لم أكن على تواصل مع صديقي القاص جمال نوري في فترة الشتات التي نعيشها الان وخاصة على صفحة التواصل الاجتماعي الفيس بوك الا ما ندر شأنه شأن اعز الأصدقاء الاخرين على نفسي وبما أني ممن يلتمس لأصدقائهم سبعون عذراً فلن ابالي ..
لكن الذي حدث انه وفي الساعة الواحدة من صباح احد الأيام فاجأني بترحاب مختصر على الخاص ودعاني لقراءة نص قصصي لقاصة تونسية تدعى (Khairia boubtane) ولبيت الطلب وشاركته وحين انتهيت كان لكل منا وجهة نظره (خلصنا الى انه نص سردي ولكن لغته شعرية) ، ولم تمض الأيام بعدها حتى بدأت منشورات (خيرية بوبطان ) تظهر على صفحتي وقد لفت انتباهي مقطعا روائياً ،حاولت أن اطلبه من (السيد كوكول) فسبقته المؤلفة بأرسالها قائلة :
• هذه الرواية...وأتمنى أن تجد فيها ما يروق لك...
وعلى الفور استنفرت أشيائي وقطعت كل اتصالاتي وبدأت بقراءتها في الثامنة مساء لأنتهي منها في الساعة الحادية عشر من مساء اليوم التالي مع رسالة ابرقتها للروائية: ( لقد حق لي الان ان ارتاح من عبث مريم وفوضويتها الساحرة ....)
......................
والراوية يا سادة من ( 232) صفحة .صادرة عن دار العلوم ناشرون 2013
الراوي فيها عليم (السارد للحكاية ) يراقب المشهد من الخارج ويعرف ضعف الشخصيات وقوتها وأسرارها ويقدر في أي لحظة أن يعطي القارئ سبل الخلاص من خلال الاستحضار أو الاسترجاع مع انقطاع التسلسل الزمني أو المكاني للرواية ليتم توظيفه في مكان اخر وبأحداث أخرى تمر بها البطلة بأسلوب يدفعك كقارئ متمرس ان تضع عدتك بجانبك وتبدأ بتعقب الاحداث خطوة بخطوة لتنتهي بلملمتها شيئا فشيئا. وهي تقنية استخدمت في السينما والمسرح في ما مضى ثم ما لبثت ان وظفها الكثيرون ومن جملتهم الكاتب الروائي نجيب محفوظ في روايته (اللص والكلاب) .
وملخص احداث الرواية تدور. مع مريم الفتاة الجنوبية من تونس الشابة والمراهقة الثائرة التي لا تأبه إلا ان تشارك الاخرين بمظاهرات ضد قرار الحكومة ببيع احد حقول النفط لشركة اجنبية ((وكاد ينتهي بها المطاف في ذلك اليوم العصيب إلى الاعتقال وحتى خسارة مستقبلها التعليميّ، فبعد مطاردة مستميتة عادت إلى منزلها، ممتقعة لاهثة بحنجرة مشقوقة ونصف حذاء. في حين اعتبرت النصف الآخر من خسائر الحرب. إذ منحت مريم «فردة الحذاء » لرجل الأمن، الذي تلقّاها على رأسه، وساما يمجّد همّته وولاءه لسيّده.((
ثم ينتهي هذا المشهد لتنتقل عدسة الرواي العليم الى استرجاع جديد تجلَس فيه مريم في (( ركن مقهى من مقاهي «باردو » لم تعد تذكر اسمه.
جلس قبالتها شاب باسترخاء وتثاقل وقد ألقى بجسده القويّ البنية على الكنبة المقابلة يتصفّح جريدة يشرب قهوته بتأنّ وهو لا يكاد يرفع بصره عنها.
كأنه يريد أن يقول لها :
- أنا هنا من أجلك. ألم تدركي ذلك بعد؟ وإلاّ فما الذي أفعله وسط هذه لفوضى؟؟؟))
فيبدأ فصل جديد من الرواية سمته الحوار والمغامرة و الحب والعبث والغدر وقد طغت عليه توظيف سمتين جديدتين :
1- السمة الأولى : الفلكلور الشعبي كمادة خصبة وشيقة وترجمة بليغة لمشاعر العامة لمراحل وفترات متباينة للتاريخ البشري ولقد شاع استخدام الفلكلور في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على يد عالم الأثريات الإنجليزي (سيرجون وليام تومز) هو يرمز الى مجموعة الفنون القديمة والقصص والحكايات والأساطير المحصورة بمجموعة سكانية معينة في أي بلد من البلاد. وقد افردت الكاتبة جزءاً كبيرا منه في الرواية من ببنها قصة (عزيّز الستوت والغولة وحبحاب) وقد كان توظيفا بارعا وممتعا ،كأنه يدعو القارئ في النهاية أن يتفاعل اكثر ويضع الاعذار لأفعال الابطال الشاذة .
2- السمة الثانية : اللهجة المحلية التونسية فقد ظل مهيمناً على الرواية حتى الصفحة ( 152) وبالتحديد بعد سفرها الى فرنسا ولقائها بصديقها الجديد سامي ذو الأصول الجزائرية وهنا اجد أن توظيف اللهجة المحلية بهذه الكثافة كان يحتاج الى صياغة بشكل مبسط وواضح ومفهوم وعدم الإغراق في مصطلحات عامية تثقل القارئ من مناطق ودول أخرى, وكان على الروائية أن تركز على القارئ المستهدف .... وان كانت الحوارات لم ينقصها من الجمالية ، خاصة اذا كان لدى القارئ الرغبة في أن يضيف لثقافته شيئا جديدا وهو موضح في نهاية الصفحة على شكل هامش .
• ومن الجدير بالملاحظة ان شخصية الحبيب (جواد) لم تكشفه لنا عدسة الرواي العليم بتفاصيله الدقيقة ولم تلق الضوء الاّ على ممارساته الشهوانية المنقوصة مع مريم .. وقد اخذتنا عدسة الرواي لأن نجوب معه بين الاسطر وعلى مدى (100) صفحة لنتعرف في النهاية عن سيرته الذاتية وكيف فضل الاقتران بأخرى تاركاً ذلك الحب يغرق بحزنه وانفعالاته وقرارات مريم غير المدروسة والطائشة أحيانا حتى آخر الرواية حيث انها ما تلبث ان تتزوج من شخص لم يظهر لنا واضحا ً ولم نجد له مكانا فكان الطلاق ابلغ توضيح لطمر هذا الزواج الفاشل .
ثم تعود بنا الكاميرا الى استرجاع جديد يظهر فيها (احمد ) صديق مريم منذ الطفولة وهو في العقد الثالث من عمره والدور الذي قام به حين علم بحب مريم الجنوني لـ(جواد) والتي لم تكشفه احداث الرواية الا بعد ان انتهى ذلك الحب ثم نجد أن الضوء يعود فيسلط عليه بطريقة مكثفة لينتهي بمقتله وبحضور (مريم) التي تنكرت لمنظر الجريمة اثناء صفقة ( مخدرات ) كان يعقدها مع جزائريين على الحدود ، فتقرر مريم ان تترك تونس وتهاجر الى فرنسا بطريقة غير شرعية عبر البحر بعد ان تغاضى عنها البوليس وفشل في ان يستدرجها لأسباب مقتله !!
• في فرنسا يقع سامي الجزائري الأصلي في حبها بعد لقاء جمعهما في احد حاناتها فيقوم بتوظيفها بالصحيفة التي يعمل بها مصورا ليعيش معها في شقة واحدة تجمعهم فيها كل غرائز الحياة والجسد الا الحب الذي بدا ضعيفاً من قبل مريم وكأنها تريد أن تنتقم من قلبها وما اسرفه بحب (جواد ) وضياعه في نهاية المطاف وقد باءت كل محاولات (سامي) بالفشل معها فقرر ترك فرنسا والسفر الى العراق ً حبا ًبالمغامرة وطمعا في ان ينسى مريم وهنا لا بد ان انتفض لعراقيتي فكان الاجدر أن يكون العراق برعما يورق منه عطر العاشقين ..أو ملاذا للحب فيه يكتمل العشق!!.
• يعود سامي لفرنسا بعد ان يتعرض لانفجار كاد ان يقضي على حياته فيدخل المصحة تلو الأخرى لينتهي به المطاف شارد الذهن مصدوما كاد ان يتحول إلى مجنون حانق وأخرق وفاشل، عاجز عن كلّ شيء. فلا طعم للحبّ ولا الجنس ولا شيء بعد الذي شاهده من قتل وهتك للأرواح دون مبررات عقلانية ..
والامر ذاته صادف مريم بغياب سامي ولم تشف هي الأخرى الا بسماع خبر نجاته ثم يطلب منها الزواج مرة أخرى لتعود برغبة منه الى ارض الجنوب في تونس فتجد أن السنين الطويلة لم تغير شيأً والشيء الوحيد الذي يكبر في وطنها هو الحزن. هكذا قالت مريم لسامي وطلبت منه العودة .
وما كان من سامي بسفره هذا سوى ان يقتل جواد في قلبها الى الابد وان تبقى له وحده فقط واظنه قد نجح .
هربت مرّة أخرى لباريس . لكنّها ظلّت تتابع الأخبار القادمة من هناك، أخبار كان للاحتراق نصيب كبير فيها في وقت من الأوقات.
وهنا يتغير دور الرواي العليم الى راوي يجهل المستقبل من خلال سؤال يسأله
هل تتغيّر هذه الأرض يوما؟؟؟
من يدري؟؟؟ ثم تعود الكاميرا الى تسجيل الصورة الأخيرة من خلال إيقاع مريم المتصلّب في أروقة المتاحف، دبّ فيها بعض النّشاط المريب وتمايل جسدها المتهالك في تؤدة تحت عباءة حريريّة بيضاء فضفاضة شفّافة تفرج بوضوح مبهر عن غضونه وجراحاته.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat