إلا انه من المستبعد ان يهمل ذكر شخصية صوفيّة شهيرة كجابر بن حيّان لولا أنّ ما تمتع به جابر بن حيّان من شهرة في صنعة الكيمياء قد طغت على تصوفه. فيما يبدو فلم يكن مشتهراً بالخلوات والرياضات وإظهار التقشف والزهد كبقية الصوفيّة بقدر ما كان مشتهراً بصنعة الكيمياء الغنوصية!
جابر والفلسفة
وكان جابر بن حيّان مشتغلاً بالفلسفة أيضاً، ففي تاريخ الحكماء لعلي بن يوسف القفطي قال: جابر بن حيّان الصوفي الكوفي كان متقدماً في العلوم الطبيعية بارعاً منها في صناعة الكيمياء وله فيها تواليف كثيرة ومصنفات مشهورة وكان مع هذا مشرفاً عل كثير من علوم الفلسفة ومتقلداً للعلم المعروف بعلم الباطن وهو مذهب المتصوفين من أهل الاسلام كالحارث بن اسد المحاسبي وسهل بن عبد الله التستري ونظرائهم[19].
وذكر ابن النديم: (اسماء الفلاسفة الذين تكلموا في الصنعة، وهم: هرمس، اغاذيمون، انطوس، ملينوس، افلاطن، ذيسموس، اسطوس، هرقل. بوروس، مارية، دساورس، افراغسرس، اسطفانس، اسكندروس، كيماس، جاماساب، دراسطوس، ارخلاوس ـ مرقونس، سنقحا، سيماس، روسم، فورس، سعورس، تالاوس، مويانس، سفدس، مهدارس، فرناوانس، مسطيوس، كاهن ارطي، آرس القس، خالد بن يزيد، اصطفن، حربي، جابر بن حيّان، يحيى بن خالد بن برمك، خاطف الهذلي، الامونحي، ذو النون المصري، سالم بن فروخ، أبو عيسى الاعور، الحسن بن قدامه، ابو قران، البوني، سحاوه، الرازي، السائح العلوي، ابن وحشية، العزاقري)[20]. فهؤلاء بعضهم فلاسفة وبعضهم متصوفة وبعضهم قساوسة وبعضهم كهنة وبعضهم صوفيون غنوصيون!! بل وبعضهم معروفون بالسحر والشعوذة والعزائم كأبن وحشية المذكور[21]!! وبعضهم من الكذابين الذين ادّعوا ما ليس لهم كابن العزاقري المعروف ايضاً بأسم الشلمغاني.
ويقول الدكتور احمد فؤاد الاهواني نقلاً عن هولميارد ان المصدر الذي استقى منه جابر علومه في الكيمياء وهو الافلاطونية الحديثة كانت تتجه نحواً صوفياً وعن هذا الطريق تأثر بالتصوّف. و قد ذكر ذو النون المصري ايضاً انه كان يجمع بين الصنعة والتصوّف، بدأ بالكيمياء ثم عدل عنها الى النزعة الصوفية[22]. وقد مرَّ علينا آنفاً أنَّ ابن النديم ذكر ذو النون المصري ضمن اسماء الفلاسفة الذين تكلموا في الصنعة.
انحياز جابر للفلاسفة: ومن خلال مطالعة المؤلفات المنسوبة لجابر بن حيّان نجد ان بعض ما ورد فيها لا يمكن قبوله من الناحية الدينية! فقد قال جابر بن حيّان في "كتاب البحث" وهو مخطوط، أن الشرع الاول إنما هو للفلاسفة فقط إذ كان اكثر الفلاسفة أنبياء كنوح وإدريس وفيثاغورس وثاليس القديم وعلى مثل ذلك الى الاسكندر. ثم بعد ذلك فإن الشرع إنما خُلّد ونزل في النصارى وفي الاسلام من بعد، واما الصابئة والمجوس فإنهم قوم من فروع الفلاسفة اخيراً، وذلك ان الصابئة من التهامية عل جنس عبادة الكواكب وليس كالتهامية، واما المجوس فمن لدن افلاطون في عبادة النار وذلك ان افلاطون طرق لهم هذا الطريق إذ قال: إن العالم كائن من النار والارض، فقال في موضع آخر: من الشمس والمركز، فأخذ ذلك زرادشت ووضع لهم فيه أصلهم الذي هم عليه، فأما اليهود فإنهم قوم عروا من الدين وهم لا يشكون أنهم متمسكون بالتوراة وإنهم لفيث عدول عنها ومخالفة لها[23]!
جابر بن حيان في مصادر الشيعة
قال السيد أبو القاسم الخوئي (رض): (جابر بن حيّان الصوفي الطرسوسي، ابو موسى من مشاهير أصحابنا القدماء، كان عالماً بالفنون الغريبة وله مؤلفات كثيرة أخذها من الصادق عليه السلام، وقد تعجب غير واحد من عدم تعرض الشيخ والنجاشي لترجمته)[24]. ولا يوجد في كتب الشيعية الامامية المعتبرة اي رواية في سندها جابر بن حيّان، ما عدا رواية واحدة يرويها العلامة المجلسي (رض) عن كتاب اطلق عليه اسم (الطب)! وتلك الرواية تتحدث عن مراسلة جابر بن حيّان للامام الصادق (عليه السلام)، ونصها: (الطب: عن جعفر بن جابر الطائي عن موسى بن عمر بن يزيد عن عمر بن يزيد قال كتب جابر بن حيّان الصوفي الى ابي عبد الله عليه السلام فقال: يا ابن رسول الله، منعتني ريح شابكة شبكت بين قرني الى قدمي فادع الله لي. فدعا له وكتب إليه: (عليك بسعوط العنبر والزئبق عل الريق تعافي منها إنشاء الله. ففعل ذلك فكأنما نشط من عقال)[25]، وقال الشيخ محمد باقر البهبودي معلقاً على ورود اسم جابر بن حيّان في الرواية في هامش نفس الصفحة: (في بعض النسخ: جابر بن حسّان)! وللبحث عن (كتاب الطب) الذي نقل العلامة المجلسي (رض) روايته المذكورة عنه، نقرأ في موضع آخر من كتابه بحار الانوار وهو يذكر مصادر كتابه، نجده يذكر كتاب طب الائمة (عليهم السلام) لأبي عتاب عبد الله بن بسطام بن سابور الزيات واخيه الحسين بن بسطام ذكرهما النجاشي من غير توثيق وذكر ان لهما كتاباً جمعاه في الطب[26]، وذكر ايضاً (كتاب طب النبي (صل الله عليه وآله) وإن كان أكثر أخباره من طرق المخالفين لكنه مشهور متداول بين علمائنا، قال نصير الملة والدين الطوسي في كتاب آداب المتعلمين: "ولا بد من ان يتعلم شيئاً من الطب ويتبرك بالآثار الواردة في الطب الذي جمعه الشيخ الامام ابو العباس المستغفري في كتابه المسمى بطب النبي (صلى الله عليه وآله))[27]. والظاهر ان رواية مكاتبة جابر بن حيّان مصدرها كتاب طب الائمة (عليهم السلام) لأبني بسطام، ويؤيد هذا ما جاء في اعيان الشيعة قوله: (وقد روى الحسين بن بسطام بن سابور واخوه ابو عتاب او غياب عبد الله بن بسطام بن سابور الزيات عن جابر بن حيّان عن الامام الصادق عليه السلام في كتابهما المعروف بطب الائمة)[28]، والظاهر انها نفس رواية البحار اذ لا توجد سواها! وقد راجعت كتاب طب الائمة (عليهم السلام) لأبني بسطام فوجدت ان الرواية المشار اليها انما يرويها (جابر بن حسان الصوفي) عن الامام الصادق (عليه السلام)[29]!!، وكذلك ذكرها السيد البروجردي (رض) في كتابه (جامع احاديث الشيعة) حيث نقلها عن كتاب طب الائمة (عليهم السلام) المذكور وذكر في الرواية (جابر بن حسان الصوفي)[30]. وأيضا هناك كتاب بالفارسي اسمه (الطب الكبير يا فرشته نجات) يقول مؤلفه محمد سرور الدين: (ورم دردناك: جابر بن حسان الصوفي بعرض رسانيد كه بادى در بدن من افتاده وميان فرق تا قدم من ميدود، برايش نوشت از جيوه وعنبر شافي درست كن با استعمالش شفا خواهي يافت)[31]، وورد فيه اسم (جابر بن حسان الصوفي)، وكذلك في كتاب (مكاتيب الائمة عليهم السلام) ذكر نفس الرواية السابقة ولكن فيها اسم (جابر بن حسان الصوفي) وفي الهامش اشارة الى انه في بعض النسخ (جابر بن حيّان)[32]! ويضاف لما سبق اننا قد عرفنا ان ابني بسطام المذكورين هما مجهولا الحال.
محاولة تشويه منزلة الإمام الصادق (عليه السلام)
وهناك من حاول تشويه منزلة الامام جعفر الصادق (عليه السلام) في المجتمع الاسلامي من خلال ربطه بالخيمياء والزجر والفأل والعلوم الباطنية الغنوصية! حيث نقرأ في ترجمته التي كتبها يوسف اليان سركيس (1856-1932)م في كتابه (معجم المطبوعات العربية والمعرَّبة) ما نصّه: (أبو عبد االله جعفر الصادق ابن محمد الباقر ابن علي زين العابدين بن حسين ابن علي ابن أبي طالب احد الائمة الاثنى عشر على مذهب الامامية وكان من سادات أهل البيت ولقب بالصادق لصدقه في مقالته. له كلام في صنعة الكيميا والزجر والفال وكان تلميذه أبو موسى جابر بن حيّان قد الف كتابا يشتمل على الف ورقة تتضمن رسائل جعفر الصادق توفي بالمدينة ودفن بالبقيع قرعة لطيفة تروي عن جعفر الصادق في الفال طبع حجر مصر (دون تاريخ) ص 34 وطبع حديثا رسالة جعفر الصادق في علم الصناعة والحجر الكريم ومعها ترجمة ألمانية أنظر جامع التصانيف الحديثة الجزء الاول رقم 1055)[33]!!
وهكذا حاول يوسف اليان سركيس تشويه عظمة علوم الامام الصادق (عليه السلام) بأن نسبه الى صنعة الكيمياء والفأل والزجر! وهو أبعد ما يكون عنها. فلم يذكره لا بعقيدة ولا بفقه ولا بعلم حقيقي علّمه لجابر بن حيّان فتح آفاق المعرفة العلمية في مجال علم الكيمياء!! سالباً عنه دوره الإمامي العظيم الذي نصبه الله سبحانه وتعالى فيه!
خلط بين أسم جابر بن حيّان وجابر الجعفي
وفي كتاب (معالم العلماء) لإبن شهراشوب المتوفى حوالي 588هـ يقول أن (احمد بن محمد بن عبيد الله بن سليمان ابو عبد الله الجوهري) له عدة كتب منها كتاب اسمه (اخبار جابر بن حيّان بن يزيد الجعفي)[34]! والظاهر انه خلط بين اسم (جابر بن يزيد الجعفي) من اصحاب الامامين الباقر والصادق (عليهما السلام) مع اسم جابر بن حيّان!
اضطراب هنري كوربان
كتب هنري كوربان: (واذا كنا نذكر ان الاسماعيلية تكونت في البدء مع اتباع الامام اسماعيل ابن الامام جعفر فإنَّ الصلات بين جابر والاسماعيلية وبين جابر والامام جعفر تظهر لنا على وجهها الحقيقي. واذا كانت السيرة المتلاحمة لحياة جابر، التي استخلصها الكيميائي "الجلدكي" من مجمل المصنفات الجابرية، تؤكد ان هناك بالفعل رجلاً يدع جابر بن حيّان وانه كان كيميائياً وتلميذاً للامام السادس – اي الامام جعفر الصادق (عليه السلام) - ومن اتباع الامام الثامن علي الرضا، وانه مات في طوس (في خراسان) في العام 200هـ/ 804م، فانه لم يعد هناك سبب وجيه لانكار ذلك)[35]. إنَّ هذا النص مضطرب فتارة يعد جابر بن حيّان من الاسماعيلية وتارة ينسبه لاتباع الامام الرضا (عليه السلام) اي انه من الشيعة الامامية! ويقول في موضع آخر: (يهتم جابر بنوع خاص بـ "ميزان الحروف" هذا في رسالة له بعنوان "كتاب المجيد" هذه الرسالة بالرغم من كونها عويصة الفهم الا انها تفصح لنا عن الروابط بين مذهب جابر الكيميائي و"الغنوص" الاسماعيلي، لا بل انها قد تؤدي بنا الى معرفة سر شخصية جابر)[36].
وفي الحقيقة فإن الغنوص الإسماعيلي في تلك الفترة لم يكن قد تكوّن بعد في القرن الثاني الهجري، بل إنَّ الغنوص آنذاك كان مصاحباً للتصوّف ووجه آخر له. ونؤكِّد أنّه إذا كان جابر بن حيّان من اتباع الإمام الرضا (عليه السلام) كما ذكر الجلدكي فكيف يزعمون انَّه كان إسماعيلياً!!
تنويه: المقال مستلّ من كتابنا "شمس التشيّع وغربال العرفان".
الهوامش:
[1] اعيان الشيعة / السيد محسن الامين – ج4 ص30.
[2] مقال بعنوان (المسلمون وابتكار علم الكيمياء) للدكتور راغب السرجاني، منشور في موقع قصة الاسلام.
[3] الفهرست / ابن النديم البغدادي – ص499.
[4] سير اعلام النبلاء / الذهبي ت748هـ - ج10 ص604.
[5] مقال بعنوان (الوضع الحقيقي لمشكلة جابر بن حيّان)، بقلم للأستاذ أحمد زكي صالح، منشور في مجلة الرسالة ، العدد 371، بتاريخ 12/8/1940م – ص1299. منشور في الأنترنيت عبر الرابط: http://bit.ly/352dbcg
[6] المصدر السابق.
[7] مخطوطة كتاب نهاية الطلب في شرح المكتسب، مؤلفها: ايدمر بن علي بن ايدمر الجلدكي / تاريخها سنة 1322هـ / محفوظة في مكتبة جامعة الرياض – ج1 ، ص29 من الصورة الاكترونية للمخطوطة بصيغة PDF.
[8] المصدر السابق – ج1 ، ص73 من الصورة الاكترونية للمخطوطة بصيغة PDF.
[9] المصدر السابق – ج1 ، ص29 من الصورة الاكترونية للمخطوطة بصيغة PDF.
[10] جابر بن حيّان / الدكتور زكي نجيب محمود / مكتبة مصر - ص14.
[11] كشف الظنون عن اسامي الكتب والفنون / حاجي خليفة ت1067هـ – ج2 ص1415.
[12] شجرة طوبى / الشيخ محمد مهدي الحائري ت1369هـ - ص118.
[13] جامع بيان العلم وفضله / ابن عبد البر ت463هـ - ج1 ص132.
[14] هدية العارفين / اسماعيل باشا البغدادي ت1339هـ – ص343.
[15] اعيان الشيعة / السيد محسن الامين – ج4 ص34.
[16] المصدر السابق.
[17] المصدر السابق.
[18] الكيمياء عند العرب / د. جابر الشكري - ص29 و30.
[19] اعيان الشيعة / السيد محسن الامين – ج4 ص30.
[20] الفهرست / ابن النديم البغدادي – ص497.
[21] المصدر السابق – ص504.
[22] اعيان الشيعة / السيد محسن الامين – ج4 ص33.
[23] في التصور الاسلامي للطبيعة، "الطبيعة بين الضرورة والاحتمال عند جابر بن حيّان" / د. مصطف لبيب عبد الغني - هامش ص15.
[24] معجم رجال الحديث / السيد ابو القاسم الموسوي الخوئي (رض) – ج4 ص328.
[25] بحار الانوار / العلامة المجلسي (رض) / تحقيق محمد باقر البهبودي /– ج59 ص186.
[26] المصدر السابق – ج1 ص11.
[27] المصدر السابق – ج1 ص43.
[28] اعيان الشيعة / السيد محسن الامين – ج4 ص30.
[29] طب الائمة (عليهم السلام) / عبد الله وحسين ابني سابور الزيات (ابني بسطام النيسابوري) - ص70.
[30] جامع أحاديث الشيعة / السيد حسين البروجردي (رض) ت1383هـ - ج16 ص674.
[31] الطب الكبير يا فرشته نجات (فارسي) / محمد سرور الدين – ص324.
[32] مكاتيب الائمة (عليهم السلام) / علي الاحمدي الميانجي -ج4 ص339.
[33] معجم المطبوعات العربية والمعرّبة / يوسف اليان سركيس ت 1351هـ - ج1 ص700.
[34] معالم العلماء / ابن شهراشوب – ص56.
[35] تاريخ الفلسفة الاسلامية / هنري كوربان – ص204.
[36] المصدر السابق – ص207.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat