السيبة (في عتمة الماء)..!!
د . حسن خليل حسن
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . حسن خليل حسن

مركز علوم البحار – جامعة البصرة
(من يملك ماءاً و نوراً فلا مبرر عنده للضجر) مثل انكليزي
منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي بدأت تلوح في الافق ظاهرة جديدة تمثلت بنقص المياه، وهي جزء من ظاهرة الجفاف التي بدأت تغزو العالم خلال النصف الثاني من القرن المنصرم، ولم يظهر شح المياه فجأة حيث بدأت مشكلة التناقص بالإمدادات المائية بمؤشرات خاصة تمثلت بتغير نوعية المياه وتدهورها تدريجياً في تلك الفترة ثم تفاقمت المشكلة حتى بدأت تطيح بمناطق كاملة ومن امثلتها مشكلة ملوحة المياه الشديدة التي بدأت تهدد أطراف مدينة البصرة وكانت اولى التخوم التي اطاحت بها الملوحة ناحية السيبة (50 كم تقريبا جنوب مدينة البصرة).
ان محنة السيبة مع مياه شط العرب تتكرر كل عام، فنقص المياه وتدهور نوعيتها واقترابها من خصائص مياه البحر تكاد تغزوها كل صيف وخصوصا الاشهر (حزيران – تموز – آب) بسبب المد الملحي القادم من الخليج، وهي انموذج مصغّر لمشاكل اكبر لمناطق اخرى ممتدة لمسافة 200 كم شرق وغرب شط العرب، وان تهديد الواقع الزراعي في السيبة هي جزء اصغر من مجموعة مشاكل اعمق واكبر، ولعل اوضحها مؤشرات التلوث التي بدأت بوادرها الكارثية في العامين 2014 و2015 ، حيث ظهر اسوء انواع التلوث البكتيري المتمثل بتعفّن المياه في شط العرب خلال اشهر الصيف في الجزء الاوسط من المجرى(مركز مدينة البصرة).
وبنظرة فاحصة للخريطة المرفقة يتبين ان منطقة السيبة هي بؤرة تجمع بين اصناف عديدة من المصادر الملحية اهمها المياه البحرية من جهة الجنوب(الخليج العربي) حيث يتعاظم تأثير المد خلال الاعوام الاخيرة بسبب تناقص التصريف الوارد من جهة روافد شط العرب وعدم قدرة التصريف على دفع او تخفيف تركيز الاملاح البحرية، كما ان هنالك مصدر اخر للأملاح في الجزء الجنوبي من شط العرب يتمثل بمياه البزول الزراعية من الاراضي الايرانية حيث لجأت ايران مؤخرا الى استصلاح جهات شاسعة في اقليم خوزستان المحاذي لمحافظة البصرة لسبين اساسيين:
اولهما : السياسة الزراعية في اقليم خوزستان المتمثلة بإدامة واستصلاح مساحات واسعة في الاهوار المجففة والاراضي الجرداء الواقعة شرق شط العرب منذ العام 2010، حيث يعد اقليم خوزستان ذو واقع زراعي غني جداً لمحاصيل استراتيجية شتوية كالقمح وصيفية كالرز وبنجر السكر اضافة الى النخيل والحمضيات والخضروات بصنفيها الشتوية والصيفية التي تشكل مزارع واسعة جدا تمتد بين ديزفول شمالاً وحتى خرمشهر جنوبا، كما تنتشر مساحات زراعية اخرى تتمثل بالأراضي الواقعة بين نهر وشط العرب والفلاحية (شادكان)، يُشار الى أن السياسة الزراعية في ايران تختلف عنها في العراق كون الحكومة الايرانية لا تكتفي بوضع الاستراتيجية الزراعية فحسب بل انها تشترك مع المزارعين بالتخطيط وباقي مراحل الانتاج، كما أن هنالك مزارع حكومية تدار من قبل الدولة، وهذا يعكس مدى الجدية في الاستثمار الزراعي الذي يتساوق مع الاجراءات المُتممة للعلميات الزراعية وأهمها ملف ادارة المياه، اذ من المهم وضع الخطط المناسبة لري المحاصيل لضمان انتاج ناجح ومستقر، فزراعة القمح التي تبدأ مراحلها الاولى في الخريف تحتاج الارض خلالها الى عده ريّات قبل البدء بزراعته وكذلك الحال بالنسبة الى بنجر الشكر الذي تبدأ زراعته في شهر ايلول والمحاصيل الشتوية التي تعقب زراعتها محصول الرز الذي تمتد فترة زراعته لمدة طويلة بين الربيع والصيف.
ثانيهما: ان اقليم الاهواز يعد من المناطق الاكثر حرارة على مستوى المنطقة والعالم لذا تلجأ ايران الى تقليل تأثير المديات الحرارية للأرضي الجرداء في اقليم خوزستان عن طريق الغمر بالمياه الفائضة خلال اشهر الشتاء والربيع وبداية الصيف وعمل برك تبريد واسعة( ويمكن استطلاع ذلك بالصور الفضائية المتاحة علىGoogle)، والهدف من هذه البرك تقليل تأثير درجة حرارة الجو الشديدة على المنشآت الصناعية والخدمية في الاقليم، ومن الطبيعي ان هذه البرك لا تخضع لسيطرة كاملة حيث تتدفق كميات كبيرة منها باتجاه شط العرب، وقد يبدو هذا الاجراء غربياً ولكن بنظرة فاحصة على درجات الحرارة المسجلة مؤخرا في اقليم الاهواز يظهر لنا تراجع واضح لترتيب الاهواز عن المدن الاكثر حرارة في العالم الامر الذي يظهر جدوى تلك البرك المائية مما يعني استمرار العمل بها واستمرار تأثيرها بزيادة ملوحة شط العرب وخصوصا في السيبة.
وخلاصة القول ان كابوس الملح الذي يحيط بمجرى شط العرب من جميع الجهات ويؤثر على جميع المناطق الواقعة على ضفافه يعد التحدي الاكبر لمحافظة البصرة ويستلزم وضع استراتيجيات سريعة لمعالجتها، ومن المؤكد ان مشكلة ملوحة شط العرب بشكل عام ومعضلة شط العرب في ناحية السيبة بشكل خاص لا يمكن ان تحل بدون تبلور فكرة متكاملة من مجموعة مختصين بالبيئة والزراعة والامن والقانون وغيرها من الاختصاصات، ولاشك ان هذا الملف يستحق الاهتمام والعمل الدؤوب من جميع الاطراف، لان مشاكل شح المياه وتردي نوعيتها في شط العرب تتعلق بحياة اكثر من 4 ملايين بصري، كما ان المشكلة مرتبطة بحيثيات داخلية وإقليمية واقتصادية، لذا من المهم تلاقح افكار من جميع العاملين بهذه الحقول لوضع حل امثل لتلك المشكلة، اما مشكلة التملح الشديد الجزء الجنوبي لشط العرب وتهديدها لمنطقة السيبة فهذا الامر يستدعي حلاَ سريعاَ من قبل الجهات ذات العلاقة التي يجب أن تعلم بأن تخومها مع دول الجوار ذات اهمية جيوستراتيجية كبيرة، ناهيك عن كون السيبة احدى اهم المدن الزراعية التي تشكل أرث بصري مميز وواجهة سياحية فريدة وبؤرة اجتماعية اصيلة، ولطالما دفعت تلك البقعة البصرية الخضراء ضريبة السياسات الحكومية الخاطئة منذ ايام الحكم السابق حيث تحولت بساتين الحمضيات والكروم وغابات النخيل فيها التي كانت بمثابة سلة غذائية لسكان البصرة تحولت الى خنادق للجنود وساحة حرب ظالمة، واليوم تطعن رماح الملح القاسية ما تبقى من وجودها (الرمزي) في حين تزدهر الاراضي التي لا تفصلها عنها سوى امتار قليلة وتنعم بالحياة والنمو والخضرة، واقصد بالحياة والنمو الواضح على الجانب الشرقي لشط العرب في ايران في ( عبادان والمحمرة والفلاحية) وهذا ما يثير حفيظة سكانها الذين يعلمون ان بالإمكان النهوض بواقع هذه القرية اذا توفرت إرادة حكومية جادة تضع مشكلة شح المياه وتردي نوعتها في اولويات اهتمامها .
ولمن ينظر للحقائق بنصف عين نقول انتم لا تدركون حقيقة الموقف في شط العرب لان مصيبته تتفاقم تدريجيا، ولا نستغرب ان ينتفض اهالي السيبة ليعبروا عن قسوة محنتهم حتى انهم فقدوا صبرهم حينما لوحوا مؤخرا بالانفصال عن العراق الحبيب..
ولكون المشكلات التي تواجه شط العرب عديدة من المهم ان تكون الحلول متعددة وموجهة لكل جزء من الاجزاء التي تظهر فيها نوع من المشكلات ونضع هنا بعض المقترحات التي من الممكن ان تنفع في تخفيف او ازالة مشكلة الملوحة في شط العرب:
1- الاسراع بربط شبكات الاسالة في ناحية السيبة بمشروع ماء البدعة لتلافي الاضرار التي وقعت على السكان بسبب ملوحة مياه شط العرب وعدم صلاحيتها للاستخدام البشري والزراعي.
2- تفعيل قوانين البيئة وتعويض الضرر البيئي وتعزيز دور الشرطة المائية وفرض الغرامات البيئية للحد من التعدي على المجرى وفروغه داخل شط العرب.
3- تعزيز الاعلام الخاص بمشكلة الانهيار الهيدرولوجي والموت البيئي في شط العرب ونقل الصورة الحقيقية فيه والعمل على استقطاب المنظمات العالمية المهتمة بالمعالجة البيئية للمساعدة في معالجة الوضع الكارثي فيه.
4- ابراز الدور التاريخي والحضاري والانساني لشط العرب في حملات التوعية المحلية والاقليمية لحماية النهر.
5- اعداد دراسة مشتركة مع الجانب الايراني حول الاضرار المترتبة على قطع نهر الكارون ودراسة الاثر البيئي والاقتصادي للمشاريع الزراعية الحدودية وخصوصا القريبة الى الجانب الشرقي لشط العرب.
6- رسم سياسة داخلية وخارجية واضحة لحل مشكلات شط العرب يدخل في وضعها جميع المختصين في المجالات الهيدرولوجية والبيئية والزراعية والهندسية والاقتصادية والثقافية والجيوبولتيكية.
7- تدويل قضية شط العرب لان الحلول لمشكلة المجرى اصبحت كبيرة وكارثية وذات اوجه متعددة ولفشل معظم الجهود الحكومية لحل ازماته الراهنة، واعلان السيبة منطقة منكوبة بيئيا وطلب المساعدة المحلية والعالمية لها.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat