محنة التعاطي مع النصّ الديني
يحيى غالي ياسين
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
يحيى غالي ياسين

تتميز النصوص ذات اللمسة الأدبية والإبداعية بوجود مسافة بين الدال والمدلول ، أي بين اللفظ والمعنى ، كونها تستعمل الصورة والكناية والمجاز والاستعارة ... الخ ، على عكس النصوص الأخرى من غير الأدبية ، كالأخبار والتقارير العلمية وغيرها ، حيث تكون ألفاظها دالة على معانيها دلالة مباشرة أو مطابقية حسب مصطلح علم المنطق ..
والنص الديني ( قرآن وحديث ) يقع على رأس قائمة النص الإبداعي داخل إطار اللغة العربية ، الّا أن الملاحظ من الذين يتعاطون مع النصوص الدينية قد تعاملوا مع هذه المسافة بعدة أساليب تكاد تكون متضادة فيما بينها :
فمنهم من ألغى هذه المسافة وأعتبر أن الوقوف أو الجمود على لفظ النص هو الطريق الأصح والأسلم حتى وإن كان يصطدم ببعض العوائق والمعرقلات ، كما هو حاصل مثلاً في الجمود على بعض الفاظ القرآن التي تجسّم الذات الالهية وتجعل له يداً ووجها .. في حين أن نفس النص القرآني يقول بأن الله ليس كمثله شيء ، وسبحان الله عما يصفون .. الخ
ومنهم من بالغَ في سعة هذا المسافة وأعطاها أكثر مما يلزم وقابل الإفراط أعلاه بتفريط لا يقل خطأ وخطراً عنه ..! وهو ما يسمّى بتعدد القراءات للنصّ الواحد ، وتعدد القراءات عند مستوى معين جيد وحالة صحية ولكن لا ينبغي أن نشك في كل معنى وقراءة متولدة واتخاذ هذا الشك منهجاً واسلوباً حتى يصل إلى ماهو معروف بالمذهب التفكيكي للنص ، وهو منهج نقدي مهمته التشكيك في كل معنى ولا يسمح الارتكاز والركون الى احد المعاني ولديه القدرة على أن يجعل من المدلول دالاً ، ثم من هذا الدال مدلولاً وهكذا .. هذا التعدد يضيّع القارىء ويُبعد المعنى ويذوّبه في تعدد المعاني المحتملة حتى يصبح النص بحكم الفارغ والأجوف من كل معنى عملي يمكن توظيفه ..
بينما هنالك اتجاه ثالث بدأ يطفو على سطح الثقافة الاسلامية ، وأقول يطفو لأنه بدون جذور ويعوم على مجموعة من الأفكار السيّالة ، اصحاب هذا الاتجاه اخترعوا طرقاً بمجموعها تمثل دعوة الى اعادة كتابة النص الشرعي بحسب المعاني التي يريدونها او التي تنقدح في مخيلتهم لسبب وآخر ، فتارة يبطلون بعض النصوص الثابتة بدعوى الضعف او الدس ، وتارة اخرى يحمّلون النص ما لا يستوعبه من المعاني الغريبة والاجنبية ، وتارة ثالثة يقومون بتوليف بعض النصوص ويصنعون خلطة غير متجانسة من الناحية العلمية ولكنها تنسجم وافكارهم المشوهة ومنتجة لما تهدأ اليه تطلعاتهم الشائبة ..
هذه بعض أهم المحن التي يعاني منها النص الديني وهي للأسف تعتبر من نوع النيران الصديقة في مقابل نيران العدو - كما يُقال - ، ولا زالت تفتك بالاسلام والمسلمين ، وضحاياها كُثر ..
فليس لكل أحد الصلاحية والمقدرة على التعامل مع النص الديني في الإسلام إن لم يكن مؤهلاً لذلك ، ففهم النص الشرعي له أصوله وقواعده وله أحكامه ، تبدأ من قواعد اللغة وفنونها وتنتهي بقواعد العقل والتزاماته ، الإلمام بجملة من العلوم والمهارات تجعل من الشخص مهيئاً للولوج بهذا الباب العظيم والخطير بنفس الوقت ..
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat