صفحة الكاتب : حوا بطواش

إنتقام امرأة
حوا بطواش
القاعة كانت تضجّ بالطلاب، صخب مدوٍّ يملؤها، أحاديث، ضحكات وصرخات عشرات الطلاب والطالبات، بعضهم اتّخذ مكانه على المقاعد، بعضهم ما زال يبحث عن مقعده والبعض الآخر واقف غارقا بأحاديث لا نهائية، دردشات سريعة على الماشي، أو أحاديث مطوّلة تتخلّلها قهقهات مرحة.
دخل علي الى داخل القاعة، عيناه تبحثان عن شيء ما بين جموع الطلاب والطالبات، الجالسين منهم والواقفين، تبحثان دون مبرّر واضح ودون توقف، عن غزلان. ولكن... دون جدوى.
منذ أن فتح عينيه في الصباح الباكر، يراوده شعور غريب لا يدرك كنهه، ولا يجد له تفسيرا، شعور بالتوتر والإضطراب لا يفارقه.
جلس علي في مكانه المعتاد في الصف الأول من المقاعد، أخرج قلمه وأوراقه استعدادا لبدء المحاضرة. إستغرب في داخله: أين يمكن أن تكون؟ إنها أبدا لا تتأخّر، وكان متلهّفا لرؤيتها ومتشوّقا لمعانقة نظراتها النقية.
وبينما كان علي جالسا في مكانه، سارحا بأفكاره، بعيدا عن القاعة وعن كل ما يدور حوله، فجأة... لمح الفتاة ذات العينين الخضراوين وهي تدخل القاعة بخطواتها البطيئة، الواثقة، تسلك طريقها بين جموع الطلاب المتواجدين في كل الزوايا. ثم رفعت إليه بصرها والتقت عيناها بعينيه برهة، دون أن تسلّما، وشرعت تبحث عن مقعد مناسب لها.
إستغرب علي مما رأى، حيث ميّز في ملامحها تعبيرا غريبا لم يعتد عليه، ولم يألفه منذ أن تعرّف عليها، نظرة غريبة توحي بالغضب شتّتت فكره وزادت من توتره. لماذا تغضب منه؟ تعجّب في نفسه. ولم يجد سببا يدعوها إلى الغضب خلال بحثه السريع في داخل ذهنه.
ولكنه نسي وجودها، ونسي أمرها بسرعة كبيرة، إذ رأى غزلان وهي تدخل القاعة بصحبة إحدى صديقاتها، بهيّة الطلعة، جميلة الحضور، مشرقة كعادتها، تبثّ رقة الشوق في روحه التي اعتادت أن تعانقها بالكلمات صباح كل يوم، وتلامس أوردتها بشغف.
نظراته ترنو إليها مملوءة بالنشوة، تنتظر ضحكة عينيها حين التقائهما بعينيه، وهمس نظراتها الدافئة فوق وجهه، بعد غيابه عن الجامعة في اليومين الماضيين بسبب المرض. ولكنه فوجئ حين مرّت بجانبه، لا نظرة ولا ضحكة، ولا حتى التفاتة تشي بشيء، وجلست مع صديقتها في أحد المقاعد الخلفية، تاركة مقعدها المعتاد إلى جانبه خاويا، حزينا.
أحسّ علي بالقلق وأصابه الوجوم. لم يدرك ماذا يفعل وماذا يفكّر؟!
مرّت المحاضرة ببطء كألف عام، وبعد انتهائها، قرر الذهاب إليها. إقترب منها وابتسامة عذبة تكسو شفتيه الورديتين، ينبض قلبه بالمودة، ويشعر بسحر جمالها يخترق حواسه. ولكنه عندما وقف قبالتها عاوده ذلك الإحساس الغامض الخفي بالتوتر والقلق.
رمته غزلان بنظرة تطفح بالخيبة والأسى، ولم تقُل شيئا. بل أرخت نظرتها وانشغلت في ترتيب أوراقها. لم يعرف علي ماذا يفعل... وماذا يقول؟! وتعجّب في داخله: لماذا تتجهّم الدنيا بأكملها في وجهه منذ الصباح؟!
بعد لحظتين... سألها والتردد يسري في صوته: "ما بك غزلان؟"
ولكنها لم ترفع نظرها إليه، وتابعت عملها دون اكتراث، حتى خيّل إليه أنها لن ترد. ولكن، وبعد أن انتهت من ضب أغراضها في حقيبتها، وقفت أمامه ورمقته بنظرة طويلة تفيض بالحسرة والأسى، وقالت له جملة واحدة: "يؤسفني أنني فقدت ثقتي بك."
واختفت من أمام عينيه بسرعة البرق.
أحسّ علي بوخزة أليمة في صدره، غامت عيناه بالدموع، ولم يعُد قادرا على الوقوف بثبات، ولم يعُد يرى شيئا أمامه. كل شيء بدا له أسود قاتما، ويسائل نفسه دون انقطاع: ماذا فعلت؟؟
جلس على المقعد القريب واضعا رأسه بين يديه، أطرق مستغرقا في الفكر، محاولا أن يسترجع نفسه. 
وعندما رفع بصره ثانيةً، فجأة، وقع نظره عليها بين جموع الطلاب الذين كانوا منشغلين في مغادرة القاعة، ذات العينين الخضراوين واقفة برفقة غزلان، تهمس في أذنها شيئا ما، وعيناها تصوبان نحوه نظرات مشوبة بالحقد والإزدراء، وابتسامة خبيثة تشعّ على شفتيها.
فجأة، شعر بانفجار مبهم في رأسه، وانقبض قلبه بشدة، إذ أيقن في تلك اللحظة، أنها السبب وراء غضب غزلان! فقد تذكر كيف تغيّرت ملامحها وامتُقع وجهها وتلوّن بشتى الألوان، حين قال لها قبل عدة أيام، بصدقه المعهود: "أنت مثل أختي."
فبعد أن أحس بمحاولاتها للتقرّب منه، أراد أن يصارحها بطريقة لطيفة، خشية عليها، أنها بالنسبة له أخت عزيزة، ليست أكثر.
ولم يكن علي يدرك مدى الجرح والطعن في كبريائها وأنوثتها الذي أصابها حين قال لها ذلك الكلام، وهي الإبنة المدللة وجوهرة والديها، التي لا تتفوّه بطلب صغير إلا وقد تحقّق لها! فمن ذا علي حتى يصدّها بالقول "أنت مثل أختي"؟!
إشتعل صدرها بنار الحقد والغضب وكراهية الدنيا بأكملها... وقررت الإنتقام! إنها مستعدة أن تفعل أي شيء حتى تلحق به كل الأذى، حتى ترتاح نفسها المطعونة، فقط لأنها أخته!
فأخذت تروّج الإشاعات الكاذبة عنه، حيث تصوّره وكأنه كاذب، مخادع ومنافق. وأنه يهدّدها على هاتفها الجوال، ويقول لها كلاما بذيئا، يلطّخ سمعتها وكرامتها. حتى ابتعد عنه أصدقاؤه وصديقاته، ولم يكن أحد يصدّقه ولا حتى يصغي إليه حين يحاول الدفاع عن نفسه. عاش علي أياما عصيبة لا تخطر على بال ولا يتخيّلها أحد في أسوأ لحظاته. 
وكان أكثر ما يشقّ صدره ويمزّقه أشلاءً، حين يرى غزلان تمشي مع ذات العينين الخضراوين، أو تجالسها، فيتخيّل في نفسه كأنها تقبض على قلبها وتسكب فيه سم حقدها المتأجّج في داخلها بافتراءاتها الكاذبة، ويشعر علي بروحه تتلوى، وتقتله الرغبة بأن تدرك غزلان الحقيقة، وتذرف عيناه دمعة حارقة حين يتسلل الحنين والشوق إلى صدره، وتعاوده صور كثيرة جميلة من أيام ليست ببعيدة، يتمنى لو كانت تعود.
آه، كم كان بحاجة إلى دفئها وحنانها! كم كان متشوّقا لمواساتها له، توّاقا لرقة لمسها على خدوده المتحرّقة! 
ما زال يذكر ذلك اليوم، كأنه كان بالأمس، وقد انطبعت صورتها في مخيّلته، عندما خرجت من أحد الإمتحانات باكية، حيث أخفقت في الإجابة على سؤال ظالم لم يكن ضمن مادة القراءة. فخرج علي وراءها، وقد غلبه الخوف عليها، وسيطر عليه القلق، أراد مواساتها في حزنها وتهدئة نفسها. 
كانت محطّمة وحالتها تدعوه إلى التألّم والرثاء. وقفت أمامه تبكي بكاءً حارقا، تمزّق له قلبه، وهو يرى دموعها الحارة تنساب على وجنتيها، فيرتمض من الحزن، واستولى عليه الضيق والإحباط، إذ لم تفلح توسّلاته لها بأن تكفّ عن البكاء. فتملّكته رغبة شديدة بأن يضمّ وجنتيها بيديه ليمسح عنهما دموعها الغالية. ولكنه لم يملك أن يفعل شيئا إلا أن يذهب ويحضر لها منديلا لتمسح به دموعها.
كم كان هو اليوم بحاجة إلى رقة لمسها لتمسح دموعه عن وجهه، وتلملمه من تعاسة أيامه وكآبة لياليه.
مرّت الأيام والشهور، وغزلان على غضبها، لا تبادله كلمة واحدة ولا حتى نظرة. وباءت كل محاولاته في إرضائها وكسب ثقتها من جديد بالفشل.
ولكن الظلم لا يدوم، والكذب لا يطول. يأتي يوم ينتصر فيه الحق على الباطل، مهما طال الإنتظار.
ذات يوم، أعلن رئيس الجامعة بأنهم سيختارون اثنين، شابا وشابة، من بين المتفوّقين والمتفوّقات، حتى يبعثوهما إلى رحلة دراسية في الخارج، والإختيار سيكون بالقرعة. وكان علي من المتفوّقين في القسم، فكان اسمه من بين المرشحين.
جلس الجميع والهدوء مطبق عليهم، والتوتر بادٍ على وجوههم، ينتظرون بفارغ الصبر أن يعرفوا من هما الاثنان اللذان سيتم اختيارهما في القرعة.
نادى الأستاذ إلى أحد الطلاب لسحب الورقة الأولى، فاختار اسم الطالبة سعيدة الحظ. وبعد ذلك، طلب من غزلان أن تسحب الورقة الثانية التي تحدد اسم الطالب الفائز. فمدّت يدها واختارت ورقة من بين الأوراق. وحين فتحتها، إتّسعت عيناها دهشة، وانفرجت شفتاها، ووقفت مبهوتة لحظة طويلة، ثم قرأت اسم الطالب بصوت مرتعش: "علي ..."!!
خفق قلب علي بقوة حتى كاد أن يخترق صدره، وغمره طوفان الفرح وهو يسمع همهمات زملائه وزميلاته من حوله وهم يتهامسون: "ليست غزلان التي اختارت... بل قلبها!"
إقتربت غزلان من علي، إبتسامة رقيقة تغطي شفتيها بغشاء من الجمال، ونظراتها تعانق نظراته بشوق وحنان. مدّت يدها إليه وقالت:"مبروك علي."
وتبخّر كل خلاف بينهما وتلاشى الغضب. تلامست يداهما وتشابكت نظراتهما، عندها، أيقنت غزلان أن حبها له حقيقة، وتأكّدت في نفسها أن مشاعرها نحوه كانت صادقة وحقيقية، نابعة من قلبها الذي أحبه بصدق، وكانت سعيدة وهي واقفة هناك معه، سعيدة من أجله ولأجل فرحته. ولكنها لم تكن تدرك أن السبب الحقيقي لفرحته ليس اختياره للذهاب إلى الرحلة الدراسية. أبدا، لا! بل لأن الإختيار كان على يديها.
نظر إليها علي وغمرها بنظراته الدافئة الحانية، أراد أن ينحني إليها ويهمس في أذنها: أحبك. ولكنه بقي جامدا في مكانه يتساءل في نفسه: ترى، هل سيعلن لها حبه ذات يوم؟ أم أن القدر سيحول دون ذلك؟
إبتسم لها علي وشعر براحة عذبة وغمر الرضا نفسه وقلبه... وترك ذلك التساؤل للأيام.
 
 
كفر كما
18.11.10

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


حوا بطواش
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/10/13



كتابة تعليق لموضوع : إنتقام امرأة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 

أحدث التعليقات إضافة (عدد : 3)


• (1) - كتب : نزيه كوثراني ، في 2011/10/17 .

وكانت الرسائل الأولى بينهما في غاية الروعة والجمال كما يقال
غزلان = كذبت قلبي وصدقت الآخرين
في هذه الأيام اشعر بوخزة ضمير وأنا لا أكاد اصدق كيف استطاع كلام الآخرين أن يؤثر علي بهذه البساطة ويجعلني إنسانة أخرى لا تمت إلى شخصي بصلة .إلى درجة كدت أنسى من أنا . فقد كنت تحت سطوة كلامها مما عطل كل حواسي وشل ذاكرتي بقوة الانفعال والتوتر. عندها عرفت خطورة أن يسقط الإنسان في كلام الآخرين وينسى نفسه . لعله الدرس الذي تجرعه سقراط فصرخ قائلا اعرف نفسك بنفسك . لكن في المقابل ربما كنت في أمس الحاجة لأعرف أن طريق الأوهام مدمر للحب وهو يجعل مني ظالمة لنفسي و لك . فتعلمت بذلك أن أكون فردا حقيقيا وامتلك ذاتي دون أن أقع في شرك عفوي الجماعة الذي يخرب الإنسان من الأعماق فيفقد كيانه بصيرورته جزءا من القطيع . إن ما يحزنني بنوع من الحسرة الممزوجة بالألم هو أنني كذبت قلبي وصدقت الناس ...
علي = صدقت حبي ..وانتظرت
حبيبتي لا اخفي عليك فرحتي العارمة بهذا الفوز المزدوج خصوصا وأنت شاركت في صنعه .صحيح أن التجربة كانت مؤلمة وفيها الكثير من العذاب لكن عندما نتأمل الحياة نجد أنها لا تكون جديرة بان تعاش إلا من خلال الصمود في وجه المحن والشدائد وان كل ذلك الجبل من الألم والأحزان ينهار عندما يكون حبنا صادقا مسنودا بالثقة في الذات . كنت في تلك اللحظة العنيفة وأنت تسحبين ورقة القرعة امتلئ بشيء غامض يدفع الأحزان والشك في الإنسان ..لكن سرعان ما صار ذلك الشيء شفافا وهو يسري في الأعماق وينشر الفرح في خلايا جسمي عندها أدركت نعمة أن يصدق الإنسان حبه . تذكري أن الأشياء الجميلة لا تخوننا ولا تغدر بنا إلا بعدما تضعف ثقتنا بها وننساق وراء لغة الظروف والقدر وما تصنعه الحياة بقسمة الأيام والنصيب .


• (2) - كتب : حوا سكاس ، في 2011/10/14 .

أشكرك على تعليقك واهتمامك استاذي الفاضل سهل الحمداني. من فلسطين لك مني أطيب التحيات وأحلى الأمنيات بكل الخير.
دمت بخير

• (3) - كتب : سهل الحمداني ، في 2011/10/14 .

يحضر لها منديلا لتمسح به دموعها.
إبتسم لها علي وشعر براحة عذبة وغمر الرضا نفسه وقلبه... وترك ذلك التساؤل للأيام.

قصة فيها صدق السرد والجمال الاخاذ وفيها ينتصر الحب على الانانية
ولكن من اي بلاد يا حوا سكاس
سهل الحمداني / العراق





حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net