حين يأخذ المنجز منطلقات تعريفية تبلور لنا مفهوم الموقف كنموذج واقعي يمتلك الحضور المؤثر، فالقراءة في تأريخ الطف الحسيني في كتاب (ليوث الطف) إصدار القسم الفكرية والثقافية في العتبة العباسية المقدسة/ شعبة الإذاعة، أجازت لنا الولوج إلى العمق المعنوي عبر مجموعة متنوعات تعريفية كتبت بواسطة قلم نسوي (آلاء طعمة)؛ ويتجلى فن الانتقاء التاريخي في تقديم المؤثر الفاعل كهوية مضمون فكري، يرسخ لنا الوعي، ويقدم لنا هذه التعريفات المتنوعة لرموز الطف الحسيني، وتسليط الضوء على مواقف مجموعة من الشهداء من حيث الانتماء النسبي والوصفي لشخصيات مثل: مسلم بن عوسجة، عابس الشاكري، وزهير بن القين، وبرير، وجون.. والشهداء الآخرين الذين استشهدوا خارج رقعة الواقعة المباركة، سعياً لاحتواء النموذج الطفي في جميع مراحل المواجهة.
وقد جددت الكاتبة موجهات تسليط الضوء عبر دلالات التعريف كشفاً للجوهر المكنون الذي يساهم في بناء شخصية الرمز ومميزاتها وماهيتها، وتعريف الاسم والكنية واللقب، نقرأ مثلاً: هو مسلم بن عوسجة، والكنية أبو حجل، وعابس بن شبيب بن شاكر الهمداني، وجنادة بن كعب الأنصاري.. ومثل هذه التعريفات تعطينا مرتكزات معرفية تبيّن التنويع الإيقاعي، فمنهم الأنصاري والأسدي، ومنهم من هو مولى من الموالي، وهناك تعريف معرفي يشير إلى مواقعهم التاريخية، فبينهم الصحابي الذي عاش زمن الرسالة المحمدية، مثل: مسلم بن عوسجة، وحبيب بن مظاهر، وهاني بن عروة.. وأشخاص آخرين من الصحابة، ومنهم من التابعين مثل: برير بن خضير، وبشر بن عمرو الحضرمي، ونعيم بن عجلان...
وتعريف آخر عن المنقلبين على الذات أمثال: الحارث بن امرئ القيس الكندي، وحلاس والنعمان ابنا عمرو الراسبي، والحر بن يزيد الرياحي.. ونجدها تعريفية وصفية خبرية، تخبرنا عن أحوال الشهداء لتقرّب لنا الصورة الأوضح لمقاتلي الطف مثل: تعريف نافع بن هلال البجلي بالسيد، الشريف، وهو من حملة الحديث.. ونقرأ في تعريف الحلاس جاء أنه من أصحاب أمير المؤمنين(ع) وهو قائد شرطته، جاء كربلاء مع جيش ابن سعد وانقلب مع أخيه.
وتم تعريف برير بن خضير بالشجاع التابعي الناسك من شيوخ القرّاء، وجاءت محاولات استثمار الدلالات التعريفية لبعض الأحداث التي ستدعم المعنى الأدق للرمز، ومثلاً طلب مسلم بن عوسجة من الحسين(ع) أن يعطيه الإذن برمي الشمر بن جوشن بسهم فرفض الحسين(ع)؛ كونه لا يريد أن يبتدئهم القتال، فسجل له هذا الفعل حسنة بارزة وحسنة الإطاعة، ووردت بعض التعريفات التفصيلية عن حيثيات المقاتلين، مثلاً ملازمة عابس الشاكري للحسين(ع) من مكة إلى كربلاء، أو موقف (جنادة) الذي لازمه مع عائلته، أو نقرأ في موقف زهير نبوءة سلمان الفارسي بواقعة الطف الحسيني.
وتبقى حوامل مخزون الطف هي المحرّك الفعّال للمتن البحثي من أجل تنوير المعنى الأشمل لمدركات التضحية؛ تعريف يخصّ الموقف القتالي والثبات الذي شمل جميع شهداء واقعة الطف: كموقف عابس الشاكري الذي تقدم إلى القوم وهم يهربون منه، واختاروا الموقف المهزوز برميه بالحجارة بدل السيوف..!
أو لنقرأ السمات الواردة في موقف جنادة الأنصاري الذي استشهد في الحملة الأولى، وتقدم ابنه عمرو ليقاتل فحزّوا رأسه ورموه إلى حضن أمه، التي رمت به مقاتلاً فقتلته، أو لنرَ السمات التعريفية لمقتل نافع بن هلال الجملي الذي قاتل قتال الأبطال، وأخذوه أسيراً وتطاول على ابن سعد فقتله الشمر، وهناك منظومة من الإحداثيات المعنوية التي مكّنت النص من امتلاك مرونة القراءة، مآثر مشهدية قدمها المقاتلون أثراً يحمل معناهم ومعنى وجودهم: كوصية مسلم بن عوسجة لحبيب بن مظاهر وهما على مقربة من موت، قال حبيب: لولا أني في إثرك لأحببت أن توصيني، فأجابه مسلم بن عوسجة: أوصيك بهذا رحمك الله، ويقصد الحسين(ع)، أو نجد ذلك الفضاء الرحب في أسمى معاني التضحية قوله للحسين عليه السلام: (لو قدرت على أن أدفع عنك الضيم والقتل بشيء أعزّ عليّ من نفسي لفعلت)، وقال زهير: (لو كانت الدنيا لنا باقية وكنا فيها مخلدين لآثرنا النهوض معك على الإقامة..).
أو لنتأمل في موقف بشر بن عمرو الحضرمي، الذي أسروا أبنه، فأذن له الحسين(ع) بالانصراف، لكنه قال: (أكلتني السباع حياً إن فارقتك، وأسأل عنك الركبان، وأخذلك مع قلة الأعوان، لا يكون هذا أبداً). ومثل هذه المواقف كثيرة تعزز إيمانية شهداء الطف برسالتهم الإنسانية الكبيرة.
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat