لم أكن حيا ، أو هكذا قررت ان أصبح ميتا ، لم اكترث لما سيحدث ، فقرار الموت بالنسبة لي احد الخيارات الجميلة لكي اغادر ما يسمى بالحياة ، كنت ارغب ان اكون غريبا في كل تفاصيل حياتي ، منذ اليوم الاول لوصول الحياة بقطار الزمن حدث ان حصل تماس كهربائي فأحرق البيت كله ، وبصعوبة بالغة اخرجوني من ركام الغرفة التي كادت ان تسقط عليّ بكل محتوياتها ، لكن أمي غادرت الحياة محترقة ، وقف ابي على جنازتها وهو ينظر لي بشيء من النحس ، ربما قال في نفسه :
- الله يستر منك !
وبعد ان دخلت المدرسة الابتدائية .. في اليوم الأول علقوا قطعة سوداء تشير الى الموت في مدخل المدرسة ، لم أكن اعرف ماذا تعني هذه القطعة في بداية الامر ، لكن ابي اخبرني ان مدير المدرسة تعرض الى حادث اصطدام سيارته وغادر المدرسة والبيت والحياة الى الأبد ، ولم يكن الحال على ما يرام عندما قرروا ان يذهب والدي الى الحرب ، كان مستاء من فعل الموت الذي ينتظره هناك ، وكأن موعد الرحيل قد قرب تماما ، ولا اعرف فعلا لماذا كان ينظر لي نفس النظرات عندما وقف على جنازة أمي وكأنه يريد ان يكرر نفس العبارة في سره :
- الله يستر منك !!
لم يودعني عندما غادر الى الحرب ، اكتفى بنظراته الغريبة ، ربما يريد ان يقول كل ما يحدث لبيتنا هو من جراء مجيئك الى بيتنا ، ولكنني لم أكن أملك القدرة على اتخاذ قرار بعدم المجيئ ، وربما وصل الى نتيجة ان الحرب التي قامت كانت احد الاسباب بقيامها ، واخذت تأكل الناس بفم واسع جدا .
لم يمض سوى اسبوع واحد حتى عاد أبي بساق واحدة ، لم أكن افهم لماذا عاد هكذا ، واين ترك ساقه الثانية ، لكنني مع الوقت عرفت انها بترت في الحرب ، لم يكن سوى لغم صغير كما كان يتحدث أبي لجميع الذين زاروه في البيت ، وظل هكذا ينظر الى بقايا ساقه المبتورة ويقابله بنظراته المتوجسة اليّ ، وأخذ يربط بتر الساق بمجيئ الى البيت الذي احترق كله وصار رمادا هو وأمي ، واخذت كلما ارى قطعة سوداء معلقة على جدران المدينة اشعر ان هذا الرجل أو المرأة ماتا بسببي ، واشعر ان ابي يطاردني بنظراته المخيفة ...
أكلت الحرب مئات الألاف في مدينتي ، كلهم راحوا بسببي ، تهدم بيت جارنا العتيق ومات صديقي غرقا في نهر المدينة وانتحرت إخلاص حرقا بعد ان اغرقت نفسها بمادة النفط لأنني أحببتها ليوم واحد فقط ، سمعت صياح النسوة الذي اجتاح شارعنا ، وعلمت انها انتحرت محترقة ، لم تكن تعرف بأنني احببتها ليوم واحد على الاطلاق ، لكنها فضلت الموت بهذه الطريقة على حبي لها ، ربما هو أهون من نظرات قلبي وخيال عقلي الذي راح يكتب قصة حب عظيمة كتب لها ان تحترق .
لم أكن حيا ، أو هكذا قررت ان اصبح ميتا ، اغلقت باب غرفتي بإحكام ، اعلنت عزلتي الأبدية علّ الموت يغادر المدينة ، أشعر بأن لعنتي ستتوقف عن خطاباتها المدمرة ، ولكنني عندما خرجت بعد سنة كاملة من اعتكافي في تلك الغرفة المحكمة الإغلاق لم أجد الشوارع والبيوت والدكاكين والناس ، لم اجد شيء يمكن ان أطلق عليه مدينة ، لحظتها فقط قررت أن أحيا من أجل ان انظفها من الركام الذي اجتاحها ، وأجلت قراري القديم أن اصبح ميتا الى إشعار آخر.
2007 دمشق
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat