صفحة الكاتب : عزيز الدفاعي

الزعيم ...... قتلوه....أم شبّه لهم؟!!!
عزيز الدفاعي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

عامان ونصف قرن  هو عمر حركة 14من تموز1958 ، وهي بحسابات الماضي القريب ومعطياته... والحاضر وانتكاساته... أكبر من كل الأوسمة والنياشين. فقد بتنا اليوم وسط مخاض التحول الدموي الذي كاد ان يعصف بالعراق نحو حافة الهاوية بأمس الحاجة لإعادة تقييم تلك الفترة من التحول الوطني الديمقراطي بعيدا عن الولاء أو العداء بعد أن كشف شكل الصراع الحالي بعض دوافع وأسباب إجهاض تلك التجربة الوطنية الفريدة..  أزيحت الغشاوة عن مسرح الأحداث المتلاطمة بعد عام 1963على يد دعاة (المشروع القومي الوحدوي) التي هتكت تباعا عذريتنا السياسية وتاريخنا العراقي ومستقبلنا حين أنهال (الاشاوس) بوقاحة سافرة وحقد دفين على عشق جواد سليم،وأجهزوا بمزاميليهم و سواطيرهم ومناشيرهم الطائفية المتسترة ببرقع العروبة على جسد بغداد فاغتصبوها قبل\" قدس النواب. بعد نصف قرن بتنا نتطلع مشدوهين إلى حي الجهاد الشعب والدورة والاعظمية ومدينة الصدر التي كادت  إن تتحول إلى كانتونات، و(بغداد شرقية) و (أخرى غربية) وإلى خارطة غير قابلة ...للقسمة جزئت  إلى مثلثات ودوائر طائفية ,و مواطنين جمعتهم (ساحة الأمة)في ظل جمهورية الزعيم وفرقتهم (ساحة الفردوس ) بعد سقوط  صنم الدكتاتورية... وتمزقت (هوية الأحوال المدينة) إلى ثلاثة أوصال لا يكمل بعضها الأخر، بعد أن كان الوطن في ظل الجمهورية الأولى وطنا بحق تعشش فيه كل الأحلام وحمامات السلام البيضاء على سقوف الكادحين والمثقفين ... كنا نهزج بصوت وضمير واحد (هربجي كردوعرب رمز النضال). لكن تيار الردة الذي تأمر على الدولة الإسلامية الشرعية قبل أربعة عشر قرنا هجريا أجهز كعادته على أحلام الفقراء هذه المرة وأعدم الزعيم ليلة الرابع عشر من رمضان بقدرية تشابه كثيرا ماحل بإمام المتقين علي ابن ابي طالب(ع) الذي اغتيل في محرابه في رمضان. ربما لأن المقربين من الزعيم في غرفته المتواضعة في وزارة الدفاع قد علموا أنه كتب في وصيته بعد محاولة اغتياله في شارع الرشيد أن يصلي على جسده بعد موته السيد محسن الحكيم رغم أن الأخير كان قد أصدر قبل فترة وجيزة فتوى يحرم فيها الانتماء إلى الحزب الشيوعي الظهير الأكبر للجمهورية الأولى. وقيل ان كبار الإقطاعيين قد ظللوا الحكيم بصور تعذيب الجزائريين على أيدي الفرنسيين واقسموا له أنها مجازر ارتكبها الشيوعيون. وعلى إيه حال فان فتوى المرجع الأعلى رحمه الله جاءت عقب انتقاد الزعيم قاسم للحزب الشيوعي العراقي بعد إحداث العنف الدامية في كركوك .
.ومثلما فعل الحكيم اصدر الشهيد محمد باقر الصدر بعد سنوات فتوى يحرم فيها الانتماء لحزب البعث. وهنا تكمن المفارقة التي تؤكد دور العامل الديني في رسم الكثير من مسارات وتطورات الإحداث السياسية في العراق المعاصر منذ نشأة أول حزب سياسي في النجف وهو( جمعية النهضة) عشية الغزو البريطاني للعراق مطلع القرن الماضي وحتى اليوم. أفل ذلك الزمن أو هكذا أراد له الإقطاعيون و كمبرادورية الشورجة وأزلام حلف بغداد و شركة نقط العراق وأقطاب العهد الملكي ومن بعدهم الجنرالات الذين قادوا الانقلابات ضد القوى الوطنية، والذين تناغموا مع مدرسة نجيب السراج في سوريا الذي أشرف على تقطيع جسد فرج الله الحلو حيا و ألقوا بجسده في حامض الكبريتيك ، وهي المدرسة الفكرية الأولى لناظم كزار ومن بعده العفالقة والزرقاويون عبر سلسلة الانقلابات و التصفيات الدموية التي تعرضت لها القوى الوطنية المعارضة لنظام الحزب العشائري الذي اختزل حزب البعث في قرية العوجة... واختزل العراق كله في أحلام صدام حسين ومغامراته بينما يرفض ورثته حتى الآن رغم تغير قواعد اللعبة التخلي عن كرسي السلطة لتستعين بهم مؤسسة الدولة اليوم من أجل تحقيق المصالحة الوطنية بإحياء دور العشيرة الذي ينتمي لمرحلة ما قبل نشوء الدولة الحديثة... وهل هنالك من بديل؟؟

                       هل كان قاسم راضيا عن لقب الزعيم الأوحد؟   

لم يكن قائد حركة تموز عبد الكريم قاسم نموذجا بونابارتيا ولم يكن أيضا كبيسمارك الذي افتتن به المشروع القومي لساطع ألحصري الذي خلق نماذج لزعامات وقف خلفها منذ بدء الحرب الباردة أمثال عبد الناصر وبن بلا ولقذافي والأسد وصدام داعمين إياها أحيانا لقمع قوى اليسار  الوطني واللبراليين والحيلولة دون أي تقارب مع الكتلة الاشتراكية مثل ما دعموا نظام المشايخ والأمراء وعروش الملوك ونفخوا بعاصفة الإسلام السياسي في المنطقة ولا زالوا رغم تغير قواعد اللعبة و خرائطها. .  و لعل قاسم هو أول قائد عراقي يتحسس عراقيته وانتماءه التاريخي الذي يمتد لحوالي 4378 سنة عندما رسم (سرجون الأكادي) حدود الخارطة العراقية الراهنة مدركا أهمية منابع النهرين بالنسبة لوسط و جنوب البلاد بينما نجح هارون الرشيد من جعل العراق مركزا للعالم القديم . وليس من المصادفة  ان يحضا عبد الكريم قاسم بهذا الاهتمام الاستثنائي والكبير من قبل السياسيين والباحثين والإعلاميين مما لم يتح لأي زعيم سياسي في تأريخ العراق بدليل هذا الكم الهائل من الدراسات والبحوث والمقالات التي لم تتوقف منذ نهاية الثورة المغدورة . لقد سعى الزعيم\"أو هكذا خيل له\"جمع القوى الوطنية للمشاركة في تنفيذ مشروعه غير المؤدلج لتحقيق المنجزات الشعبية التي كرست صورته كبطل أسطوري في أذهان الكادحين و لم يكن بحاجة للقب الزعيم الأوحد الذي ابتدعه مثقفو الإعلام اليساري الذين استوحوا مفاهيم الفيلسوف الروسي (بليخانوف) حول دور الفرد في صناعة التاريخ وتطلب الأمر توضيحا للتفسير الماركسي اللينيني للعملية التاريخية، مما كان مؤشرا على طبيعة الوعي السائد آنذاك.
 ان هؤلاء يردون على أنفسهم هذه التهمة مؤكدين ان ذلك الوصف للزعيم كان ردا ضمنيا على توجهات عبد السلام عارف الذي تجاهل في خطبه الإشارة لقائد الحركة وكان متطلعا الى الوحدة الفورية مع مصر الناصرية فرد عليه الشيوعيون بشعار الوحدة الفدرالية والصداقة مع الاتحاد السوفيتي وتذكيره بان للثورة قائد واحد هو الزعيم قاسم.
وربما ساهمت براغماتية القيادة الشيوعية وما كانت تشعر به من مخاطر وتحديات ومسؤوليات بعد انفرادها في الساحة السياسية من حاجة الإضفاء دور البطل المنقذ على الزعيم الأوحد.ولقد لعبت لجان صيانة الجمهورية والمقاومة الشعبية دورا كبيرا في الدفاع عن الثورة وسياساتها حتى اخر لحظة . والثابت أنه منذ الدخول العربي أرض الرافدين لم يحكم العراق قائد من أبنائه يحمل تلك الكاريزمية والعفوية والرغبة الصادقة في صناعة التاريخ الوطني خارج إطار الايدولوجيا وبعيدا عن القدرية الإغريقية التي تجعل الأحداث وكأنها تنفيذا لسيناريوهات سماوية أو روى و مغامرات على مسارح لندن أو موسكو.
كما لم يكن عبد الكريم قاسم تجسيدا لميكافيلية في التعاطي مع الوقائع في تلك المرحلة مثل ما يتصور البعض ممن كتب سيرة حياته مهملين أحيانا الظروف التاريخية التي بدأت فيها ملامح الزعيم ترسخ في وجدان شعبي صعب المراس في ظل التداعيات الإقليمية والدولية في فترة الحرب الباردة والصراع على النفوذ وحلف بغداد والمشروع الوحدوي الناصري.
لقد كانت محاولة سياسية جريئة إقدام القوى اليسارية العراقية على كسر هياكل الإقطاع والبورجوازية بحرق مراحلها لكن ذلك تم دون حساب دقيق لنتائجها وتشابكاتها الطائفية والعشائرية وارتباطاتها والسعي نحو زجها في الطريق صوب الاشتراكية قسرا بعد سلسلة الانقلابات التي شهدها العراق منذ انقلاب بكر صدقي.
وكان واضحا ذلك الخلط التحليلي بين( المشروع الوطني) و(أدواته التنفيذية) لدى أغلب الزعامات السياسية في العراق حتى اليوم والذي اتخذ أحيانا أشكالا قومية وأخرى وطنية ملكية وجمهورية علمانية أو دينية إلا أنها جميعا عكست الوجه الظاهري للصراع وليس الصراع الحقيقي بين القوى وعلاقات الإنتاج.  ذلك أن البرجوازية الوطنية وملاك الأرض الكبار قد عجزوا عن القيام بدورهم في عملية التحديث والإمساك بسلطة الدولة واستخدامها لتحقيق نمو معرفي واقتصادي بعد قرون من الاستلاب . وقد انتهت محاولات النظام الملكي تحقيق الوئام بين الطوائف والقوميات عام 1941 عندما وقفت إلى جانب المحتل البريطاني عقب حركة رشيد علي الكيلاني الذي كان ورفاقه الضباط متأثرا بالدعوة القومية في ألمانيا النازية .
من هنا كان لا بد من اللجوء للمؤسسة العسكرية لإحداث عملية التغير، فنوري السعيد كان يرى بواقعية (أن الاستقلال التقليدي لا وجود له وانه لا بد من التحالف مع بديل في مواجهة الخطر الشيوعي وضمان انسحاب بريطانيا من العراق أن نبحث عن صيغة أخرى)أي انه كان يدرك بذكاء أهمية ودورا لتوازن بين القوى العظمى آنذاك على مستقبل العراق. لكن قاسم لم يعي هذا الدرس و راهن على الخيار الأخر بصلابة دفع ثمنها لاحقا ربما لعدم قدرته على أحداث التوازن بين القوي الخارجية أو ربما دفع ثمن رهان الحزب الشيوعي العراقي على موسكو،على حساب الغرب خاصة وانه خلال فترة حكمه وانكفائه لمواجهة المشاكل الداخلية لم يعطي العامل الخارجي الدور الذي يستحقه ولم يكن محاطا بمستشارين في شؤون السياسة الخارجية من غير المسيسين.

لقد ساهم القدر في منبت الزعيم في بناء بعض من أسباب القبول الجمهوري كونه كان ثمرة طبيعية لمصاهرة طائفية فهو من أب عربي  سني وأم شيعية تشير بعض المصادر إلى أنها من الأكراد الأفيلية. وساهمت بساطة الحياة المتقشفة النزيهة للزعيم وصلاته بالفقراء والكادحين والمثقفين في أعطاء شخصيته صوره رومانسية للقائد المنقذ الذي لم يكن سليل الملوك او من العوائل الغنية في بغداد مما زرع شخصيته في قلوب الملايين من الكادحين.

عززتها سلسلة القوانين التي صدرت في تلك الفترة والتي مثلت نقلة نوعية في واقع العراق السياسي والاقتصادي والثقافي (الإصلاح الزراعي، تقليص نفوذ شركات النفط الأجنبية وإنشاء الأوبك، بدء الصناعات الخفيفة، المزارع والتعاونيات، إنشاء وتوسيع النقابات، الخروج من كتلة الإسترليني، البنية التحتية،التعليم ،الصحة ،السعي لحل القضية الكردية...الخ) مما تسبب في بدء عملية التنمية الشاملة وفي ذات الوقت تفتيت الملكيات وزيادة عدد الملاك الصغار ونمو دور البورجوازية الوطنية الصغيرة و بدء الصدام مع كبار الملاك والتجار الذين ألقوا بثقلهم في التيار القومي الطائفي بقيادة تلك النخب.  وكان للعامل الخارجي الدور الحاسم في الصدام اللاحق مع الزعيم واليسار العراقي. أن من بين ما أفرزته تلك المرحلة في المحصلة تصحيح الخلل في الهيكل الطائفي في السلطة في  العراق. فخلال الفترة(1963-1958) حصلت الاغلبيه  المهمشه  على مواقع وزارية سيادية كثيرة تليق بنسبتهم السكانية ووصلوا إلى مواقع هامة في قيادتي كل من الحزب الشيوعي وحزب البعث  (حنا بطاطو( impulse Islamic). دون آن يعني ذلك إي موقف طائفي للجمهورية تجاه اي مواطن. لقد اعاد الزعيم الملا مصطفى لبرزاني من منفاه في الاتحاد السوفيتي مع أكثر من 700 من أنصاره واستقبلت السفينة فيكتوريا التي حملتهم إلى ميناء ألبصره رسميا وشعبيا حتى ان ثلاثة من أهالي ألبصره الذين القوا بأنفسهم الى النهر للتعبير عن ابتهاجهم  غرقوا آنذاك .وخصص الزعيم قصر صباح نجل نوري السعيد لأقامه لبرزاني بينما كان يقيم في منزل متواضع مستا جرفي منطقة البتاويين.
وإذا كانت المسألة الوطنية تمثل جوهر مشروع الجمهورية الأولى فان الزعيم لم يكن بعيدا عن التوجه القومي حتى اكتشاف محاولة الشواف الانقلابية بدعم من عبد الناصر رغم أن كلا الزعيمين كانا من أشد حلفاء موسكو آنذاك، وجاء موقف القاهرة المعارض لسياسة الزعيم قاسم ضم الكويت لتدفع بالسياسة العراقية إلى الضفة الأخرى من المشروع الناصري لاختلاف أجندتهما وإدراكهما لدور العامل الخارجي. وربما دفع قاسم حياته ثمنا لحلم استعادت الكويت مثلما حصل مع  سلفه وخلفه!!! . لقد ساندت الجمهورية الأولى الثورة الجزائرية بكل ثقلها وأصدرت قرار إنشاء جيش التحرير الفلسطيني ودعم العراق جميع المشاريع العربية وتوجهات حركة عدم الانحياز وكانت بغداد أول من استضافت المؤتمر التأسيسي لمنظمة الأوبك.
وبعيدا عن الخرافة السائدة في أن قاسم كان مشروعا سوفيتيا أو أنه ثمرة تفاهم بريطاني في مواجهه المصالح الأمريكية التي أشار إليها علي صالح السعدي في كشف دور السفارة الأمريكية في بغداد في انقلاب 14 رمضان 1963. فان الزعيم لم يكن سوئ نموذج للقائد العسكري وابن لهذه المؤسسة الوطنية قبل أن يكون قائد ثورة أو حركة حاولت قلب موازين القوى والنفوذ في المنطقة وقد قادت إلى هيمنة الجيش على القرار السياسي ونجح في أن يوازن ثقل الضباط وحلفائهم القوميين بالثقل المضاد لقوى الشيوعيين.
ولابد من الإشارة هنا إلى إن استخدام لفض حركة بدلا من ثورة في توصيف ماحدث صبيحة 14 تموز –يوليه -1958 لايعتبر تجاوزا عن جوهر حركة الجماهير .فالمفكر الماركسي البولندي إسحاق دويتشر في ثلاثيته (النبي المقاتل) التي يخصصها لسيرة حياة ترو تسكي يؤكد ان السياسات العملية لأي حركة جماهيرية هي التي تحدد هوية القوى التي تلجأ الى استخدام القوة لإسقاط الأنظمة الشمولية مستشهدا بثورة  أكتوبر الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي .


                                                  أين الخطأ؟   

أن التفسير المتحمس للتغيير في تلك الحقبة المضطربة أدى إلى إضعاف دور مؤسسات المجتمع المدني وانفراط( جبهة الاتحاد الوطني) ناهيك عن عدم وجود كوادر كافية من ذوي الخبرة في إدارة شؤون الدولة بل كوادر سياسية وطنية متحمسة لم تراعي أحيانا تأثيرات الإطار الإقليمي والدولي. وبرزت موثرات التبعية السياسية والتورط بمضاعفاتها واستخدام العنف الثوري غير المبرر أحيانا ضد القوى الأخرى وتجاوز الكثير من الخطوط الحمراء التي رسمها العامل الخارجي والفئات المتنفذة داخليا التي استغلت أخطاء اليسار العراقي سابقا في تعامله مع النظام العشائري والتجار والمؤسسة الدينية وقادة الجيش في الإجهاز على تلك التجربة .ان تفسير إلية السقوط السريع لتلك التجربة الثورية الرائدة بعد خمس سنوات هو موضوع سيحضا بالكثير من البحث.. والواضح لنا بعد نصف قرن ان الخلاف داخل الحزب الشيوعي العراقي نفسه بشان طبيعة العلاقة مع عبد الكريم قاسم الذي كشف عنه قياديون بارزون في الحزب قد يلقي بالمزيد من الضوء على طبيعة تلك المرحلة وأسباب الإجهاض على الثورة وما أعقبها لاحقا من انشقاقات وتيارات .
فبعد ان رفع الشيوعيون شعار المشاركة في السلطة عام 1959 اضطروا للتخلي عنه بضغط من الكرملين ورفضت اللجنة المركزية إزاحة قاسم وإبعاده بالقوة بعد محاولة اغتياله وكان هناك تيار داخل الحزب يرى ان التبعية للزعيم ستهلك الاثنين معا ومن بين هؤلاء جلال الاوقاتي فيما اقترح خزعل السعدي وهو ضابط شيوعي على قيادة سلام عادل تطويق الزعيم ومنعه من ضرب الأكراد فرفضها عادل الذي كان الأكثر حرصا على استقلالية الشيوعيين عن الزعيم . وكاد الصدام ان يقع لأكثر من مرة بين الزعيم والشيوعيين.
ان انطلاق (قطار السلام)نحو كركوك بدلا عن قطار الشرعية الرسمية قاد الى الصدام مع قائد الثورة عبد الكريم قاسم الذي وصف الشيوعيين في خطابه الشهير في كنيسة ماري يوسف بانهم فوضويون اذ دفنوا عشرات الإحياء في كركوك والموصل (صحيفة البلاد وصحيفة اتحاد الشعب  21-7-1959 )وقد تعرض الحزب الشيوعي لانتكاسة خطيرة في الشارع العراقي بسبب تلك الإحداث الدموية مما أرغمه على إدانة تلك المذابح في اجتماع اللجنة المركزية منتصف اب 1959 (صحيفة اتحاد الشعب 28-08-1959)الأمر الذي شجع السيد محسن الحكيم على إصدار فتواه (الشيوعية كفر والحاد )في 12-شباط -1960 (صحيفة العراق 22-آذار-1960). ويؤكد قاده شيوعيون بارزون وفي مقدمتهم عزيز الحاج في كتابه (شهادة للتاريخ) ان تخبط سياسات الحزب الشيوعي في سنوات الثورة يحمله مسؤولية خاصة عما ألت إليه الأوضاع ولحد يومنا هذا .ويضيف ان جميع القوى السياسية الوطنية الأخرى عدى جناح محمد حديد قد أخطأت بحق الزعيم وقدمت صراعاتها وقناعاتها وطموحاتها الخاصة على ماكانت تستلزمه المرحلة من العمل سوية لإقامة دولة المؤسسات الدستورية والحياة الديمقراطية . أما بشأن العنف الثوري فيشير الحاج الى الانتهاكات في الموصل عند قيام حركة الشواف ويتساءل لماذا كان إصرارنا على تنظيم المظاهرة في الموصل هل لكشف مؤامرة مبيتة كانت أجهزة قاسم على علما بها؟ ولماذا تصرفنا كأننا السلطة الى حد تنظيم المحاكم الصورية وهدر الدماء.؟... ولماذا رفضنا طلب الشواف مقابلة الزعيم للوصول الى حل لحقن الدماء خاصة وانه كان متعاطفا مع الشيوعيين وما حركه ضد قاسم هو إحساسه بالغبن السياسي .غير إننا عندما نطالع ماكتبه   زكي خيري وعامر عبد الله نجد اختلافا وتباينا واضحا في تقييم أسباب سقوط الجمهورية الأولى وهي على أية حال مغايرة إلى حد كبير عن مواقف وأراء القادة الناصريين والبعثيين في العراق . .يشير المرحوم فؤاد ألركابي إلى انه كان مقتنعا بفكره الوحدة الفدرالية مع مصر باعتبارها الأنسب لكلا البلدين وقد عرض الفكرة على ميشيل عفلق الذي زار بغداد بعد تموز 1958 فرفضها بشده داعيا إلى وحده اندماجيه فوريه مع مصر مطالبا( بالكفاح لربع قرن ضد الشيوعيين لو اقتضى الأمر) حسب رواية ألركابي !!!.كما يكشف الجاد رجي أيضا انه توجه إلى مصر آنذاك لينقل لهم قناعات اغلب القوى السياسية العراقية بشان مشروع الوحدة لكنه عاد خائبا ومتألما لان عبد الناصر رفض الإصغاء  لأي مقترح عدى الوحدة الاندماجية والفورية مع بغداد دون إيه شروط باعتبار مصر (الوصية )على العراق وهذا ما يكشف دورها الواضح في إسقاط الجمهورية الأولى ثم انقلابها على البعثيين بعد تسعة أشهر .
ولعل أكثر مااتهم به الزعيم ظلما هو( الشعوبية) نتيجة لموقفه العقلاني ومن خلفه بعض القوى الوطنية تجاه دعوات الوحدة الاندماجية مع مصر التي طرحها البعثيون والناصريون والتي جاءت بعد فترة وجيزة من فشل مشروع الوحدة السورية المصرية وقد ثبت لاحقا ان عارف قد استخدم هذا الشعار للمزايدة والانفراد بالسلطة لا غير.  ان اعتراف المرحوم رفعة الحاج سري بأن القوى القومية داخل المؤسسة العسكرية لم تكن تعرف جيدا حقيقة الزعيم يؤكد على مدى الضبابية لدى كثير من النخب السياسية تجاه تجربة الجمهورية الأولى .من هنا لم يكن مستغربا ما كشفه بعض معاصري الزعيم من إن نايف حواتمه كان له دور في التخطيط لاغتيال قاسم عام 1959 ومشاركا في حركه الشواف في الموصل وفي رده شباط عام 1963وحتى التحقيق مع المعتقلين في قصر النهايه. يذكر احد الساسة المصريين انه التقى الزعيم لإقناعه بفكره الوحدة الاندماجية كحل سحري لكل مشاكل ألامه العربية وقد أصغى له قاسم مليا دون تعليق ثم  رافقه في جولة شملت طرائف خلف السدة (الثورة)انتقل بعدها الى حي المنصور الراقي واستدار أليه قائلا (عندما نوحد بين الثورة والمنصور فسوف نعمل من اجل الوحدة الاندماجية)!!! .
ان قرار الزعيم الخاطئ بتجميد الأحزاب وعدم إقدامه على تشكيل حزب سياسي او تكتل يضم القوى الداعمة للجمهورية وعدم وضوح الرؤيا السياسية لديه وتخليه عن إجراء انتخابات برلمانية وافتقار اغلب القوى السياسية العراقية آنذاك للنضج والعقلانية وغياب دور فعال لدولة القانون والمؤسسات وعدم نقد التجربة وتقييمها وأخلاقيه الزعيم وإنسانيته الطاغية المفرطة أحيانا  حين رفع شعار( الرحمة فوق القانون.. وعفا الله عما سلف)  ماجعل الزعيم يبدوا أحيانا وكأنه يتخبط دون اي خارطة لبلوغ أهدافه الوطنية النبيلة .
ورغم ما يراه البعض من أخطاء و(خطايا)أحيانا أرتكبها اليسار العراقي ودفع هو والزعيم ثمنها في منازله لاتختلف في بعض فصولها عما يحدث الآن في العراق فأنها لا تعدو كونها اجتهادات في أول طريق لبناء دولة المؤسسات عبر مركزية السلطة على أنقاض نموذج معقد من الاستبداد الشرقي لم تسع فيها النخبة نحو صياغة حلول محلية للتغيير، بل سقطت في جب الاستنساخ الكاربوني للتجربة الاشتراكيه في بلد عريق في تقاليد الدكتاتورية والتخلف والعشائرية وهيمنة مؤسسات ما قبل الحداثة، ولم يتخلص من أشكال النظم القمعية كالفاشية والموقف غير الواقعي من الأقليات والدين لم يكن قاسم وحده المسئول عنها ، دفعت الجمهورية في بعض المنعطفات إلى الأوليغارشية سافرة تصاعدت قوتها مع شدة الصدام لتحسمها مطرقة الزعيم المهداوي في محكمته الثورية. ومثلما كانت بداية الثورة دموية قاسية بدون مبرر،سواء ارتكب العبوسي مجزره قصر الرحاب بإرادته او بقرار مبيت ،  فأنها انتهت هي الأخرى نفس النهاية التراجيدية. لقد خسر الحزب الشيوعي قيادته وعلى رأسها سلام عادل وجمال الحيدري ونافع يونس وابا العيس ورحيم شريف ومحمد العبلي وطالب عبد الجبار وجورج تلو وجلال الاوقاتي وعدنان البراك وحسون الزهيري وصبيح سباهي وعواد الصفار وصاحب مرزا وعبد الاحد المالح  وعشرات غيرهم  يتقدمهم الزعيم قاسم ورفاقه المهداوي وقاسم أمين. زحف الآلاف من انصار الزعيم إلى وزاره الدفاع طالبين من قائدهم فتح مشاجب السلاح للدفاع عن الثورة لكنه خاطبهم بهدوء (لااريد ان يقتل احد من الشعب.. المطلوب إنا ..وانأ في سبيل هذا الشعب في سبيل هذا الوطن أضحي ).
سقط في المواجهات بين الانقلابيين ومؤيدي الجمهورية أكثر من 2000 شهيد في حرب شوارع غير متكافئة واعدم العشرات من الضباط في حركة انقلابية فاشلة دبرها مؤيدو، الزعيم في معسكر الرشيد في حزيران 1963 ونقل المئات منهم لاحقا في قطار الموت المعروف إلى السماوة وتعرض الآلاف للتعذيب الوحشي وتم جمع قسم من المعتقلين ودفنوا إحياء في منطقة الحصوه ولم تكن الحفرة الجماعية عميقة فنهشت الكلاب اغلب الجثث وكان ذلك بعض ماحققته (عروس الثورات )وارتكبته يد عارف والبكر والراوي مستغليين الفتاوى الدينية لارتكاب أول مجزرة سياسية في تأريخ العراق الحديث.

                                     
ا لعصر الذهبي للإبداع  

رغم كل ما كتب وقيل وما سيكتب مستقبلا عن جمهورية (الزعيم الأوحد) إلا أننا عشنا مرحلة مميزة من الوفاق الاجتماعي والوئام الوطني لارائحة للطائفية فيها تجاوزت وكسرت قوالب النظام المشوه لمثلت (الآنسة بيل، ألحصري، النقيب) وشهدت بداية لعصر الحداثة وانحسار التصورات التقليدية وفقا لمقولات( ماكس فيبر) التي تتوزع على المجال المعرفي، والقانوني،و الجمالي، ومثلت أول حالة نهوض منذ سقوط بغداد على يد المغول. وكانت خطوتها الأولى الدستور الموقت للقانوني المبدع حسين جميل.  كان العراق برمته فخورا بعبد الجبار عبد الله تلميذ اينشتاين ولم يتساءل أحد عن أصل رئيس جامعة بغداد أهو صابئ أم مسلم أم مسيحي ، احتضن الزعيم الطفل المعجزة عادل الشعلان الذي كان يجمع الأرقام أسرع من الحاسوب. ولم يشعر الزعيم بالامتعاض عندما أصغى جواد سليم لنصائح كامل الجاد رجي رائد الليبرالية بان يتخلى عن فكرة تجسيد الزعيم وسط جداريته في ساحة الأمة لان الجادرجي أراد أن يمنحها الخلود ويجنبها الدمار.
وصفق الوطن برمته للجواهري الخالد، والبياتي، والحصيري،وبحر العلوم, ونازك الملائكة والنواب، وسعدي يوسف، والسياب، وحسين مردان، وبرزت أسماء لامعة في كل الأداب والفنون والعلوم مثل الوتري والبستاني والشيخلى والسباك والخضيري  الذين لم يعرفوا إلا كعراقيين مبدعين ..لم يتساءل احد أهم سنة أم شيعة... عرب أم صفيون أم أكراد!! كنا نقصد مسرح العاني وفرقة 14 تموز لنصفق لزينب وغائب طعمه فرمان ونقف مبهورين أمام نصب الجندي المجهول  لرفعت الجاد رجي وجداريه فائق حسن. كان الوطن هو الهوية أما الطائفية والعشائرية فقد انحسرت وظننا أنها قبرت مع إلغاء قانون دعاوي العشائر... ويا للأسف كنا واهمين فقد استيقظ الغول النائم الذي غذي بالحقد والضغينة لينهش الوطن والشعب المظلوم .
فقد أفقنا صبيحة14 من رمضان على بداية مرحلة سوداء قادها سماسرة القضية القومية واصطفاف يمثل القوى المضادة لحركة الجماهير أدت إلى ارتفاع صرح دولة متوحشة ينخرها السوس الطائفي والدكتاتوري الذي ساعد على قوته البطش وثورة النفط معا لتنشب أظفارها في جسد الوطن والشعب ودول الجوار، ولم تنهض من فوقه إلا بفعل العامل الخارجي بعد أن عجزت جميع القوى الوطنية الإطاحة بالنظام العفلقي الصدامي رغم ألاف الشهداء، في اللحظة التي انتقلت فيها واشنطن لبدء مرحلة جديدة من العلاقة المباشرة مع العراق لتسعى نحو بناء دولة جديدة لم تراعي كثيرا معطيات الواقع والتاريخ والمنطق في سيناريو مغاير تماما لما حصل في شرق أوروبا بعد سقوط جدار برلين .لازالت ملامحها وتداعياتها تثير الكثير من التساؤلات والشكوك في حقبة العراق الأمريكي بعد ان انحسر دور القوى العلمانية لصالح المؤسسة الدينية.

تحية لكل شهداء ورجال 14 من تموز وضحايا الردة الغادرة. وسلاما لصلابة الكبرياء فيها وبمناضليها... والرحمة للزعيم المعذور الذي عشقه الشعب بصدق وإنسانية وصفاء... للمنقذ الذي لم يصدق أبناء شعبة الشرفاء حين أعدمه العفالقة في الصالحية في تلك الأمسية الرمضانية التي افطروا فيها حزنا وظنوا انه لم يعدم بل شبة لقاتليه...  بينما لا يزال يطل على قمر الرافدين أو زائرا أضرحة أولياء الله الصالحين قبل أن يلحقها الخراب الطائفي على يد نفس الزمر التي تأمرت على ثورة 14 من تموز او احفادهم  حاملي جينات الغدر.

السلام عليك يازعيم العراق المغدور.. بلا قبر ولا كفن.. وعلى شهداء رمضان المصلوبين في شوارع بغداد أبدا، ولأولئك الذين يعشون في المنافي البعيدة.  المجد للعراق الحر الموحد شعبا ووطنا وترابا....الذي يولد وسط الدماء والخرائب والأشلاء والمؤامرات لكنه يحلم بالحب في ثلاجات الموتى. زهرة جوري في اليد..... وغصة في القلب حتى قيام الساعة.

 بخار ست
13.07.2010

*(نشر هذا المقال قبل ثلاثة أعوام   وقد ارتأينا إجراء بعض  الإضافات والتعديلات عليه
في ضوء ماتلقيناه من ملاحظات وأراء قيمة من قبل عدد من الكتاب و الشخصيات العراقية التي
عاصرت إحداث تلك الفترة والذين نتقدم لها بجزيل الشكر والتقدير )

د . عزيز الدفاعي
Azjadeirq_55@yahoo.com


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


عزيز الدفاعي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2010/07/13



كتابة تعليق لموضوع : الزعيم ...... قتلوه....أم شبّه لهم؟!!!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net