صفحة الكاتب : نبيل محمد حسن الكرخي

من الاخطاء العقائدية عند مدرسة الحكمة المتعالية ... ( 20 )
نبيل محمد حسن الكرخي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 بسم الله الرحمن الرحيم

السيد محمد باقر الصدر (رض) يتجاهل مدرسة الحكمة المتعالية:
لم يرد عن السيد محمد باقر الصدر (رضوان الله عليه) (1353- 1400)هـ ، ما يشير الى اعتباره العرفان طريق من طرق المعرفة. كما لم يرد عنه اهتمامه بـ"وحدة الوجود والموجود" هذا المفهوم الفلسفي الذي تبنته مدرسة الحكمة المتعالية تبعاً لابن عربي !
وقال الشيخ علي كوراني: (كنت محباً لدراسة الفلسفة ، ودرست شرح التجريد وقسماً من شرح منظومة السبزواري عند المرحوم السيد محمد جمال الهاشمي (رحمه الله) ، وأعجبت بكتاب أستاذنا السيد محمد باقر الصدر(رحمه الله) (فلسفتنا) واستوعبته ودرسته مرات ، لكني كنت أعاني من سؤال كبير: حتى لو قلنا بعدم التعارض بين الفلسفة والدين ، فأيهما أحرى باتخاذه منبعاً للمعرفة والتفكير: الوحي ، أم نتاج تفكير رجال يونانيين ، كأرسطو وأفلاطون ؟ ومهما يكن ، فإني أنصح الطالب أن لايدرس الفلسفة إلا بعد أن يتعمق في العقيدة والفكر الإسلامي ، ويكون بمستوى بحث الخارج على الأقل . وقلت يوماً لأستاذنا السيد الصدر (رحمه الله) : اشتغلتَ بالفلسفة كثيراً وألفتَ كتاب فلسفتنا ، وكتاب الأسس المنطقية للإستقراء ، فماذا استفدت منها؟  فأجاب: الإنسان عندما يعشق الفلسفة ويبدأ بدراستها ، يتصور أنها ستحل كل مشكلاته الفكرية ، ثم يتقدم فيها فيرى أنها لا تحل شيئاً منها! قلت له: وأحاديث أهل البيت (عليهم السلام) هل تحل المشكلات الفكرية للطالب؟   فتأمل وقال: نعم تحلها ، وهي التي تحلها )[1].
وعندما تحدث السيد الشهيد محمد باقر الصدر (رض) عن الفلسفة الاسلامية ونقضه للفلسفة الغربية بكتابه الشهير (فلسفتنا) فهو إنما استند في نقضها الى القضايا العقلية البديهية (التي يتفق عليها العقلاء من المتكلمين والفلاسفة) ولم يلتزم أي قاعدة فلسفية من قواعد الحكمة المتعالية ، وفي خصوص الحركة الجوهرية فقد استشهد في فلسفتنا بملا صدرا وقوله بالحركة الجوهرية لا على سبيل صحتها بل على سبيل ان الماركسيين ليسوا هم اول من قال بالحركة الجوهرية بل سبقهم المسلمون اليها ، فإن كانت حقاً ففي المسلمين من هم السابقون الى القول بها وإن كانت باطلة فهي ليست من صميم العقيدة الاسلامية وبطلانها لا يؤثر على العقيدة شيء بل يكشف عن بطلان الفكر الماركسي الذي يتبناها ايضاً كأحد اهم مرتكزاته الفكرية.
ومن الجدير بالذكر ان مفهوم الحركة الجوهرية قد تم تناوله من قبل اليونانيين القدماء وعنهم اخذ ملا صدرا هذا المفهوم ، فقد كتب جون والبريدج John Walbridge: (كما علمنا من المصادر السيرية [المتعلقة بالسيرة] اليونانية والعربية أن أفلاطون تخلى عن الشعر واتبع الفيلسوف سقراط وبعد سقراط تابع أفلاطون دراسته مع قراطليس Cratylus وهو أحد أتباع هرقليطس Heraclitus –أحد الفلاسفة اليونانيون- وتعلم منهما شيئين مختلفين. فمن سقراط Socrates تعلَّم البحث عن حقيقة الأشياء أو الواقع الحقيقي للأشياء وخاصة الفضائل ورفض مناظرات السوفسطائيين السطحية. ومن هرقليطيس Heraclytus تعلم عن خاصة العالم المحسوس غير الدائم والسريع الزوال. ويُعتبر أفلاطون مصدراً لأهم مقولات هرقليطيس: "يقول هرقليطيس أنّ كل شيء يتحرك باستمرار أي في تغير مستمر وليس هناك من شيء ساكن أو ثابت. ويُشبه الكون بالنهرالمتدفق حيث لا يمكنك أن تطأ مرتين نفس سيل أو دفق الماء". وقد تعلم أفلاطون من الفيثاغوريين عن العالم العقلي أو ما وراء الحسي (النفسي). هذه العناصرالمتباينة لا يمكن أن تستند إلى بعضها أو تلتحم بسهولة لكن من مزايا النبوغ الأفلاطوني قدرته على توحيد هذه العناصر بطريقة لم تتوقف أبداً عن التأثير فيالفلسفة حتى الآن.
إنّ حركة الفلسفة الأفلاطونية الأساس كان التمييز بين الوجود المجرد والوجود الكائن أوالكوني. فالوجود معقول غير متغير وبالتالي يمكن إدراكه أو معرفته لكن الوجودالكائن أو الكوني في تغير متواصل وهكذا يمكن معرفته –التقريبية فقط- بمقتضى حقيقة كونه نسخة عن العالم المعقول للوجود. وبالتاليما هو جميل أو عادل أو جيد فهو كذلك لأنه بطريقة ما يشبه أو يشارك الجمال عينه أو الجودة أو العدالة الموجودة في عالم الوجود وكل ما هو موجود في عالم الوجود يسمى مثال أوصورة الجمال أو الجودة أو العدالة)[2].
وكان ابراهيم بن سيّار النظّام (185-221)هـ وهو من المعتزلة واستاذ الجاحظ ، قد سبق ملا صدرا في التحدث عن الحركة الجوهرية ، حيث "ذهب النظّام الى ان الاجسام متجددة آناً كالأعراض كما في شرح المواقف ... فقد تفوّه النظّام بالقول الحق أعني القول بحركة الجوهر لأنّ الاعراض هي المرتبة النازلة للجوهر فاذا كانت متجددة آناً فآناً كانت موضوعاتها متجددة أيضاً وهذه حجة من حجج إثبات الحركة في الجوهر"[3].
وكذلك فإنَّ ابو بكر الرازي (250-311)هـ أيضاً قد سبق ملا صدرا في التحدث عن الحركة الجوهرية حيث قال: (ان كل جسم يتمتع بحركة ذاتية ، ووضع ذلك في رسالة اسماها "مقالة في ان للجسم تحريكاً من ذاته وأن الحركة مبدأ طبيعي له")[4].
مع العلم ان الفيلسوف ابن سينا (370- 427)هـ كان يرفض وجود الحركة الجوهرية[5]، وكذلك بقية الفلاسفة المشائيين والاشراقيين ويعتبرونها امراً مستحيلاً ، الى ان ظهر ملا صدرا وتحدث عنها[6].
وقال السيد محمد باقر الصدر (رض) عن وحدة الوجود: "لا شك في أن الاعتقاد بمرتبة من الثنائية التي توجب تعقل فكرة الخالق والمخلوق مقوم للإسلام ، إذ بدون ذلك لا معنى لكلمة التوحيد . فالقول بوحدة الوجود إن كان بنحو يوجب عند القائل بها رفض تلك الثنائية فهو كفر ، وأما إذا لم ير القائل تنافيا بين وحدة الوجود ومرتبة معقولة من الثنائية المذكورة فلا كفر في قوله ، ولو فرض ثبوت التنافي واقعا . وتوضيح الحال في ذلك : أن مفهوم الوجود المنتزع من الخارج ، تارة : يقال بأن منشأ انتزاعه نفس ما يقع موضوعا في القضية الحملية التي يكون مفهوم الوجود محمولا فيها ، وهذا معناه القول بأصالة الماهية . وأخرى : يقال بأن منشأ انتزاعه حقيقة وراء ذلك ، وتكون الماهية بدورها منتزعة عن تلك الحقيقة أيضا ، وهي سنخ حقيقة لو أمكن تصورها مباشرة لكان ذلك مساوقا للتصديق بوجودها وطارديتها للعدم ، وهذا قول بأصالة الوجود وعلى الأول لا إشكال في التكثر لتعدد الماهيات . وأما على الثاني فتارة : يقال إن نسبة مفهوم الوجود إلى تلك الحقيقة ، نسبة الكلي إلى الفرد بنحو تتكثر الأفراد ، أو نسبة العنوان إلى المعنون مع وحدته . فعلى الأول يكون مفهوم الوجود ذا مناشئ انتزاع متعددة بعدد أفراده . وعلى الثاني تثبت وحدة حقيقة الوجود . وعليه فتارة : يقال بأن هذه الحقيقة مختصة بالله تعالى ، وأن موجودية غيره بالانتساب إليه لا بوجدانه للحقيقة نفسها ، وهذا قول بوحدة الوجود وتعدد الموجد . وأخرى : يقال بأن تلك الحقيقة لا تختص بالواجب تعالى ، بل كل الموجودات ذاقت طعمها ، فهذا قول بوحدة الوجود والموجود . وعليه فتارة : يقال بفارق بين الخالق والمخلوق في صفع الوجود ، نظير الفارق بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي في صقع الماهيات . وأخرى : يرفض هذا الفارق ويدعى أنه لا فرق بينهما إلا بالاعتبار واللحاظ ، لأن الحقيقة إن لوحظت مطلقة كانت هي الواجب ، وإن لوحظت مقيدة كانت هي الممكن . والاحتمال الأخير في تسلسل هذه التشقيقات هو الموجب للكفر ، دون الاحتمالات السابقة لتحفظها على المرتبة اللازمة من الثنائية"[7]. 
واعترف سيد كمال الحيدري ان السيد محمد باقر الصدر (رض) في كتابه (الاسس المنطقية للاستقراء) نبذ جملة من متبنيات مدرسة الحكمة المتعالية ، فقال: (السيد الشهيد رحمة الله تعالى عليه في الأسس المنطقية رفع يده عن جملة من مباني الحكمة المتعالية)[8].
 
فتاوى السيدين اليزدي والخوئي (رضوان الله عليهما)  حول وحدة الوجود:
وحينما قال صاحب متن العروة الوثقى السيد كاظم الطباطبائي اليزدي (رضوان الله عليه) (1247- 1337)هـ ، ما نصّه : (والقائلون بوحدة الوجود من الصّوفيّة إذا التزموا بأحكام الاسلام فالأقوى عدم نجاستهم إلاّ مع العلم بالتزامهم بلوازم مذاهبهم من المفاسد) ، وعلّق السيد ابو القاسم الخوئي (رضوان الله عليه) (1317- 1413)هـ على هذا النص بقوله: (القائل بوحدة الوجود إن أراد أن الوجود حقيقة واحدة ولا تعدد في حقيقته وإنه كما يطلق على الواجب كذلك يطلق على الممكن فهما موجودان وحقيقة الوجود فيهما واحدة والاختلاف إنما هو بحسب المرتبة لأن الوجود الواجبي في أعلى مراتب القوة والتمام ، والوجود الممكني في أنزل مراتب الضعف والنقصان وإن كان كلاهما موجوداً حقيقة وأحدهما خالق للآخر وموجد له. فهذا في الحقيقة قول بكثرة الوجود والموجود معاً . نعم، حقيقة الوجود واحدة فهو مما لا يستلزم الكفر والنجاسة بوجه بل هو مذهب أكثر الفلاسفة بل مما اعترض المسلمون وأهل الكتاب ومطابق لظواهر الآيات والأدعية فترى إنه «عليه السلام» يقول: أنت الخالق وأنا المخلوق وأنت الرب وأنا المربوب، و غير ذلك من التعابير الدالة على أن هناك موجودين متعددين أحدهما موجد وخالق للآخر ويعبر عن ذلك في الاصطلاح بالتوحيد العامي . وإن أراد من وحدة الوجود ما يقابل الأول وهو أن يقول بوحدة الوجود الموجود حقيقة وإنه ليس هناك في الحقيقة إلاّ موجود واحد ولكن له تطورات متكثرة واعتبارات مختلفة لأنه في الخالق خالق وفي المخلوق مخلوق كما إنه في السماء سماء وفي الأرض أرض وهكذا . وهذا هو الذي يقال له توحيد خاص الخاص وهذا القول نسبه صدر المتألهين إلى بعض الجهلة من المتصوفين ـ وحكي عن بعضهم إنه قال : ليس في جبتي سوى الله ـ وأنكر نسبته إلى أكابر الصوفية ورؤسائهم ، وإنكاره هذا هو الذي يساعده الاعتبار فإن العاقل كيف يصدر منه هذا الكلام وكيف يلتزم بوحدة الخالق ومخلوقه ويدعي اختلافهما بحسب الاعتبار ؟! وكيف كان فلا إشكال في أن الالتزام بذلك كفر صريح وزندقة ظاهرة لأنه إنكار للواجب والنبي «صلى الله عليه وآله وسلّم» حيث لا امتياز للخالق عن المخلوق حينئذ إلاّ بالاعتبار وكذا النبي «صلى الله عليه وآله وسلّم» وأبو جهل ـ مثلاً ـ متحدان في الحقيقة على هذا الأساس وإنما يختلفان بحسب الاعتبار . وأما إذا أراد القائل بوحدة الوجود أن الوجود واحد حقيقة ولا كثرة فيه من جهة وإنما الموجود متعدد ولكنه فرق بيّن موجودية الموجود وموجودية غيره من الماهيات الممكنة لأن إطلاق الموجود على الوجود من جهة إنه نفس مبدء الاشتقاق . وأمّا إطلاقه على الماهيات الممكنة فإنما هو من جهة كونها منتسبة إلى الموجود الحقيقي الذي هو الوجود لا من أجل إنها نفس مبدء الاشتقاق ولا من جهة قيام الوجود بها، حيث إن للمشتق اطلاقات : فقد يحمل على الذات من جهة قيام المبدء به، كما في زيد عالم أو ضارب لأنه بمعنى من قام به العلم أو الضرب .وأخرى : يحمل عليه لأنه نفس مبدء الاشتقاق، كما عرفته في الوجود والموجود .وثالثة : من جهة إضافته إلى المبدء نحو إضافة، وهذا كما في اللابن والتامر لضرورة عدم قيام اللبن والتمر ببايعهما إلاّ أن البايع لما كان مسنداً ومضافاً إليهما نحو إضافة ـ وهو كونه بايعاً لهما ـ صح إطلاق اللابن والتامر على بايع التمر واللبن ، وإطلاق الموجود على الماهيات الممكنة من هذا القبيل ، لأنه بمعنى إنها منتسبة ومضافة إلى الله سبحانه بإضافة يعبر عنها بالإضافة الاشراقية فالموجود بالوجود الانتسابي متعدد والموجود الاستقلالي الذي هو الوجود واحد . وهذا القول منسوب إلى أذواق المتألهين، فكأن القائل به بلغ أعلى مراتب التأله حيث الوجود بالواجب سبحانه ويسمى هذا توحيداً خاصياً . ولقد اختار ذلك الأكابر ممن عاصرناهم وأصر عليه غاية الإصرار مستشهداً بجملة وافرة من الآيات والأخبار حيث أنه تعالى قد أطلق عليه الموجود في بعض الأدعية .وهذا المدعى وإن كان أمراً باطلاً في نفسه لابتنائه على أصالة الماهية ـ على ما تحقق في محله ـ وهي فاسدة لأن الأصيل هو الوجود إلاّ أنه غير مستتبع لشيء من الكفر والنجاسة والفسق . بقي هناك احتمال آخر وهو: ما إذا أراد القائل بوحدة الوجود وحدة الوجود والموجود في عين كثرتهما فيلتزم بوحدة الوجود والموجود وإنه الواجب سبحانه إلاّ أن الكثرات ظهورات نوره وشئونات ذاته وكل منها نعت من نعوته ولمعة من لمعات صفاته ويسمى ذلك عند الاصطلاح بتوحيد أخص الخواص . وهذا هو الذي حققه صدر المتألهين ونسبه إلى الأولياء والعرفاء من عظماء أهل الكشف واليقين قائلاً : بأن الآن حصص الحق واضمحلت الكثرة الوهمية وارتفعت أغاليط الأوهام إلاّ أنه لم يظهر لنا ـ إلى الآن ـ حقيقة ما يريدونه من هذا الكلام . وكيف كان فالقائل بوحدة الوجود ـ بهذا المعنى الأخير ـ أيضاً غير محكوم بكفره ولا بنجاسته ما دام لم يلتزم بتوال فاسدة من إنكار الواجب أو الرسالة أو المعاد)[9]. 
 
السيد ابو القاسم الخوئي (رض) ينسب ملا صدرا للقول بالتجسيم:
في (التنقيح في شرح العروة الوثقى) في تعليقه على قول صاحب المتن (وأمّا المجسِّمة) قال السيد ابو القاسم الموسوي الخوئي (رضوان الله عليه) (1317- 1413)هـ / (1899- 1992)م: (وهم على طائفتين : فانّ منهم من يدعي أن الله سبحانه جسم حقيقة كغيره من الأجسام وله يد ورجل إلاّ أنه خالق لغيره وموجد لسائر الأجسام ، فالقائل بهذا القول إن التزم بلازمه من الحدوث والحاجة إلى الحيّز والمكان ونفي القدمة ، فلا إشكال في الحكم بكفره ونجاسته لأنه إنكار لوجوده سبحانه حقيقة . وأما إذا لم يلتزم بذلك بل اعتقد بقدمه تعالى وأنكر الحاجة فلا دليل على كفره ونجاسته وإن كان اعتقاده هذا باطلاً ومما لا أساس له .    ومنهم من يدّعي أنه تعالى جسم ولكن لا كسائر الأجسام كما ورد أنه شيء لا  كالأشياء فهو قديم غير محتاج ، ومثل هذا الاعتقاد لا يستتبع الكفر والنجاسة وأمّا استلزامه الكفر من أجل أنه إنكار للضروري حيث إنّ عدم تجسّمه من الضروري فهو يبتني على الخلاف المتقدم من أن إنكار الضروري هل يستلزم الكفر مطلقاً أو أنه إنما يوجب الكفر فيما إذا كان المنكر عالماً بالحال ، بحيث كان إنكاره مستلزماً  لتكذيب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) . هذا ، والعجب من صدر المتألهين حيث ذهب إلى هذا القول في شرحه على الكافي وقال ما ملخّصه : إنّه لا مانع من التزام أنه سبحانه جسم إلهي ، فانّ للجسم أقساماً فمنها : جسم مادي وهو كالأجسام الخارجية المشـتملة على المادّة لا محالة . ومنها : جسم مثالي وهو الصورة الحاصلة للانسان من الأجسام الخارجيـة وهي جسم لا مادّة لها . ومنها : جسم عقلي وهو الكلِّي المتحقِّق في الذهن وهو أيضاً مما لا مادّة له بل وعدم اشتماله عليها أظهر من سابقه . ومنها : جسم إلهي وهو فوق الأجسام بأقسامها وعدم حاجته إلى المادّة أظهر من عدم الحاجة إليها في الجسم العقلي ، ومنها : غير ذلك من الأقسام ، ولقد صرّح بأن المقسم لهذه الأقسام الأربعة هو الجسم الذي له أبعاد ثلاثة من العمق والطول والعرض. وليت شعري أن ما فيه هذه الأبعاد وكان عمقه غير طوله وهما غير عرضه كيف لا يشتمل على مادة ولا يكون متركباً حتى يكون هو الواجب سبحانه . نعم ، عرفت أن الالتزام بهذه العقيدة الباطلة غير مستتبع لشيء من الكفر والنجاسة ، كيف وأكثر المسلمين لقصور باعهم يعتقدون أنّ الله سبحانه جسم جالس على عرشه ومن ثمة يتوجهون نحوه توجه جسم إلى جسم مثله لا على نحو التوجه القلبي)[10].
 
كلام السيد المرعشي في ذم التصوف:
قال السيد شهاب الدين ابو المعالي محمد حسين المرعشي النجفي (1315- 1411)هـ  فى تعليقته على احقاق الحق للشيخ نور الله التستري: (وعندي أن مصيبة الصوفية على الإسلام من أعظم المصائب, تهدمت بها أركانه وانثلم بنيانه وظهر لي بعد الفحص الأكيد والتجول في مضامير كلماتهم والوقوف على ما في خبايا مطالبهم والعثور على مخبياتهم بعد الاجتماع برؤساء فرقهم أن الداء سرى إلى الدين من رهبة النصارى فتلقاه جمع من العامة كالحسن البصري والشبلي ومعروف وطاووس والزهري وجنيد ونحوهم ثم سرى منهم إلى الشيعة حتى رقى شأنهم وعلت راياتهم بحيث ما ابقوا حجراً على حجر من أساس الدين , أولوا نصوص الكتاب والسنة وخالفوا الأحكام الفطرية العقلية والتزموا بوحدة الوجود , بل الموجود وأخذ الوجهة في العبادة والمداومة على الأوراد المشحونة بالكفر والأباطيل التي لفقتها رؤساؤهم والتزامهم بما يسمونه بالذكر الخفي القلبي شارعاً من يمين القلب خاتماً بيساره معبراً عنه بالسفر من الحق إلى الخلق تارة, والتنزّل من القوس الصعودي إلى النزولي أخرى وبالعكس معبراً عنه بالسفر من الخلق إلى الحق والعروج من القوس النزولي إلى الصعودي أخرى فيالله من هذه الطامات ... ورأيت بعض من كان يدعى الفضل منهم , يجعل بضاعة ترويج مسلكه أمثال ما يعزى إليهم (عليهم السلام)"لنا مع الله حالات فيها هو نحن ونحن هو"وما درى المسكين في العلم والتتبع والتثبت والضبط أن كتاب مصباح الشريعة وما يشبهه من الكتب المودعة فيها أمثال هذه المناكير مما لفقتها أيادي المتصوفة في الأعصار السابقة وأبقتها لنا تراثاً...
ثم أن شيوع التصوف وبناء الخانقاهات كان في القرن الرابع حيث أن بعض المرشدين من أهل ذلك القرن لما رأوا تفنن المتكلمين في العقائد فاقتبسوا من فلسفة (فيثاغورس) وتابعيه في الإلهيات قواعد وانتزعوا من لاهوتيات أهل الكتاب والوثنيين جملاً وألبسوها لباساً إسلاميا فجعلوها علماً مخصوصاً ميزوه باسم علم التصوف أو الحقيقة أو الباطن أو الفقر أو الفناء أو الكشف والشهود.وألفوا وصنفوا في ذلك كتباً ورسائل وكان الأمر كذلك إلى أن حل القرن الخامس وما يليه من القرون,فقام بعض الدهاة في التصوف فرأوا مجالاً رحباً وسيعاً لأن يحوزوا بين الجهال مقاماً شامخاً كمقام النبوة , بل الإلوهية باسم الولاية والغوثية والقطبية بدعوى التصرف في الملكوت بالقوة القدسية,فكيف بالناسوت, فوسّعوا فلسفة التصوف بمقالات مبنية على مزخرف التأويلات والكشف الخيالي والأحلام والأوهام فألفوا الكتب المتظافرة الكثيرة ككتاب التعرف والدلالة والفصوص وشروحه والنفحات والرشحات والمكاشفات والإنسان الكامل والعوارف والمعارف والتأويلات ونحوها من الزبر والاسفار المحشوة بحكايات مكذوبة وقضايا لا مفهوم لها البتة... فلما راج متاعهم وذاع ذكرهم وراق سوقهم ,تشبعوا فرقاً وأغفلوا العوام والسفلة بالحديث الموضوع المفترى :"الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق" وجعل كل فرقة منهم لتمييزها عن غيرها علائم ومميزات بعد اشتراك الجميع في فتل الشوارب وأخذ الوجهة والتجمع في حلقات الأذكار عاملهم الله وجزاهم بما فعلوا في الاسلام. وأعتذر من إخواني الناظرين عن إطالة الكلام حيث إنها نفثة مصدور وتنفس صعداء و شقشقة هدرت غصص وآلام وأحزان بدرت، عصمنا الله وإياكم من تسويلات نسجة العرفان وحيكة الفلسفة والتصوف وجعلنا وإياكم ممن أناخ المطية بأبواب أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يعرف سواهم آمين آمين)[11].
 
رفض سماحة السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظلّه الوارف) لمنهج ابن عربي وتراثه:
ينقل عن سماحة السيد السيستاني (دام ظلّه الوارف) انه قال: لما كنت في الثامن عشر من العمر انهيت دراسة الفلسفة بفهم دقيق لمفاهيمها المعقدة حتى اصبت بعض الاحيان بشيء من العُجب والغرور, وكنت لذلك معجبا بالفلاسفة ومشدوداً الى افكارهم , ومع هذا حضرت في حوزة مشهد المقدسة دروس آية الله العظمى الشيخ الحاج ميرزا مهدي الاصفهاني (قدس سره) وكان ناقداُ للفلسفة وشديداُ على الفلاسفة , ولازال صوته يدوي في اذني حيث كان يخطب فينا وهو يهاجم أنصار علم الفلسفة قائلاً "(( هل انكم تريدون صنع مذهب في وجه مذهب أهل البيت من انتم وما شأنكم ,ارتدعوا ,عودوا الى رشدكم, دعوا هذه الفلسفة الممتزجه بالاراء الغريبة عن منهج الائمة الطاهرين)). ولكن رغم ذلك لم أُناقشه بإساءة ادب فأستنصر لفلاسفة كنت اؤيدهم واستمر حضوري لدروسه حتى اقنعني تدريجياً بإعادة النظر في المطلق لعلم الفلسفة وحبي المبالغ فيه للفلاسفة , فصرت محايداُ في الامر لا مؤيداُ ولا مندداُ , وهناك اكتشفت فائدة التواضع والأدب وضرر العُجب والغرور[12].
طبعاً هذا الموقف من سماحته (دام ظله الوارف) يخص عموم الفلسفة ، غير ينقل عنه انه لم يكن مؤيداً لمدرسة الحكمة المتعالية وموقفه سلبي من ابن عربي.
 
وقد وُجّه السؤال التالي الى سماحته (دام ظله الوارف) باللغة الفارسية: 
{ اتوجه به مطالب منسوب به حضرتعالی در بعضی از سايتها مبنی بر تأييد (عرفان صاحب فصوصی) تقاضا می‌شود نظر شريف را در این رابطه اعلام فرمائيد.
جواب : اين‌جانب در ارتباط با معارف اعتقادى به روشاكابر علماى اماميه (قدس الله اسرارهم) كه مطابق با آيات قرآن مجيد و روايات اهلبيت عصمت و طهارت (عليهم السلام) مى‌باشد معتقد بوده و روش فوق الذكر را تأييد نمى‌نمايم.
علي الحسيني السيستاني. 8 محرم الحرام 1433هـ}.
وترجمته: {السؤال : نظراً الی المطالب المنسوبة الی حضرتکم فی بعض المواقع التی تؤیدالعرفان المنسوب لصاحب الفصوص ، نطلب ان تتفضلوا برایکم بهذا الخصوص .
الجواب : انا بخصوص المعارف الاعتقادیة علی منهج اکابر علماء الامامیة قدس الله اسرارهم الذي یکون مطابقا لآیات القرآن الکریم و روایات اهل بیت العصمة والطهارة علیهم السلام و لا اؤید المنهج المذكور اعلاه.
علي الحسيني السيستاني. 8 محرم الحرام 1433هـ}.
وبهذه الفتوى المباركة نختم بحثنا هذا ، وكما في قوله تعالى: ((خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ)). 
 
 
 
________________________________________
الهوامش:
[1] الى طالب العلم / الشيخ علي كوراني – ص114.
[2]  مقال بعنوان (خلفية اعتقاد الملا صدرا بالصور الأفلاطونية) بقلم جون والبريدج John Walbridge ، منشور في موقع معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية.
[3]  كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد / العلامة الحلّي (رض) / تعليق الشيخ حسن حسن زاده آملي – هامش التعليقات ص258.
[4] فلاسفة الشيعة / الشيخ عبد الله نعمة – ص402.
[5] الرؤية الفلسفية / الشيخ ماجد الكاظمي - ص89 و90.
[6] الخلاصة الفلسفية / السيد علي حسن مطر الهاشمي – ص328.
[7] شرح العروة الوثقى / السيد محمد باقر الصدر (رض) - ج 3 - شرح ص 313 و314.
[8]  بحث (تعارض الأدلة (224) ) في 11 رجب 1435هـ / منشور في الموقع الرسمي الالكتروني لمكتب سيد كمال الحيدري.
[9] التنقيح في شرح العروة الوثقى / تقرير بحث السيد الخوئي (رض) للشيخ علي الغروي (رض) - ج3 ص74-78.
[10] المصدر السابق - ج3 ص70-72.
[11] شرح احقاق الحق / الشيخ نور الله التستري / تعليقات السيد شهاب الدين النجفي المرعشي – ج1 التعليق في هامش ص183.
[12] قصص وخواطر / الشيخ عبد العظيم المهتدي البحراني – ص419.
 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


نبيل محمد حسن الكرخي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/11/16



كتابة تعليق لموضوع : من الاخطاء العقائدية عند مدرسة الحكمة المتعالية ... ( 20 )
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net