سعى اغلب الشعراء الى استبعاد المالوف لكونه لم يعد يشكل قيمة جمالية بنظرهم ، فراح يبحث عن حراك يستنهض الشعرية بدفق حيوي عبر العديد من المساعي الحداثوية ، فذهب بعض الشعراء الى تجريدية غير واضحة السمات عمياء يشوبها غموض جوهري يعجز هذا الغموض ان يكون بديلا شرعيا للمألوفية ... لأن حجم التمرد على الكيان الشعري الموروث لايطيق عنف الفوضوية المدمرة التي تنهي علاقة الشعر بالصراع الانساني .. القصيدة هي اساسا محاولة من محاولات مد اواصر ما يقربها من كينونة التعبير .. واارى ان بعض التجارب الناجحة استطاعت ان تفهم بوعي هذه المسألة فأبدعت بروائع مدهشة قدمت ما يماثل المعاش ومن بين تلك التجارب الكثيرة امتازت تجربة الشاعر ( اياد كاظم الحفار ) في مجموعته الثانية / صهيل الغاب / ان يوسع عبر دلالاته افق الدالة بما ينطوي عليه الواقع مرتكزا على صور تجتهد في خلق وتكوين معاييرها الخاصة .. فدلاليات اياد حياوي قلقة المكمن أي سهلة الاستيعاب ، فهو مثلا يرمز الى المدينة
( كما عودتني ارتدي .. لون المآذن والسواد ....
أو اضاء الصمت في ليل الغبار
ظلي ..
وساعة لحظتي
وبرودة الجسد النحيف
فريضة لمآذني )
نحن امام جملة شعرية لاتحتاج الى فوضى التراكمات الحادة او الى اعادة صياغة التلقي
( وأتيه في هذا الضباب
مصححا خطأ الأديم )
نجح بتحميل المعنى ابتكاريا دون غموض منح لنفسه حرية الحركة ولمشاعره فسحة من البوح الخفي دون اللجوء الى مناورات دلالية او التشبث بتحويل جفر قد تنفتح أو لاتنفتح لدخول عوالم مفبركة من الاشارات تبيح اخضاعها من بعد الى تأويل الوعي او ربما الى التأويل المعاكس بعد حين .. ولا يعني مثل هذا التشخيص اننا سنغلق الباب ضد محاولات الحراك التأويلي او اننا ضد الاشتغال التجريبي ولا حتى عن التغريب بل نريد ان نقول ان هذه التجربة استطاعت ان تقول ما لديها وتعرض شعرها بهدوء وكأنها نجحت في مسك العصا من المنتصف .. فاختصرت الطريق واعطتنا المحمول الشعري الذي يمتلك المعنى وجمالية العرض
( قررت ان اهب السراب حقيقة
ماعاد يؤرقني ،
اذا الكابوس افزعني ،
واخرج من عبئائته النيازك والرعود )
تقنية شعرية شكلت نمطا من السهل الممتنع و سرديات جملية امتلكت القرص الشعوري كمحفز جمالي وقدمت الدهشنة الواعية
( حتى أرى الكلمات تنفث حكمة فتطهر الجسد
الأثيم واغتسل
ماء ..
وكافور
وطلسمة الكتاب )
ارتفاع منسوب الوعي يدلل على ترسيخ المقومات الصحيحة لشعرية الجملة من خلال بساطة التشبيه .. فهو حاول ان يبتعد عن فضاءات الميتافزيقيا التي تشكل عوالم غرائبية بل راح يحدد انزياح لغته على مستوى المفردة ليصبح الكد الشعري في الجمل واضح السمات
( كم بقى من بارق الطين
وازهار الرماد
لأزف الألم المختوم
في ثغر السؤال ....
لهاثي شاحب الاصلاب يستلقي
على الاوجاع كالطفل اليتيم .....
ربما ناشدتني الريح عن معنى اليباب
ر بما قد تطلب التفسير
عن اقصى تعابير النزيف )
ففعل البوح هنا لايتوقف عند حدود الحسي اذ يتجاوزها الى عوالم متخيلة
فجنبّ الشاعر ايادي حياوي جهده الشعري من التشويش العرضي القلق .. واستوعب كامل التجربة في خلق صورة تدب فيها الحياة وكان بالفعل صهيلا يدل على نضج شعري ...