صفحة الكاتب : محمد الحمّار

كتاب "استراتيجيا" ح (16): الامتياز الديني و الانتقال الديمقراطي
محمد الحمّار

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
لمّا نلاحظ كم من عقود ضيّعها مجتمع تونس (والمجتمع العربي الإسلامي عموما) في محاولات فاشلة لتحديد وَصفةٍ للتديّن الجماعي، أخشى ما نخشاه الأثر السيئ الذي قد يطبع به هذا الفشلُ استحقاقا مثل الاستحقاق الانتخابي القادم في تونس. 
وبالرغم من أنه فشلٌ نسبيّ (طالما أنّ المؤمنين متصلين بالدين الحنيف بشكل مرْضي عموما على المستوى الفردي)، إلا أنّ دوام مسألة الإسلام السياسي بلا تناول علمي وعملي يطرح معادلة محورية، علما وأنّ الانتخابات على الأبواب: لا للحلول الظرفية، لكن ما الضمان لانتقال ديمقراطي ناجح؟
ما من شك في أنّ أيّ ضمان ممكن لن يكون من الصنف الإجرائي، تُحدده المراسيم أو الأوامر أو القرارات. لقد حان الوقت للتركيز على أولى المراحل العملية للمسار الديمقراطي ألا وهي الحملة الانتخابية. ولن نذرَ ساعة واحدة تُهدر في الانكباب على الجانب التشريعي. إذ إنّ التشريعي مؤقت، مَثَلُه في ذلك مَثَل السلطات الثلاث والحكومة مجتمعة. وبالتالي لن يُسفر القرار المؤقت عن فعلِ مستدام. فما العمل إذن؟
 لكي نؤَمّن للبلاد وللعباد قدرا أدنى من الاستقرار النفسي ومن الاستدامة في الفعل لا بدّ أن نسرع بتحويل سلطة القرار، من آلية بيد السلطة الحاكمة (المؤقتة) إلى آلية بيد مَن هو مستدام: الشعب. وماذا يعني هذا في مجال الدين والتديّن ومسألة الإسلام السياسي؟ يعني هذا أن تبذل النخب ذات القدرة الإقناعية على تفهيم الشعب عموما وجمهور الناخبين خصوصا أن المسار الديمقراطي مسارٌ سياسي، أي عملي، وأنه ككل مسار، يتسم بالواقعية وبالتدرّج وبالنسبية. كما أنّ على النخب ذاتها أن تشرح للشعب وللناخبين أنّ مسار التديّن، على غرار المسار السياسي الديمقراطي وعلى غرار المسار الثوري، مسار لا يمكن أن يكون فيه الامتياز الديني إلا متناسبا مع كتلة العمل المُنجَز، لا مع كتلة الإيمان لمّا يكون هذا الأخير غير مسندٍ بالعمل: "الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل" (أثرٌ للحسن البصري).
وقد يصلح تشبيهُ الدين باللغة كعامل مُساعد على التقريب من عامة الناس مفهومَ التناسب بين الإيمان والعمل، وبين الدين والتديّن. وإن كان الدين مثل اللغة فالتديّن مثل التكلم. من هنا يتوجب الحرص على أن يميّز المؤمنون بين الدين وبين التديّن تمييزهم بين اللغة والكلام. وإذا فعلوا فسيدركون أنّ الأول مثلٌ أعلى بينما الثاني تجسيم في القول والفعل. وسيفهمون أن لا أحد يولدُ عابدا متميزا لله جل وعلا ولا ناطقا متميزا للغة. وسيتملّكون السبُل المؤدية إلى حُسن العبادة تَمَلُّكَهم سُبل حُسن الكلام. وسيقيّمون كَم هي طويلة أو قصيرة المدة التي يتطلبها التميز والامتياز في أداء الفروض الدينية مُقارنة بطول أو قصر المدة التي يستوجبها الأداء اللغوي والكلامي الراقي.
بطبيعة الحال من المُحبذ أن يكون خطاب النخب ذات القدرة الإقناعية متفرعا عن هذه المعاني التشبيهية. وليس ذلك ملزما طالما أنّه قد يصح التعبير عن نفس المعاني من منطلقات علمية أخري. حيث إنّ المهم في الأمر كله أن تتعاطى هذه النخب أكثر فأكثر مع المعطى العلمي لتفسير الطرق الحديثة في الاتصال والتواصل.
والمهم أيضا أن لا تقتصر النخب على جماهير الناخبين في توجّهها بخطابها العلمي . إنّ التوجه بنفس الخطاب أيضا إلى المرجعيات الشبابية لهذه الجماهير، مع الحرص الشديد على ذلك، من شروط الانتقال الديمقراطي الناجح. وهو كذلك نظرا لما سيوفره مثل ذلك العمل من ترابط بين الأجيال. إذ نحن أمام مفارقة لا تتحمل الإتلاف أو غض النظر عنها: من جهة ترى كتلة من الناخبين الكهول والمتقدمين في السن، ومن جهة أخرى ترى شبابا في معظمه قرر العزوف عن المشاركة في التصويت في يوم 23 أكتوبر. وإذا لم تفعل النخب شيئا لرتق البَون بين الشريحتين العُمريتين الاثنين، على الطريقة التي فسرناها مثلا، فسوف تذهب سُدًى لا قدر الله كل الجهود المبذولة إلى حد الآن في سبيل إنجاح الانتقال الديمقراطي.
 على أية حال إذا عُدنا إلى طبيعة الخطاب المفترض التوجه به إلى الشريحتين العريضتين المذكورتين، وإذا اعتبرنا عاملَ ترابطِ الأجيال شرطا أساسيا لضمان العبور إلى ضفة الديمقراطية، من الضروري أن تشرح النخب للجماهير العريضة كيف أنّ للشباب لغة يريدون تبليغها للكبار وكيف أنّ للكبار ما تيسّر من الصفاء اللغوي الذي ينبغي تحويله إلى مادة خام تُعتمد لتأسيس كلام المستقبل، وأنّ العمل بواجهتيه الاثنتين يُعدّ عبادة.
 تلك عبادةٌ قد تكون مصحوبة بالصلاة وبالزكاة وبالصوم وبالحج وقد لا تكون. المهم أن يكون العمل المنجَز قاسما مشتركا لتقييم الأداء التعبّدي. أما ما خفِي وسند العمل فلا يحاسِبُ صاحبَه إلا الله جل وعلا. ومن جهة أخرى لمّا يفوز شخص متديّن برضا الناس بخصوص عملٍ مُنجز، ليس واردا أن يطالب الناسُ الشخص المنفذ للعمل بالاستظهار بركائز البنيان الذي بناه، مثلما ليس واردا أن يطالب الناسُ مَن توصل إلى إتقان التكلم بلغةٍ ما بالاستظهار بالقواعد النحوية والصرفية التي تقيّد بها أو مارسها أو استقرأها أواستأنس بها أثناء تشييد البناء اللغوي.
 فلتكُن التجربة الديمقراطية في مراحلها الجنينية القادمة تنقيبا على مادةٍ لمنهاجٍ مِن الإسلام يرسمُه أناسٌ مُبتدئون، عوضا عن أن تكون إسقاطا لشرعةِ ولمنهاجِ الإسلام تبصمُه على الواقع أيادٍ لا منهاج لها.  
محمد الحمّار
كانت هذه الحلقة (16) من كتاب بصدد الإنجاز: "استراتيجيا النهوض بعد الثورة".
 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد الحمّار
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/10/02



كتابة تعليق لموضوع : كتاب "استراتيجيا" ح (16): الامتياز الديني و الانتقال الديمقراطي
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net