صفحة الكاتب : عبدالاله الشبيبي

وقفة مع الآيات الأنفسية والآفاقية...
عبدالاله الشبيبي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

قال عزوجل في محكم كتابه الكريم: ﴿سَنُرِيْهِمْ آياتِنا في الآفاقِ وَفي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أنَّهُ الْحَقُّ﴾.
قالوا ﴿سَنُرِيْهِمْ﴾ تُعتبر اشارة لطيفة الى هذه الحقيقة وهي انَّ كلَّ يوم يمُرُّ من عمر الانسان تنكشفُ له حقائق جديدة عن هذا العالم، وتتجلى اسرارٌ جديدة، ففي كلِّ يوم يتوصل العلماء في مختبراتهم ومكتباتهم الى اكتشاف حديث، وتتضح آيات جديدة من آيات الله. وآفاق جمع اُفُق وتعني الاطراف، وعليه فانَّ آفاق الارض تعني اطراف الارض، وآفاق السماء تعني اطراف السماء، فهي تشمل كل الاطراف شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، وأنْفُس لها هنا معنىً واسع حيث تتضمن الروح والجسم ايضاً.
اذ يقول السيد محمد باقر الصدر: لم يكتف القرآن بالحث على دراسة الكون وما فيه من اسرار بل ربط ذلك بالايمان باللّه وأعلن ان العلم هو خير دليل للايمان باللّه وان الايمان يتأكد كلما اكتشف الانسان وتقدم في ميادين العلم لانه يطلع على عظيم آيات اللّه، وحكيم صنعه وتدبيره. وبذلك أعطى القرآن مفهوم مواكبة الايمان للعلم، وان العقيدة باللّه تتمشى مع العلم على خط واحد، وان اكتشاف الاسباب والقوانين في هذا الكون يعزز هذه العقيدة بأنه يكشف عن عظيم حكمة الصانع وتدبيره.
وهناك طريقان معروفان لمعرفة الله، الأوّل التأمّل والتفكّر في آثار الله في جسم الإنسان وروحه، وتلك الآيات الأنفسية، والثاني التأمّل في الآيات الخارجية الموجودة في الأرض والسماء والثوابت والسيارات من الكواكب، والجبال والبحار، وتلك تسمّى الآيات الآفاقية. وحينما يفقد الإنسان قدرة المعرفة، فإنّه يغلق عليه طريق مشاهدة الآيات الأنفسية والآفاقية على حدّ سواء. المصدر: الامثل.
أن النظر في الآيات الأنفسية والآفاقية ومعرفة الله سبحانه بها يهدي الإنسان إلى التمسك بالدين الحق والشريعة الإلهية من جهة تمثيل المعرفة المذكورة الحياة الإنسانية المؤبدة له عند ذلك، وتعلقها بالتوحيد والمعاد والنبوة.
وهذه هداية إلى الإيمان والتقوى يشترك فيها الطريقان معا أعني طريقي النظر إلى الآفاق والأنفس فهما نافعان جميعا غير أن النظر إلى آيات النفس أنفع فإنه لا يخلو من العثور على ذات النفس وقواها وأدواتها الروحية والبدنية وما يعرضها من الاعتدال في أمرها أو طغيانها أو خمودها والملكات الفاضلة أو الرذيلة، والأحوال الحسنة أو السيئة التي تقارنها.
واشتغال الإنسان بمعرفة هذه الأمور والإذعان بما يلزمها من أمن أو خطر وسعادة أو شقاوة لا يفك من أن يعرفه الداء والدواء من موقف قريب فيشتغل بإصلاح الفاسد منها، والالتزام بصحيحها بخلاف النظر في الآيات الآفاقية فإنه وإن دعا إلى إصلاح النفس وتطهيرها من سفاسف الأخلاق ورذائلها، وتحليتها بالفضائل الروحية لكنه ينادي لذلك من مكان بعيد، وهو ظاهر. تفسير الميزان.
ويمكن السير خطوة إلى الأمام وهو أن نقول: إننا نحتاج إلى الآفاق لإثبات الحق المطلق جل جلاله وهو الله بطبيعة الحال, وعليه فكل ما هو موجود في عالم المادة فهو دليل على وجوده جل جلاله, فآفاق العالم وأقطار السماوات والأرض والشمس والقمر والأجرام السماوية المخلوقات من شجر وحجر كلها دلائل آفاقية على وجوده جلّ وعلا.
ومن كل ذلك يتجلى لنا أمر مهم وهو أن الآفاق متوقفة على التفكير, فرب آفاق والإنسان لا يتفكر بها فلا توصله إلى شيء على الإطلاق, فالوصول إلى الحق عن طريق الآفاق متوقف على التفكر بها والتبحر والتدقيق فيها, قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾, فالتفكر في حد ذاته متمم للعبادة ومقدمة للوصول إلى الحق, فبدونه لا يمكن الوصول إليه, ألم تسمع قوله تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا﴾, وهذه الآية تثبت أن الانصراف عن آيات الله وعدم التفكر في الآفاق مقدمة لعدم الوصول إلى الحق كما هو واضح. المصدر: منهج العقيدة، ص13، س6.
إن ما يُذكر في القرآن الكريم من سنن أنفسية وآفاقية.. هذه السنن بمثابة قوانين عالم الطبيعة، لا تنخرم: إذا جئنا بالأكسجين ومعه الهيدروجين، فإن النتيجة تكون الماء قهراً!.. وفي عالم الآيات الأنفسية والآفاقية الأمر كذلك، مثال الآية الأنفسية الاجتماعية: الدفع بالتي هي أحسن ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾.. هذه قاعدة قرآنية: لو حكّمنا آية الدفع بالتي هي أحسن في خلافاتنا العائلية والسياسية في الأسرة أو المجتمع، تنتفي العداوة.. فرب العالمين جعل هذه الخاصية جعلاً، لا أن القضية مترتبة على فعل الإنسان: قد تترتب، وقد لا تترتب.. بل قال تعالى: ﴿فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾.. وفي هذه الآية أيضاً هنالك ترتب قهري فبذكر الله عزوجل يترتب عليه الاطمئنان قهراً، سواء أراد العبد ذلك أو لم يردْ؟!.. المصدر: محاضرات تربوية الشيخ حبيب الكاظمي، ص142.
وكون السير الأنفسي أنفع من السير الآفاقي كما يقول صاحب الميزان لعله لكون المعرفة النفسانية لا تنفك عادة من إصلاح أوصافها وأعمالها بخلاف المعرفة الآفاقية، وذلك أن كون معرفة الآيات نافعة إنما هو لأن معرفة الآيات بما هي آيات موصلة إلى معرفة الله سبحانه وأسمائه وصفاته وأفعاله ككونه تعالى حيا لا يعرضه موت، وقادراً لا يشوبه عجز، وعالماً لا يخالطه جهل، وأنه تعالى هو الخالق لكل شيء، والمالك لكل شيء، والرب القائم على كل نفس بما كسبت، خلق الخلق لا لحاجة منه إليهم بل لينعم عليهم بما استحقوه ثم يجمعهم ليوم الجمع لا ريب فيه ليجزي الذين أساءوا بما عملوا و يجزي الذين أحسنوا بالحسنى.
وقوله ﴿سَنُرِيْهِمْ آياتِنا في الآفاقِ وَفي أَنْفُسِهِمْ﴾. معناه إن الدلائل في آفاق السماء بسير النجوم وجريان الشمس والقمر فيها بأتم التدبير، وفي أنفسهم جعل كل شئ لما يصلح له من آلات الغذاء ومخارج الانفاس، ومجاري الدم، وموضع العقل والفكر، وسبب الافهام، وآلات الكلام. التبيان في تفسير القرآن، الشيخ الطوسي، ج9، ص143.
اختلف المفسرون في معنى الآيات الانفسية والآيات الافاقية على أقوال:
أحدها: أن المعنى سنريهم حججنا ودلائلنا على التوحيد في آفاق العالم وأقطار السماء والأرض من الشمس والقمر والنجوم والنبات والأشجار والبحار والجبال وفي أنفسهم وما فيها من لطائف الصنعة وبدائع الحكمة حتى يتبين لهم أي يظهر لهم أنه الحق أي أن الله هو الحق.
ثانيها: إن معناه سنريهم آياتنا ودلائلنا على صدق محمد (ص) وصحة نبوته في الآفاق أي بما يفتح من القرى عليه وعلى المسلمين في أقطار الأرض وفي أنفسهم يعني فتح مكة، وقالوا هو ظهور محمد (ص) على الآفاق وعلى مكة حتى يعرفوا أن ما أتى به من القرآن حق ومن عند الله لأنهم بذلك يعرفون أنه مؤيد من قبل الله تعالى بعد أن كان واحدا لا ناصر له.
ثالثها: أن المراد بقوله في الآفاق وقائع الله في الأمم و في أنفسهم وقعة يوم بدر.
رابعها: أن معناه سنريهم آياتنا في الآفاق بصدق ما كان يخبرهم به النبي (ص) من الحوادث فيها وفي أنفسهم يعني ما كان بمكة من انشقاق القمر حتى يعلموا أن خبره حق من قبل الله سبحانه.
خامسها: أن المراد سنريهم آثار من مضى من قبلهم ممن كذب الرسل من الأمم و آثار خلق الله في كل البلاد وفي أنفسهم من أنهم كانوا نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم عظاما ثم كسيت لحما ثم نقلوا إلى التمييز والعقل وذلك كله دليل على أن الذي فعله واحد ليس كمثله شيء. المصدر: تفسير مجمع البيان، الطبرسي، ج9، ص24.
وقال صاحب الميزان: إن المراد بهذه الآيات التي سيريهم غير الآيات السماوية والأرضية التي هي بمرآهم و مسمعهم دائما قطعا بل بعض آيات خارقة للعادة تخضع لها وتضطر للإيمان بها أنفسهم في حين لا يوقنون بشيء من آيات السماء والأرض التي هي تجاه أعينهم وتحت مشاهدتهم.
لقد قسّم ابن سينا في كتابه الإشارات هذه الآية إلى قسمين:
القسم الأوّل: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أنْفُسِهِمْ﴾: أنّها تعني انّنا سنهتدي من وجود آيات اللّه في الكون والأنفس إلى وجود اللّه، فهو ينطوي على البرهان الإنّي وهو الاستدلال بوجود المعلول على وجود العلة كما نستدل بنزول المطر وصوت الرعد والبرق على وجود السحب الداكنة.
القسم الثاني: ﴿أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيء شَهِيدٌ﴾، ففي هذا القسم نكون قد توصلنا عن طريق شهود اللّه إلى معرفة صفاته، ومن معرفة صفاته إلى أنّ له خلقاً ومخلوقات بهذه الصفة أو تلك.
ومن هذه الاية ﴿سَنُرِيْهِمْ آياتِنا في الآفاقِ وَفي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أنَّهُ الْحَقُّ﴾.. يستدل على الله عزوجل برهان يسمى برهان النفس: هو معرفة اللّه تعالى عن طريق معرفة النفس, ويحصل منها معرفة اللّه بوجوده وتجرده وعلمه وقدرته وسائر صفاته.
والانسان بنفسه مكتبة عظيمة اجتمع فيها كتب التوحيد, من اسهلها الى اصعبها, ومن اعلاها رتبة الى ادناها, يوجد فيها كتب سهلة سمحة, يقدر على مطالعتها اقل الناس فهما, وفيها من الكتب ما تفوق فهم اعظم علما البشر وارفعهم فهما.
فكل انسان على اي مرتبة من الفهم والعلم من ادناهم الى اعلاهم جعل اللّه له في نفسه مايحتاج اليه من كتاب التوحيد, من غير حاجة له الى تحصيله من الخارج عن حيز وجوده, فلا عذر له في ترك مطالعته, وسلوك طريق معرفة اللّه من سبيل معرفة نفسه.
وقد يسلك سبيل العقل والمنطق لاثبات التوحيد مستنداً الى السير في الآفاق وفي الانفس، ومذكّراً بأسرار خلق السموات والارض والحيوانات والجبال والبحار، وهطول الامطار، وهبوب الرياح ودقائق اعضاء الانسان: ﴿سَنُرِيْهِم آياتِنا فِي الآفَاقِ وَفِي أنْفُسِهِم﴾.
فإن جميع الخليقة هي آيات آلهية وعلائم وآثار من أجل كشف الحقيقة، فالقرآن يعبر عن العالم الخارجي من الإنسان بـ"لآفاق وعن عالم داخل الإنسان بـالأنفس، ويشير من هذا الطريق إلى أهمية الضمير الإنساني الخاصة، وقد ظهر من هنا اصطلاح الآفاق والأنفس.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


عبدالاله الشبيبي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2018/04/20



كتابة تعليق لموضوع : وقفة مع الآيات الأنفسية والآفاقية...
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net