صفحة الكاتب : ادريس هاني

للتحقيق العلمي أصول..وآداب
ادريس هاني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
يقهرني صديقي يتعالم بلا علم..يقول: لا ، قبل أن يفكّر..يجعل العلم في خدمة مزاجه وليس العكس..يخلط بين العلم والنفاق الاجتماعي..يهرب من العلم والحقيقة في الأخلاقوية المزيفة..ثم يهرب من الأخلاق الحقة في العلوم غير الحقيقية وأنصاف الحقائق..يلعب على حبال الزيف كالبهلوان..ممثل بليد لا يلتفت إلى آثار الجهل التي تتساقط خلفه ويلتقطها الأغبياء بتفاهة أو يرمقها أهل المعرفة بسخرية..يعتقد أنّ الدّقة والتحقيق هي "فهلوة" وليس فنّا له أصوله..يعتقد أنّه مقنع فقط لأنّه يتكلّم أو يتحدّث كالبهلوان وسط بحر من فاقدي القدرة على التمييز..هو كله على بعض عنوان انحطاط المشهد الثقافي العربي......
العلم تربية..والتحقيق تربية..والنظام التربوي العربي يعاني خللا رهيبا.إنه عاجز عن تربية العقل على الإبداع..يحصل ذلك بشكل فاضح في علوم الإنسان..هناك اختراق فوضوي لعلوم لم تثبت نفسها..وهناك علوم هي علوم ولكنها ذات منافع أداتية وتقنية لا مجال فيها للإبداع..لدينا تقنيون في حقول معرفية مختلفة لكنهم ليسوا مبدعين..حتى في الرواية والشعر نحن أمام تقنيين ليس إلاّ..العبارات والتراكيب محفوظات قد تنقص ولكنها لا تزيد..تمثّلات تقنية ومحفوظات وتحايل في التنزيل.. والأذن تربّت على التقاط الرذيئ من كل فنّ..والعقل غافل عن أصول النقد والنظر فهو يلتقط الظواهر السطحية دون الأعماق..
ولأنّ العلم لم يتحوّل عندنا إلى صناعة، ولأنّ الآداب نفسها لم تتحوّل عندنا إلى فنّ، فإن الهشاشة تقضم العقل العربي..كم من ناطق عن جهل يسمح لنفسه أن يكرر جهله في وسط لا يميّز بين الجودة والضحالة؟ 
تطورت تقنية الوسائط ولكنها غير معنية بتطور المضمون..بل أوجدت تقاليد جديدة تناضل للإقناع بالتطبيع مع الجهل والنذالة..فالبؤس العلمي هنا يقاس افتراضيا بأدوات تافهة في التعليق والإمضاء..ومزرعة الجهل هنا ليس لها من رصيد غير تقنية الدعابة من دون مضمون مقنع..الافتراضي هنا امتداد للجهل أو تتقين الجهل ليكسب هالة العلم بينما كل أشكال التقنية الأداتية لا علاقة لها بالإبداع في مجال العلوم الانسانية والاجتماعية بل هي مساعد يتطلب وجود أرضية علمية أولا..
يتربّى الإنسان في بلاد التقدّم العلمي على احترام العلم وإتقانه وعدم الاستعاضة بالكلام عن المضمون، أو اعتبار ذغذغة المزاج هي الإبداع..فالسذاجة القاتلة للعلم لا يشفع لها الإصرار على مفهمة التّفاهة والتلويح بلغة العلم لتكريس مضامين تافهة أو منح العصبية ممرّا لتحقيق رغباتها..
أخلاقيات العلم هنا غائبة لأنّ العناد وإرادة التزييف وتبرير الخطأ هي قبل كلّ شيئ خلل نفسي ينعكس على الموقف الأخلاقي وأخيرا ينتج هذا الأخير سلوكا محتالا ضدّ أدوات العلم مما يترك فتوقا جاهلية على الممارسة العلمية وغالبا تظهر ثقوب في الوعي والنظر والعمل..
الحاجة إلى التحقيق يقدحها الشعور باختلالات المعرفة والحاجة إلى الدقة لإحراز كمال العقل الخلاّق وليس الذهن المهجوس بالعصبية والعناد والإدمان على المفارقة..ولا زال العربي اليوم التائه في العصبية عاجز عن التحقيق وابتكار المفاهيم الخلاّقة لأنّ رصيده من العلم هو اللّغو والتّلغون واللغة في مداركها الدنيا، أي ألفاظ فاقدة للمعنى الجدّي..
انتحر العرب اليوم في هواجس لغة أكرهوها على أن تتحول إلى ألفاظ تفتقر إلى المفاهيم..حروف تتراشق في فضاء يخلوا من النجاعة..وتعيد البنية الفاسدة إنتاج نفسها ولغتها على أساس الفراغ والجهل..
وفضلا عن أصول التحقيق المقرر في حقوله هناك آداب العلم التي هي معقد إمتاعه ومصهر مآنساته..فالعلم عصبية قائمة بذاتها لا يمتح عصبيته من أوهام البشر أو جنون البقر..إنّ العلم مجال للتعالي بالحقيقة والدّنوّ من الواقع والتجريد للفهم لا للتلبيس..التجريد للتحرر من ضغط عوارض الواقع لا التجريد لمزيد من الإغراق في واقع رديئ..المقايسات التي تعتمد في بناء الفكرة إن هي استنجدت بعرف غبي ساذج، فهي مقايسة بليدة غير منتجة، أقيسة بها يحيى أنعام البشر وعوامهم الذين لا يميزون بين القياس المنطقي الصحيح والقياس الجدلي المحتال..
أداب العلم تجعل العلم يتنزّل سمحا رضيّا فتتقبّله النفوس ويغتني به الوجدان وتطير به الأشواق، لا العلم الذي ينزل كالصخر على النفوس إلاّ ما كان منها مكدورا "متكيدرا"(نسبة إلى الكيدار وهو حصان رديئ ضعيف عادة ما يستعمل في الأعمال المخصصة للبغال)..فهذه النفوس المكدورة ذات الجوهر المتدخرج في أسفل الوجود تحترق من نزلة العلم ولا تقبل إلاّ بما يرضي الأهواء الجانحة والأمزجة غير المعتدلة..إنّ العلم موجود ولكن في غياب للعلماء..العالم ليس هو الذي يعرف بل الذي يعرف كيف يجب أن يعرف، وإذا جهل يعرف ما الذي يجب أن يفعله للتحرر من جهله...

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/11/03



كتابة تعليق لموضوع : للتحقيق العلمي أصول..وآداب
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net