صفحة الكاتب : صدى النجف

نقد نظرية التطور – الحلقة 4 – دلالة النظرية في شأن الكائنات الحية من حيث توفر الكائنات على بعد معنوي : آية الله السيد محمد باقر السيستاني
صدى النجف


الأمر الثاني : في شأن نظريّة التطوّر والتأمّل العقلي : حول دلالات هذه النظريّة في شأن الكائنات الحيّة الواعية.
إنّ هناك انطباعين بين أهل العلم حول حقيقة الكائنات الحيّة الواعية.
الأوّل : إنّها كائنات مزدوجة الهويّة، فهي ذات بعدين مادّيّ ومعنويّ، وهذا هو الانطباع الصحيح في المسألة وقد صرّح به العديد من علماء طبّ الأعصاب. وتشهد به شواهد واضحة وقريبة.
الثاني : إنّها كائنات مادّيّة صرفة كما هو المشهور في شأن النباتات؛ لأنّ الحياة والوعي فيها ليست إلّا نشاطات  كيميائيّة وفيزيائيّة خاصّة.
وقد يرجَّح هذا الانطباع الثاني على أساس نظريّة التطوّر؛ لأنّ هذه النظريّة تعني أنّ الكائنات الحيّة الواعية كانت في الأصل كائنات مادّيّة غير واعية؛ ولكنّها تطوّرت لاحقاً فحدث لديها الوعي والشعور.
ولكنّ الصحيح: إنّ الشواهد الموضوعيّة القائمة على وجود بعد معنويّ للكائنات الواعية كما جاء في الانطباع  الأوّل بدرجة كبيرة من المتانة والوثوق بحيث لا يصحّ مواجهته بترجيح ينطلق من نظريّة التطوّر؛ بل الواقع أنّ تلك الشواهد هي التي تؤدّي إلى تهذيب نظريّة التطوّر وتكييفها بما يناسب تلك الحقيقة.
ولنوضح مبنى كلا الانطباعين:
أمّا الانطباع الأوّل : فتوضيحه من خلال نقطتين :
توصيف أنواع الكائنات الحيّة والنشاطات النفسية المتنوّعة في بعضها
النقطة الأولى : أنّ الكائنات الحيّة على ضربين :
أولا : ما لا يمارس نشاطاً نفسيّاً؛ بل تقتصر نشاطاته التي يقوم بها على فعّاليّات مادّيّة (كيميائيّة وفيزيائيّة حيويّة) كما هو الحال في النباتات حسب - الانطباع الجاري فيها- (11) .
ثانيا : ما يمارس نشاطاً نفسيّاً كما في عامّة الحيوانات ، ويشمل النشاط النفسيّ عدّة أمور:
1- النشاطات المشاعريّة، وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
أ- المشاعر الحسّيّة، مثل: الألم، والحرارة، والبرودة.
ب- المشاعر النفسيّة الاعتياديّة، مثل: الانفعال، والغضب واللذّة، وهي موجودة في الحيوانات.
ج- المشاعر النفسيّة المتطوّرة، مثل: الفرح والحزن والهمّ، حيث لا تحصل إلّا في الإنسان وقيل بحصولها في نادر من الحيوانات الأخرى.
2- النشاطات الإدراكيّة، وهي تشمل أقساماً ثلاثة :
أ- الإدراك الحسّيّ .
ب- الإدراك غير الحسّيّ الاعتياديّ، مثل: إدراك الطفل حببّة الأمّ .
ج- الإدراك غير الحسّيّ المتطوّر وهو التفكير الذي يتضمّن نشاطات معقّدة، مثل: التجريد والتحليل والفرز  والتركيب والافتراض والمقارنة والتشبيه.
3- القوانين الأخلاقيّة، وهي حالة مشاعريّة راقية مختصّة بالإنسان، وتُسمّى القوّة التي تنبثق منها هذه المشاعر  القانونيّة بالضمير والوجدان الإنسانيّ وتتضمّن قوانين السلوك الإنسانيّ، وهي المصدر الأمّ للّياقات والقوانين البشريّة.
4- الاختيار النفسيّ، والاختيار النفسيّ حالة فريدة، وهي شعور الإنسان بأنّه حرّ ومختار في أن يفعل أو يترك  وليس محكوما للدواعي النفسيّة على وجه حاسم.
وقد زعم فريق من أهل العلم أنّ هذا الشعور كاذب، فالإنسان تابع قهراً للدواعي النفسيّة؛ ولكنّ الصحيح كما عليه جمهور أهل العلم وهو انطباع عامّة الناس أنّ الإنسان يعيش حالة اختيار حقيقيّة؛ ومن ثَمّ يتحمّل ويُحَمَّل مسؤوليّة أعماله.
وأياً كان: فهذا القسم من الكائنات الحيّة يمكن القول بأنّها تشتمل على بُعد روحيّ غير مادّيّ.
عدم كون النشاطات النفسيّة والإدراكيّة من قبيل الأمور المادّيّة :
النقطة الثانية: أنّ القسمين المتقدّمين للكائنات الحيّة تختلف في نوع النشاطات الحاصلة فيها، فالنشاطات الحاصلة  في القسم الأوّل وهي الكائنات -غير الواعية أي النباتات يمكن تفسيرها بتفسير مادّيّ.
وأمّا النشاطات الحاصلة في القسم الثاني ذات الطابع النفسيّ فهي ليست كذلك؛ فإنّ هذه النشاطات وإن كانت تقترن بنشاط كيميائيّ وفيزيائيّ في دماغ الكائن الحيّ إلّا أنّ هذا النشاط لا يتلخّص في البعد الكيميائيّ والفيزيائيّ فيه بوضوح؛ بل له بعد روحيّ يتجاوز المادّة، كما وصل إليه كبار علماء الطبّ في القرن العشرين على خلاف توقّعاتهم في القرن التاسع عشر، وقد دلّت عليه شواهد واضحة وميسّرة للفهم العامّ.
ذكر التحوّل في الأبحاث العلميّة تجاه النشاطات النفسيّة والإدراكيّة باعتبارها نشاطات روحيّة لا مادّيّة
أمّا عن أقوال العلماء، فقد قيل(2): إنّ العلماء في القرن التاسع عشر بعد التطوّرات الحاصلة في علوم الأحياء  والطبّ كانوا يفسّرون هذه النشاطات كلّها تفسيراً مادّيّاً من خلال علم الفسيولوجيا (علم وظائف الأعضاء) والكيمياء والفيزياء، فقد ذكر أحد علماء الرياضيّات في القرن التاسع عشر في محاضرة له: (إذا قال أحد إنّ الإرادة تؤثّر في المادّة فقوله ليس كاذباً فحسب، وإنّما هو هراء).

وقال آخر(هكسلي) : (يبدو أنّ الوعي متّصل بآليّات الجسم كنتيجة ثانويّة لعمل الجسم، لا أكثر، وأنّ ليس له أيّ قدرة كانت على تعديل عمل الجسم مثلما يلازم صغير البخار حركة القاطرة دونما تأثير على آليّتها)، وتوقّع هذا العالم : (في سنة 1868) أنّ : (سيوسَّع علم وظائف الأعضاء في المستقبل شيئاً فشيئاً من عالم المادّة وقوانينها إلى أن يصبح مساوياً في امتداده نطاق المعرفة والشعور والعمل) .
وقد تطلّع كثيرون إلى القرن العشرين لإنجاز هذا البرنامج المادّيّ؛ لكن جاء القرن العشرون بكشوف جديدة عن الفسيولوجيا من غير النوع المتوقَّع، حيث إنّها ذهبت إلى أنّ العقل والإدراك ظاهرة غير مادّيّة.
وقد قيل إنّ ذلك بدأ بالسير تشارلز شرنغتون الذي يُعتبر مؤسّس فسيولوجيا الأعصاب الحديثة. ونتيجة بحوثه الرائدة في الجهاز العصبيّ والدماغ خلص شرنغتون إلى ما يلي : (هكذا ظهر فرق جذريّ بين الحياة والعقل. فالحياة هي مسألة كيمياء وفيزياء. أمّا العقل فهو يستعصي على الكيمياء والفيزياء)، ويقصد شرنغتون بالحياة الإشارة إلى التغذية الذاتيّة واستقلاب الخلايا (الأيض) والنموّ، فهو يقول إنّ هذه الظواهر تتمّ بواسطة قوانين الفيزياء والكيمياء، ويمكن تفسيرها بلغة هذين العلمين. أمّا أنشطة العقل فهي تتجاوز آليّات الفيزياء والكيمياء).

ويوافق على ذلك السير جون أكلس، المتخصّص في مبحث الأعصاب، فيقول : (التجارب التي تتمّ عن الوعي تختلف في نوعها كلّ الاختلاف عمّا يحدث في آليّة الأعصاب. ومع ذلك فإنّ ما يُدث في آليّة الأعصاب شرط ضروريّ للتجربة، وإن كان هذا شرطاً غير كاف) .
ونتيجة ما توصّل إليه هذان العالمان بوضوح أنّ النشاط الفسيولوجيّ والكيميائيّ للدماغ أمر ضروريّ للإحساس متزامن معه؛ ولكنّه ليس إلّا الإحساس بعينه، والمادّة وحدها لا تستطيع أن تفسّر الإدراك الحسّيّ، فالنظرة المادّيّة تستطيع أن تتحدّث عن الموجات الضوئيّة، والتغيّرات الكيميائيّة والنبضات الكهربائيّة في الأعصاب ونشاط خلايا المخّ، أمّا عن عمليّات الإبصار والشمّ والذوق والسمع واللمس ذاتها فليس عند المادّيّة ما تقوله. فالإدراك الحسّيّ حقيقة؛ ولكنّه ليس المادّة، ولا هو من خواصّ المادّة، وليس في مقدور المادّة أن تفسّره.
ومن هنا يخلص شرنغتون إلى : (أنّ كون وجودنا مؤلَّفاً من عنصرين جوهريّين أمر ليس في تصوّري أبعد احتمالاً بطبيعته من اقتصاره على عنصر واحد) .
وقد أدلى بنفيلد أحد كبار أطبّاء الأعصاب في القرن العشرين بعد تجارب على أدمغة المرضى إلى تفاوت العقل مع فعل الأعصاب اللاإرادي ومع أنّ مضمون الوعي يتوقّف إلى حدّ كبير على النشاط العصبيّ، فالإدراك نفسه لا يتوقّف على ذلك.

قال : (ما من عمل من الأعمال التي نعزوها إلى العقل قد ابتعثه التنبيه بالإلكترون أو الإفراز الصرعيّ) .
ويضيف قائلاً: (ليس في قشرة الدماغ أيّ مكان يستطيع التنبيه الكهربائيّ فيه أن يجعل المريض يعتقد أو يعي شيئاً، إذن الإلكترون يستطيع أن يثير الأحاسيس والذكريات، غير أنّه لا يقدر أن يجعل المريض يصطنع القياس المنطقيّ، والإلكترون يستطيع أن يجعل جسم المريض يتحرّك ولكنّه لا يستطيع أن يُكره الإرادة، فواضح إذن أنّ العقل البشريّ والإرادة البشريّة ليس لهما أعضاء جسديّة).
شواهد كون النشاطات النفسيّة والإدراكيّة غير مادّيّة في حدّ ذاتها :
وأمّا الشواهد على أنّ النشاطات النفسيّة والعقليّة الواعية ليست نشاطات مادّيّة بحتة فهي كثيرة وجملة منها واضحة وميسّّة للفهم العامّ، منها ما يلي :
1- أنّ الوعي بحقيقة هذه النشاطات والمعاني ولاسيّ ما الأكثر تطوّراً منها  كالتفكير ومقارنتها بالنشاطات الكيميائيّة والفيزيائيّة يفي بالالتفات إلى أنّ هذه النشاطات لا تشبه النشاطات الكيميائيّة والفيزيائيّة في شيء.
2- أنّ الذي يمارس هذه النشاطات إنّما هو ذات الكائن وليس المخّ الذي يقع فيه هذا النشاط، فالإنسان مثلا هو  الذي يفرح ويُزن ويُسّ ويعي ويفكّر ويستحسن أو يستقبح ويختار، وليس المخّ والدماغ، فلا يُقال إنّ مخّي فرح أو عرف أو وعى.
3- أنّ هذه النشاطات على ضربين:
أحدهما : ينشأ من البعد المادّيّ للكائن الحيّ، كما في العوامل الكيميائيّة الدوائيّة المؤثّرة على المشاعر النفسيّة  للكائن الحيّ، فإذا تناول الكائن حبّةً مهدّئةً أدّى ذلك إلى تخفيف مشاعر القلق والاكتئاب من خلال التأثير الكيميائيّ للدواء على الأماكن الخاصّة بهذه المشاعر في الدماغ.
وثانيهما : ما ينشأ من هذه الظواهر نفسها وينتهي إلى تغيير مادّيّ، وذلك كما يتّفق أنّ الإنسان يفكّر في شيء  فيؤدّي به القلق والاكتئاب الذي يؤدّي بدوره إلى إفرازات كيميائيّة وتغييرات فيزيائيّة في الدماغ.
ومن المعلوم أنّ هذا القسم الثاني ليس وليداً للتغيّرات الكيميائيّة والفيزيائيّة، فإدراك الإنسان لا يؤثّر في حدوث القلق بصفته نشاطاً كيميائيّاً وفيزيائيّاً في الدماغ؛ بل بصفة مضمونه الخاصّ، وإنّما النشاط الكيميائيّ والفيزيائيّ هو المسبّب عن التفكير والتأمّل.
4- أنّ الغايات الإنسانيّة وهي قسم من الأمور المدرَكة توجب نشاط الإنسان وفعّاليّته لا تحرّك الإنسان من منطلق  طبيعتها الفيزيائيّة في الدماغ؛ بل بطبيعة مضمونّا المؤدّي إلى تفاعل الإنسان معها وتوجّهه بوجهتها.
مثلا : إذا كان للإنسان داعيان مختلفان تجاه عملٍ فإنّ الداعي الأقوى – مثلا - هو الذي يقود إرادة الإنسان؛ لكن ليس تأثير هذا الداعي مبني على خصيصة كيميائيّة وفيزيائيّة في الدماغ؛ بل ذلك ينشأ عن تأثيره الروحيّ على الإنسان.
5- أنّ الإنسان يدرك نفسه ويشير إليه فيقول مثلا أنا موجود وأفكّر وأفعل، وهذا الإدراك يمثّل وجود هويّة  للإنسان وراء الدماغ؛ لأنّه لا يشير إلى الدماغ؛ بل إلى ذات معنويّة، وهذا ظاهر. وهذا الوجه وبعض ما سبقه يركّز على ظاهرة الإدراك بالخصوص.
6- أنّ ظاهرة الاختيار بالخصوص لا يمكن تفسيرها تفسيراً مادّيّاً. 
والوجه في ذلك: أنّ الاختيار يعني أنّ الإنسان ليس منساقاً وفق الدواعي الموجودة في نفسه بحسب درجة قوّتها  وضعفها؛ بل يستطيع الإنسان أن يختار بين دواعيه فيأخذ بما كان داعيه إليه أضعف ولا يستجيب إلى الداعي الأقوى.
وعليه: فلو فرضنا أنّ الدواعي والغايات تمثّل عوامل فيزيائيّة في داخل الإنسان؛ فإنّنا لا نستطيع أن نفسّر حالة  الاختيار تفسيراً فيزيائيّاً؛ لأنّ عالم الطبيعة هو عالم الانسياق الجبريّ، فهناك أسباب تفضي إلى نتائجها، ولا تخلّف لها عنها، ولا توجد لدينا أيّة حرّيّة وانفلات في عالم المادّة فكلّ شيء ينبعث عمّا قبله في تسلسل الأشياء على وجهٍ قهريّ، ويمتنع وجوده من دون حدوث ما يوجبه امتناعاً قاطعاً ، فليس هناك من تفسير مادّيّ لكون الإنسان مختاراً في الفعل أو الترك من دون تأثُّرٍ عقلٍّ بالعوامل الجاهزة الموجودة في نفسه.
7- أنّ ظاهرة الأخلاق بالخصوص أيضاً ظاهرة غير مادّيّة؛ فإنّ القوّة الأخلاقيّة في داخل الإنسان في الحقيقة  تتضمّن قوانين إدراكيّة لسير الإنسان في هذه الحياة، وينطلق الإنسان من هذه القوانين لا على أساس فواعل كيميائيّة وفيزيائيّة في الدماغ؛ بل على أساس الشعور بهذه القوانين وإدراكها، فهي بواعث روحيّة لا كيميائيّة وفيزيائيّة.
هذه جملة من الشواهد التي يمكن ذكرها في الموضوع. وهذه الشواهد تدل جميعاً على أنّ هناك جانباً روحيّاً منضمّاً إلى الجانب الجسديّ في الكائنات الحيّة الواجدة للشعور والإدراك، كما تعطيه النصوص الدينيّة خاصّةً في شأن الإنسان ؛ ومن ثَمّ لا يمكن تفسير تلك الظواهر من دون الإذعان بهذا الجانب.
نعم، لا شكّ أنّ ذاك البعد متداخل وملتئم مع البعد الجسديّ الكيميائيّ والفيزيائيّ فيقترن كلّ تغيير نفسيّ بتغيير مادّيّ في الدماغ إلا أنّه لا يمكن تفسير ذاك البعد بالتغيّر المادّيّ الموصوف نفسه.
هذا عن توضيح الانطباع القائل بأنّ الكائنات الحيّة الواعية ذات بُعد روحيّ مضافاً إلى بُعدها المادّيّ.
الانطباع القائل بأنّ الكائنات الواعية ونشاطاتها أمور مادّيّة :
وأمّا الانطباع الثاني : القائل بأنّ الكائنات الواعية ونشاطاتها هي أمور مادّيّة تماماً، فقد ذهب إليه جماعة من  أطبّاء الأعصاب في القرن التاسع عشر ثمّ القرن العشرين، حيث إنّهم رجّحوا أن لا تزيد النشاطات الذهنيّة والنفسيّة على نشاطات عصبيّة فيزيائيّة جارية في الدماغ.
التفسيرات المادّيّة المطروحة للنشاطات النفسيّة وضعفها :
وهناك عدّة وجوه لتقريب هذا الانطباع أو إثباته لعلّ أبرزها ما يل:
1- كأنّ مرجع هذا الوجه إلى أنّ الذي يجده الإنسان من نفسه بالوجدان في حال ممارسته للعمليّات الإدراكيّة أنّه إنّما يمارس تلك العمليّات بذات له وراء آلاته وأدواته، وتكون تلك الآلات والأدوات مسخَّرة له، وأمّا في حالة الكمبيوتر فليست هناك ذات وراء هذه المجموع من الأدوات المرتبطة؛ وإنّ ما الذي يتحكّم بها هو لذات الإنسان الذي يوجّهها كما يشاء.
الوجه الأوّل : ما ذكره بعض أهل العلم (3) من إمكان تفسير الظاهرة العقليّة بـ (الوظيفيّة)؛ وذلك أنّ كون  الإنسان واعياً يعني أنّه يقوم بعمليّات تمرينيّة على حلّ المشكلة، وهذه العمليّات يمكن تكرارها من خلال أنظمة غير حيّة كالكمبيوتر الذي يُلّ المسائل أيضاً.
وعليه: فليس هناك غموض في شأن الوعي، وليس هناك أيّ سبب موجب للذهاب لما هو غير فيزيائيّ. 
ويلاحَظ على هذه المحاولة :
أوّلا : أنّ هذه المحاولة ناظرة إلى تفسير مادّيّ لظاهرة الإدراك في الإنسان، ولا تقدّم تفسيراً مادّيّاً لظاهرة  المشاعر كالفرح واللذة والحزن، ولا لظاهرة الأخلاق ولا لظاهرة الاختيار في السلوك.
وثانيا : أنّ هذه المحاولة لا تعطي تفسيراً مادّيّاً لجميع أبعاد الإدراك التي أشرنا إليها ، مثل: إدراك المشاعر،  مثل: المحبّة والكره ونحوهما، ولا الإدراك المتطوّر المعقّد، مثل: التجريد والتحليل والافتراض وغير ذلك، ولا محرّكيّة الإدراك من حيث مضمونه، وليس من جهة تمثّله المادّيّ في الدماغ .
وثالثا : إذا نظرنا إلى هذه المحاولة في مستوى توجيه أصل ظاهرة الإدراك ولو بعض الشيء فإنّنا نجد أنّها لا  تفي بذلك؛ لأنّ ما عوّلت عليه من المقارنة بين نشاط الكمبيوتر وكذا الروبوتات التي هي أشبه إلى الإنسان وبين نشاط الذهن غير واردة؛ لأنّ الكمبيوتر لا يعرف ما يقوم به؛ ولكنّ الإنسان يعرف ما يقوم به كما نجده من أنفسنا بالوجدان.
وعليه: فإنّ من شأن هذه المقارنة على عكس ما قصده الذاكر لها أن تنبّه الباحث على أنّ هناك بعداً غير فيزيائيّ  في الكائن الحيّ خلال نشاطه الإدراكيّ الواعي.
الفرق بين الذهن والكمبيوتر :
ورغم أنّ المقارنة بين الذهن والكمبيوتر مقارنة شائعة، إلّا أنّ كثيراً من أهل العلم انتبهوا إلى الفرق الواضح بينهما.


يقول أحدهم (4) : (تنشأ الكثير من التصوّرات الخاطئة عن طبيعة الفكر من التصوّرات الخاطئة حول أجهزة الكمبيوتر. ولكن دعونا نفترض أنّنا نتعامل مع كمبيوتر عملاق مثل كمبيوتر الجين الأزرق The Blue Gene ، والذي يستطيع القيام بأكثر من مائتي تريليون عمليّة حسابيّة في الثانية الواحدة. خطأنا:
1- أن نفترض أنّ الكمبيوتر العملاق مثل النحلة أو البكتريا. نحن  نتعامل في حالة النحلة أو البكتيريا مع فاعل هو المركز في عمليّة عضويّة موحّدة. هدف كلّ نشاطات هذا الفاعل الحفاظ على وجوده بالتكاثر. أمّا (الجين الأزرق) فهو عبارة عن قطع تقوم مجتمعة أو منفردة بعمليّات مزروعة Implanted وموجّهة Directed من خالق هذا التجميع.
2- الكمبيوتر عبارة عن حزمة من الأجزاء التي لا تعرف ما تفعل عندما تقوم بمعالجةٍ ما Performs a transactionn . تتمّ العمليّات التي يقوم بها الكمبيوتر العملاق استجابة لبيانات وأوامر هي مجرّد إشارات إلكترونيّة صرفة ودوائر كهربائيّة وموصّلات. يقوم الإنسان بنفس العمليّات والمعالجات هذه، ولكن باستخدام آليّة خاصّة بالمخّ، وهي تتمّ من خلال مركز الإدراك الذي هو على وعي بما يقوم به وهو يفهم ما تمّ إنجازه، وهو يؤدّي كلّ ذلك عن قصد.
ولكن لا يوجد لا فهم، ولا إدراك، ولا معنى، ولا قصد، ولا شخص يقوم بذلك عندما يقوم الكمبيوتر بالأفعال نفسها، حتّى لو افترضنا أنّ الكمبيوتر يمتلك معالجات متعدّدة Multiple processors تعالج البيانات بسّعات بشريّة. 
مخرجات الكمبيوتر تعني لنا شيئاً (توقّعات الطقس أو حسابك المصرفيّ)، ولكن من زاوية حزمة القطع التي تُسمّى كمبيوتر فإنّ الأرقام الثنائيّة: Binary digits الصفر والواحد تؤدّي إلى نشاطات ميكانيكيّة. 
القول بأنّ الكمبيوتر يفهم ما يقوم به، هو مشابه للقول بأنّ خطّ الكهرباء يمكن أن يفكّر في مسألة الإرادة الحرّة والحتميّة، أو أنّ الموادّ الكيميائيّة في أنبوب الاختبار تُطبّق مبدأ عدم التناقض Principle of noncontradiction في حلّ المسائل، أو أنّ مشغّل الأقراص DVD Player يستمتع بالموسيقى التي يعزفها ).
الوجه الثاني : للبناء على مادّيّة النشاطات النفسيّة والإدراكيّة ما يلاحظه علماء الأعصاب من العلاقة الوثيقة المطّردة بين النشاطات النفسيّة والإدراكيّة وبين النشاطات الكيميائيّة والفيزيائيّة الجارية في الدماغ، فكلّ نشاط ذهنيّ ونفسيّ مقرون بنشاط فيزيائيّ مناسب له في الدماغ.
ومن ثَمّ مال جماعة من علماء الأعصاب إلى كون هذه النشاطات مادّيّة صرفة.
ويلاحَظ على ذلك: أنّ هذه العلاقة تنشأ في الحقيقة عن العلاقة الوثيقة بين الروح والجسد من حيث الجسد أداة  الروح وحاضنته؛ ممّا يقتضي اقتران كلّ تصرّف روحيّ نحو تمثّل في الجسد، كما أنّ ما يقع على الجسد من أحداث يشعر به الروح أيضاً.
وعليه: فإنّ هذه النشاطات في الحقيقة أداة الوعي وآليّته أو نتيجته وأثره؛ ولكنّها ليست ذاته وكنهه، فالنشاط الواعي ذو بعدين: مادّيّ ومعنويّ، فالبعد المادّيّ يتمثّل في تلك النشاطات الفيزيائيّة، كما أنّ البعد المعنويّ يتمثّل في المعرفة والوعي الذي يُصل جزء آخر في وجود الحيوان والإنسان وهو الروح. 
وهذه هي الحقيقة التي يقف عليها المرء بالتأمّل الجامع في الأمور.
وبذلك يتّضح: أنّ تأثير الأشياء المادّيّة كالأدوية الكيميائيّة على النفس ليس دليلاً على كونها مادّة؛ بل يكفي أنّها  مرتبطة بالمادّة ارتباطاً وثيقاً، فهناك تأثير متبادَل بينهما كما بيّنّا ذلك من قبل. 
وأمّا قول بعض أطبّاء الأعصاب بأنّ النشاطات الذهنيّة مادّيّة صرفة فلا حجّة فيه على ذلك؛ لأنّ بعض علماء الأعصاب قد ينطلق من ملاحظة الجانب الفسيولوجيّ فحسب؛ ولكن للموضوع أبعاد أخرى فلسفيّة ونفسيّة.
يُضاف إلى ذلك: ما نقلناه من قبل من أنّ علم الأعصاب والنفس يتّجه منذ مدّة إلى جعل هذه الظواهر روحيّة وغير مادّيّة وفي ذلك يقول بعض الباحثين (5) : (يصف عالم الأعصاب روجر سبري الثورة الفكريّة التي حدثت في علم النفس خلال السبعينات من هذا القرن والتي أحدثت انقلاباً مثيراً في معالجة الوعي فيقول: (لقد قُلبت المبادئ السلوكيّة التي سادت طوال نصف قرن ونيف. وأخذ علم النفس فجأةً يعالج أحداثاً ذاتيّة كالصور الذهنيّة والأفكار الباطنيّة والأحاسيس والمشاعر والأفكار وما إليها بوصفها عوامل ذات دور سببيّ حقيقيّ في وظيفة الدماغ وفي السلوك. 
وأصبحت مضامين الاستبطان، وعالم التجارب الداخليّة كلّها مقبولة على نحو فجائيّ كعوامل تستطيع أن تؤثّر في العمليّات الفيزيائيّة والكيميائيّة التي تتمّ في الدماغ. ولم تعد تعامل بوصفها جوانب منفعلة وغير سببيّة، بل غير موجودة).

وينتهي سبري من ذلك إلى أنّ : (الخواصّ المخّيّة العليا للعقل والوعي هي التي تملك زمام الأمر. فهي تكتنف التفاصيل الفيزيائيّة/ الكيميائيّة وتحملها وتيتمن عليها. وهي التي تحدّد الحركات وتتحكّم نزوليّاً بحركة النبضات العصبيّة. ونموذجنا الجديد - أي المبدأ الذهنيّ - هو الذي يشغل العقل والخواصّ الذهنيّة ويعطيها سبب وجودها وتطوّرها في نظامٍ مادّيّ).
إنّ المعرفة والقيادة تتطلّبان قدراً من البُعد. فلا يمكن أن يكون العقل ظاهرةً ثانويّةً مصاحبةً لآليّة الأعصاب إذا أُريد له أن يعاين ويوجّه الكلّ.
ويقول بنفيلد : (إنّ العقل، لا الدماغ، هو الذي يراقب ويوجّه في آنٍ معاً). فالعقل هو المسؤول عن الوحدة التي نحسّ بها في جميع أفعالنا وأفكارنا وأحاسيسنا وعواطفنا.
ويضيف أكلس: (إنّ وسدة التجربة الواعية يتيحها العقل الواعي نفسه، لا آليّة الأعصاب).
ولو كان الدماغ حاسبةً إلكترونيّةً بالغة التعقيد فلابدّ له إذا، شأنه شأن الحاسبة، من أن يوجَّه من قبل العقل.
ويقول بنفيلد : (إنّ الحاسبة الإلكترونيّة )والدماغ هو كذلك( لابدّ من أن تبرمجها وتديرها قوّة قادرة على الفهم المستقلّ).
ويُحدد بنفيلد دور العقل هكذا : (إنّ ما تعلّمنا أن نسمّيه العقل هو الذي يركّز الانتباه فيما يبدو. والعقل يعي ما يدور حوله. وهو الذي يستنبط ويتّخذ قرارات جديدة. وهو الذي يفهم ويتصرّف كما لو كانت له طاقة خاصّة به. وهو يستطيع أن يتّخذ القرارات وينفّذها، مستعيناً بمختلف آليّات الدماغ).
وهكذا فإنّ توقّع العثور على العقل في أحد أجزاء الدماغ، أو في الدماغ كلّه، أشبه بتوقّع كون المبرمج جزءاً من الحاسبة الإلكترونيّة.
وبناءً على الأدلّة سالفة الذكر (6) لا يرى بنفيلد أيّ أملٍ في النهج المادّيّ للنظرة القديمة إزاء العقل فيعلن : (إنّ توقّع قيام آليّة الدماغ العليا، أو أيّ مجموعة من ردود الفعل، مهما بلغت من التعقيد، بما يقوم به العقل، وبأداء (Adolf Portmann) على ذلك فيقول : (ما من كمّيّة من البحث على النسق الفيزيائيّ أو الكيميائيّ يمكنها أبداً أن تقدّم صورةً كاملةً للعمليّات النفسيّة والروحيّة والفكريّة).
كما أنّ بنفيلد لا يتوقّع أن يقوم علم وظائف الأعضاء في المستقبل، كما كانت تتوقّع النظرة القديمة، بإظهار انبثاق العقل من المادّة فيقول : ( يبدو من المؤكَّد أنّ تفسير العقل على أساس النشاط العصبيّ داخل الدماغ سيظلّ أمراً مستحيلاً كلّ الاستحالة). ولذلك فهو يرى أنّه : (أقرب إلى المنطق أن نقول إنّ العقل ربّما كان جوهراً متميّزاً ومختلفاً عن الجسم).
ومن الجدير بالذكر: أنّ بنفيلد بدأ أبحاثه بهدف إثبات العكس تماماً فيقول : (طوال حياتي العلميّة سعيت جاهداً كغيري من العلماء إلى إثبات أنّ الدماغ يفسّر العقل( .
فهو قد بدأ مسلَّحاً بجميع افتراضات النظرة القديمة، غير أنّ الأدلّة حملته آخر الأمر على الإقرار بأنّ العقل البشريّ والإرادة البشريّة حقيقتان غير مادّيّتين. ويعلن بنفيلد : (يا له من أمر مثير، إذا، أن نكتشف أن العالم يستطيع بدوره أن يؤمن عن حقّ بوجود الروح). وإذا كان العقل والإرادة غير مادّيّين فلا شكّ أنّ هاتين الملكتين على حدّ تعبير اكلس )لا تخضعان بالموت للتحلّل الذي يطرأ على الجسم والدماغ كليهما) (7(
الوجه الثالث : ما ينطلق من نظريّة التطوّر الأحيائيّ، وتقريره: أنّه بعد أن كانت المادّة الحيّة غير الواعية هي  الحالة الأولى للكائنات الواعية، ومن غير المعقول أن يولّد المادّة المحضة والنشاط الكيميائيّ والفيزيائيّ البحت أمراً روحيّاً وظواهر روحيّة؟ لأنّ ذلك ينقض مبدأ التناسب اللازم بين السبب والنتيجة، القاضي بأنّه لا يمكن أن يكون أيّ شيء سبباً لشيء آخر ما لم يكن هناك تسانخ أو تناسب قائم بينهما.
ويلحَظ عليه: أنّ من الجائز أن تكون هناك قوّة روحيّة (غير مادّيّة) قد أوجدت الجانب الروحيّ متزامناً مع الجانب المادّيّ الملائم معه، فيكون هناك إشراف غير مادّيّ على وجود هذه الكائنات الواعية حتّى لو قُدّر حصولها بالتطوّر الأحيائيّ . 
استنتاج ثبوت بُعد روحيّ غير مادّيّ للكائنات الواعية :
وبذلك كلّه يظهر: أنّ الكائن الحيّ الواعي ذو بعدين متفاعلين مادّيّ فيزيائيّ ومعنويّ روحيّ، ونشاطات الإنسان قد تبدأ من الجانب الروحيّ، فيكون الجانب المادّيّ آلة حبضة له، كما هو الحال فيما يبادر إليه الإنسان بفكره، وقد تبدأ تلك النشاطات من الجانب المادّيّ فتؤثّر على الجانب الروحيّ، كما في الأدوية المؤثّرة على نشاط المخّ المؤدّية إلى حالات نفسيّة وأمور ذهنيّة متفاوتة.
وعلى ضوء ذلك: فإنّ من الصعوبة أن نفترض أنّ هذا الكائن الذي يتّصف ببُعد روحيّ ممتزج ببُعده الجسديّ المادّيّ وليد نشاطات مادّيّة بحتة.
وقد أذعن غير واحد من أهل العلم القائلين بنظريّة التطوّر الأحيائيّ بأنّ ظاهرة الإدراك والتفكير ممّا لا نستطيع تفسيره وفق النشاط النفسيّ الطبيعيّ للحياة والكائنات الحيّة.
تأثير ثبوت البعد الروحيّ للكائنات الواعية على نظريّة التطوّر :
إنّ ثبوت بعد روحيّ (غير مادّيّ) للكائنات الحيّ ة الواعية وخاصّةً الإنسان يؤثّر على نظريّة التطوّر المادّيّ لها؛ من وجهين:
الوجه الأوّل : إنّ ثبوت هذا البعد يُهذّب هذه النظريّة وينفي عنها الطابع المادّيّ الأعمى، من جهات عدّة :
أولا : إنّ وجود الكائنات الحيّة الواعية نفسه لا يكون وجوداً مادّيّاً بحتاً يتلخّص في عدّة تفاعلات كيميائيّة  وفيزيائيّة حيويّة ؛ بل يكون ذا كيان مزدوج: مادّيّ ومعنويّ. وهذا يساعد في شأن الإنسان خاصّة على فهم اتّصافه بالضمير الأخلاقيّ والاختيار في السلوك، ويتيح القبول ببقاء الإنسان بعد الممات.
ثانيا : إنّ وجود هذا التنوّع يكون ممثّلاً لوجود كائن أعلى وعلمه ومقدرته وخُلُقه، ودليلاً على تدخّله في النشأة  المادّيّة، ولا يكون حدثاً طبيعيّاً محضا .
ثالثا : إنّ ثبوت البُعد الروحيّ للكائنات الحيّة يساعد على تفسير حدوث هذا التطوّر حتّى وإن كان على أساس الطفرة الجينيّة بكونه أمراً مقصوداً وسُنّة موضوعة من قبل كائن أعلى للوصول إلى تلك النتائج الرائعة، وليس أمراً اتّفاقيّاً بحتاً كما سيأتي زيادة توضيح لذلك (8) .
إذن، الالتفات إلى البعد الروحيّ للكائنات الواعية يجعل نظريّة التطوّر ذات محتوى مختلف، فهو يكشف عن فاعلٍ واعٍ، ويُتاج به التطوّر إلى ضميمة روحيّة، ويكون وسيلة مقصودة لغاياته.
الوجه الثاني : الذي يمكن ذكره على سبيل الاحتمال هو عدم صحّة نظريّة التطوّر في شأن جميع الكائنات الحيّة؛  بل لابدّ من التفصيل في نشأة الكائنات بالتطوّر بحسب مستوى الاختلاف بين الأصل المفترض والفرع الناتج عنه بالتطوّر؛ فإنّ هناك حالتين:
الحالة الأولى : أن يكون الاختلاف بين الأصل والفرع بزيادة قوّة نفسيّة في الفرع على الأصل المفروض سواء  كانت هذه القوّة نوعاً من الإحساس والغريزة أو التفكير أو الأخلاق أو الاختيار.
الحالة الثانية : أن لا يرقى الاختلاف بين الأصل والفرع إلى زيادة قوّة نفسيّة في الفرع؛ بل إنّما يكون الاختلاف في أمور جسديّة بحتة، مثل: الأعضاء، أو في نموّ أمور نفسيّة موجودة في أصلها.
ففي الحالة الثانية: يمكن افتراض حدوث الفرع بالتطوّر عن الأصل.
وأمّا في الحالة الأولى: فيُستبعد ذلك؛ لأنّ المفروض بكلّ كائن حيّ أن يولَد مثله في الجانب الروحيّ دون ما يختلف عنه.
ولكن قد يناقَش في هذا القول: بأنّه لم يثبت أنّ هناك اختلافاً روحيّاً بين الكائنات الحيّة؛ بل قد يكون الفرق بينها  في أنّ بعضها مجهَّز بأدوات إضافيّة يفقدها البعض الآخر.
يُضاف إلى ذلك: إنّ الروح إذا كان إفاضة جديدة لكلّ كائن جديد، فيمكن أن يُفاض على الكائن الجديد روحٌ بخصائص يناسب الجسد الذي يُفترض حلول الروح فيه، فإذا كان الجسد الجديد متميّزاً في الآليّات المادّيّة أمكن أن يتميّز في الروح أيضاً. والموضوع لا يخلو عن إبهام.
وقد تلخّص ممّا ذكرناه ثبوت بُعد روحيّ للكائنات الحيّة الواعية عامّة والإنسان خاصّة، وليس في نظريّة التطوّر  ما ينفي هذا المعنى؛ بل إذا قُدّر وجود منافاة بين الأمرين أدّى ذلك إلى زعزعة تلك النظريّة؛ لأنّ شواهد وجود بُعد روحيّ لهذه الكائنات أمر بيّن جدّاً من خلال الشواهد المتقدّمة .
_________
الهوامش :
_________
1- المقصود بهذا التقييد: الاحتراز عن انطباع آخر جرى عليه جمع من أهل العلم، وهو: أنّ الحياة مطلقاً لا تنفكّ  عن نحوٍ من الوعي من حيث غائيّة الكائن الحيّ ومطاوعته للإشارات الجينيّة المشفّرة، كما تقدّم ذكر ذلك في حجّة الحياة.
2- لاحظ في توضيح ذلك ومصدر الأقوال المذكورة في (العلم في منظوره الجديد: 26 وما بعدها).
3- وهو )دينيت(، لاحظ الملحق الأوّل لكتاب أنتوني فلو )هناك إله(، لروي إبراهام، ترجمة د. صلاح الفضل24:
4- هناك إله )الملحق الأوّل: 209 - 210 ( لروي إبراهام: 209 .
5- لاحظ في ذلك )العلم في منظوره الجديد(: 37 - 41 .
6- ذُكرت في المصدر المتقدّم وتركناها اختصاراً.
7- إلى هنا ينتهي الاقتباس من المصدر المتقدّم بأدنى تصرّف.
8- لاحظ الأمر الرابع الآتي حول دلالة التطوّر في شأن الصانع.
المصدر : مدونة صدى النجف
تنويه : هذه السلسلة من تقريرات دروس اية الله السيد محمد باقر السيستاني التي القاها في السنة الماضية 1437 هـ بعنوان منهج التثبت في شأن الدين اضفنا لها الصور والمعلومات المتعلقة بها
الحلقة السابقة تناولت : مدى تماسك نظرية التطور او نفيها وفق المنظور العقلي : اية الله السيد محمد باقر السيستاني اضغط هنا


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


صدى النجف
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2017/06/12



كتابة تعليق لموضوع : نقد نظرية التطور – الحلقة 4 – دلالة النظرية في شأن الكائنات الحية من حيث توفر الكائنات على بعد معنوي : آية الله السيد محمد باقر السيستاني
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net