تحيل السياسة بشكل عام إلى تدبير الحياة الإنسانية في كافة المجالات، غير أن السياسة التي سنتحدث عنها هنا، ليست متعلقة بسياسة الرجل لمنزله أو سياسة رب العمل لعماله، بل سياسة الحاكم لشعبه. وقد نشأت هذه السياسة من الحاجة الماسة للأمن والسلام الدائم غير المتوج بحقن الدماء أو السطو غير المبرر للممتلكات، سواء الخاصة منها بشخص معين أو العامة، لكن هذا الشعب لم يكن يعلم أن هذه الحاجة الماسة للأمن والسلام ستتحول إلى نظرية للعبد والسيد. فكيف ذلك؟
حينما يصبح السياسي خطيبا ماهرا، يجيد التلاعب بالكلمات، فإنه من السهل أن يجعل الشعب مجرد لعبة بين يديه، يتحكم فيه كيفما يشاء، لأن كلماته تؤثر بسرعة في تلك النفوس الرهيفة التي لا تستطيع الصمود أمام خطابه الخلاب، كالعبد الذي لا يستطيع الصمود أمام جلاده أو كالغنم أمام راعيها، فهي نفوس مثقلة بالجهل والفقر، لذلك نجدها دائما تردد شعاره المنشود: " إننا نريد أن نعيش بما قسمه الله لنا "، وتترك الذئب الماكر يستلذ بثرواتها ويسرق مستقبل وحلم أطفالها في العيش الكريم.
فالسياسي في نهاية المطاف ما هو إلا رجل متحايل على فريسته، يعطي للشعب وعودا تجعله يتشبث بالحياة، ثم بعد ذلك يخلف بها، ليحلق بعيدا عن هذه العقول الساذجة، الهائمة في أحلامها الخرافية التي لا علاقة بالواقع المرير، فهو يعرف كيف يتلاعب بمشاعرها؛ يوقظها من نومها حينما يريد أن يبعث الأمل فيها، ويشل حركتها عندما يكتشف أنها اكتشفت لعبته الدنيئة، وكأنها ثيران مروضة، إن خرجت عن طوعه كشر عن أنيابه الحادة ليمزق جسدها الهش، لتكون عبرة للقطعان الأخرى التي ما زالت تخشى من بطشه، وتفضل الاختباء على المواجهة. فكيف وصل الشعب إلى هذه الدرجة المتدنية في مراتب الوجود، بعد أن كان يعيش قبل تأسيس الدولة في حالة مساواة وحرية تامة بين جميع أفراده؟
الجواب بكل بساطة يكمن في أن الشعب يختار السائس الذي يسوس أموره وهو يجهل أن هذه الشروط التي تعهد بها على نفسه هي مجرد شروط مجرد شروط وهمية، فسرعان ما يصل السياسي إلى سدة الحكم، تتبخر طيبته وتواضعه والوعود التي وعد بها شعبه، فلو كان الشعب غير فقير على المستوى المعرفي لما سقط في فخ صياده.
إذن فالجهل هو السبب الرئيسي في جعل السياسي أعلى مرتبة من الشعب، لأن هذا الأخير لم يضبط مبادئ وأسس اللغة التي تخفي مكنونات الذات الإنسان ولا تظهر منها إلا السطح.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat