مسلمون بلا إسلام أم ديمقراطيون بلا ديمقراطية؟
محمد الحمّار
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
محمد الحمّار

هل ستنجح في تونس، وفي سائر بلاد العرب والمسلمين، التمثيليةٌ البرلمانية أو البلدية أو غيرها من أشكال التمثيل التعددي؟ هل من الممكن أن يتم بعض الإصلاح في العقول لكي نتخطى العقبة الأولى في طريقنا إلى الديمقراطية: عقبة عدم انسجام العقل الديني للمجتمع مع عقله العملي؟
إنّ فَهم المسلم اليوم للواقع بمشكلاته وبظواهره وبتلوناته، أضحى مقلوبا مرتين اثنتين، لكأنّه لا يكفي أن تكون الأفهام والتأويلات مقلوبة بمفعول الانقلاب المنهجي الذي شرحناه في ورقات سابقة، بل هاهي مقلوبة أيضا بمقتضى غياب القرار لدى الفرد، ومنه لدى المجموعة أيضا.
بكلام آخر يمكن القول إنّ المسلم ينتحر ثقافيا ووجوديا، إن صح التعبير، على الأقل مرتين أمام كل فكرة أو سلوك يستدعي الفهم. ينتحر مرة لمّا لا يعرف سبيلا إلى فهم لماذا يحتسي الخمر، وبنهمٍ و جشعٍ، (أو لماذا يزنى، إلى غير ذلك من ارتكاب للمحرمات) رغم تحريم الإسلام للخمر. ويمكن أن يُفسَّرُ عجزه بوجود الانقلاب في المنهاج، مما يعني أنّ المنهاج لا يقرّبه من الواقع الذي يشتمل على الملابسات التي أدّت إلى شربه الخمر بتلك الكيفية الغريبة. وينتحر مرة ثانية لمّا يدرك أنه لا يملك الحركة العكسية الملائمة التي تتسق مع الفكرة التي تمثل مركز استقطاب الرغبة في الفهم. فالمسلم كالضحية الماثلة أمام جلادٍ تراه بأمّ عينها ومع ذلك فهي لا تقدر على مَنعه مِن جَلدها.
هكذا يتسنى لنا تصنيف الأفهام السيئة لدى المسلم القَبْلي للديمقراطية إلى صنفين اثنين: واحد يحتوي على وضعيات تتسم بفقدان المسلم للدُّربة على منهجية تعديل وتوضيب حُكمه. ونذكر من بين هذه الوضعيات الكلام البذيء الذي تعرضنا له أنفا. كما نذكر وضعية الشرب الهمجي للخمر، وكذلك ممارسة الجنس قبل الزواج، والغش، والتلذذ من الاعتياش من الممتلكات العامة ومن ممتلكات الغير لكأن المسلم يتمتع بحصانة ضد إمكانية استغلال غيره لممتلكاته على سبيل القصاص. وتعلو درجة الخطر في هذا الصنف لمّا تمس الوضعية المحتاجة للفهم السياسةَ والوطنيةَ والأمنَ الغذائي والأمنَ الحياتي. ومن أبرز الأمثلة على ذلك عدم معرفة المسلم في تونس إن كان يتوجب عليه مساندة التدخل الأجنبي في الجارة ليبيا أم التنديد به.
والصنف الثاني من الأفهام السيئة لدى المسلم القَبْلي للديمقراطية هو ذلك الذي يحتوي على وضعيات نرى المسلم فيها عاجزا على أخذ القرار بخصوصها. مع العلم أنّ هنالك فرق بين أن لا يقرر المسلم نظرا لانقلاب المنهاج، وبين أن لا يقرر لأنه لا يعرف كيف يقرر. ومثال التدخل في ليبيا يساعدنا على التمييز بين الاثنين. فالمثال ينتمي إلى كلا الصنفين، مما يسهل الشرح. كيف ذلك؟
من منظور الوضعية الأولى، لا يعلم المواطن التونسي إن كان "التدخل الإنساني" الذي قدمته قوى التدخل كسبب للتدخل جائزا أم لا. أمام الحيرة التي هو فيها يلوذ المواطن المسلم بتصديق السبب المعلن. إنه يصدق القول بناءً إمّا على إيمانه بأنّ الإسلام دين يدافع على المظلومين (الليبيين في هاته الوضعية) وإمّا بناءً على جهله بمؤامرات قوى الهيمنة العالمية. وفي كل الحالات فالنتيجة واحدة (افتراضا أننا ضد التدخل الأجنبي في ليبيا): إنّ فقه الواقع مازال متأخرا عن الواقع. والمسلم بقي متشبثا بما يسمعه من دعاية وتزوير للحقائق. وذلك من فرط التمسك بالمنهج المقلوب.
أما من منظور الوضعية الثانية، فالمواطن التونسي (الذي نفترض أنه لم يصدق السبب المعلن من طرف الحلف الأطلسي؛ وهو افتراض يتسق مع حصول الرغبة في أخذ القرار السلبي وقول "لا")، لا يمكن أن يقرر أنه مناهض للتدخل الأجنبي إلا بعد أن تتضح مؤشرات في الواقع ستؤيد موقفه، الذي لم يتخذه بعدُ. بكلام آخر لم يكن بإمكانه ممارسة حريته في اتخاذ القرار في الأثناء، وقبل اتضاح المؤشرات المؤيدة له. معنى هذا أنّ المواطن المسلم بحاجة إلى منهجية لقراءة الواقع تكون على ذمته وفي متناول عقله وبديهته قبل حصول الكارثة، لا بعد أن تحصل. لكن هيهات، لقد ذاق المسلم سوط عذاب بسبب افتقاره لمنهاج للفهم الفوري وللقرار الفوري في مناسبات متتالية عدّة في العصر الحديث. وقد تجسم ذلك على الأقل في حركات العدوان والاستعمار التي حدثت في أفغانستان وفي العراق وفي لبنان وفي العراق مرة ثانية وفي ليبيا.
ومعنى هذا إجمالا أنّ المنهجية التوقعية تابعة لأية منهجية سليمة لقراءة الواقع في أوانه، وأنّ كل ذلك يدعم القول إنّ المواطن المسلم غير مدرب على اتخاذ القرار وإنّ اتخاذ القرار يستلزم منهجية ودُربة.
محمد الحمّار
كانت هذه الحلقة (13) من كتاب بصدد الإنجاز: "إستراتيجيا النهوض بعد الثورة".
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat