المثقف الذي لم ينجز بعد..
ادريس هاني
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
أفهم من استبانة عبد الله العروي أنّ المغرب كان سيكون أفضل من جيرانه لو مكّن من الحماية البريطانية ، بل إن سياسة المقيم العام ليوطي كانت في صميمها سياسة بريطانية تقوم على تمكين المخزن والسلطة المحلية من شكل من الإدارة، وبالتّالي سيحتد النزاع بين الإدارة المركزية والإدارة المحلية بمعنى كنا أمام نزاع جناحين في إدارة الحماية..المغرب رفض الوصاية الإسبانية ولذا دخلتهذه الأخيرة تحت تغطية من قوة أوربية(فرنسا)..هناك فيما ينظر إليه العروي ما يشبه تباكي عن أن الحماية لم تؤدّ دورها في التحديث في ظل العوائق التاريخية: السيبة والامتناع عن أداء الضرائب تشرذم الجيش تنازع القبائل الأطماع الخارجية..
أتساءل بدوري لماذا يفكر العروي طويلا ليقول أشياء أحيانا بسيطة تجعلنا مرتهنين لمعضلة الحماية كما لو أن المجتمعات التي انطلقت لم يكن وراءها خيبات أمل..بالتأكيد كلنا ندرك بأن الاستقلال ولد ميتا ولم تستكمل الحركة الوطنية مهمتها، ولكن حينما نقف على استبيانات العروي ومشكلته مع نفسه الذي يعود لحالة الثباتية في الموقف وكأنها قراءة تدور مدار تكهنات شخصانية لمفكر عاش العزلة والاشمئزاز من صور شعبية وحمل همّ حل مشكلة ابن كاتب القائد الذي لم يكن بعيدا عن دار المخزن ولكنه ظل مولعا بنقد صور مغرب تقليداني دون أن يقدم وصفة إلا من خلال أمرين: التهويل بلعنة الحماية وصيرورتها في تاريخ مغرب ما بعد الاستقلال، والحداثة من دون: كيت وأن ولو ولكن..لأن الحداثة عنده لا مرية فيها..أما سؤال الكيف، فهي تاريخانية ثقيلة غير معنية بسؤال الهوية والسيادة والمقاومة..إن فكر العروي مهم في انكبابه على شيطان تفاصيل مرحلة ما قبل الاستقلال، ولكنه يقبر العقل المغربي في هواجس حماية وحتمية الاستجابة لانتكاسة ضحى الاستقلال، لكن كل هذا يخضع لمزاج المؤرخ..المؤرخ الذي يصف الأحداث ولكن يسقط في التهويل واليأس..هنا يبدو لي أنّ المؤرخ هو نفسه ضحية الأحداث..المؤرخ والتفاؤلية لا يلتقيان..
مشكلة العروي أنه وهو المؤرخ التاريخاني يخضعنا دائما إلى حالة التشويق التي فقدت أهميتها في زمن فائض القيمة الذي تتيحه الميديولوجيا اليوم..ما قيمة أن نصمت دهرا لنردد ما يروج في الصحافة بشكل يومي؟ ما قيمة أن نتحدث كثيرا لنرهن الحاضر في مشكلات مغرب الاستقلال دون أن نقدم مخرجا حقيقيا غير تعليق الحل على الحداثة التي باتت موضع مناورة والتباس وهي أمر غير معطى ليس فقط برسم القابلية للاستعمار بل برسم إصرار الاستعمار على أن يحول دون تحقق الإقلاع في مستعمراته التقليدية..تاريخانية العروي إمكانية للتفكير وحداثويته مطلب من جملة المطالب التي تعتبر تحصيل حاصل، لكن لا بدّ من تحرير محل النزاع..صحيح أن السياسي يخشى من المؤرخ الذي يذكر ويتذكر كما ذهب العروي ولكن المؤرخ الذي يخشاه السياسي ليس مؤرخ منريفا (هيغل) الذي يعشق الإستغراق في يوميات الأحداث ويبني من خلال أمثال منها صورة تخلف أمّة..أحيانا السياسي الذي يجيد التحرر من الهواجس التاريخية هو صانع تاريخ، هو صانع قفزاته، وانقطاعاته..كلام العروي حكم تاريخية يجب التعاطي معها بعمق وأيضا بحذر، لأن بين عمق وعمق يمرر العروي تبسيطا قاتلا..العروي كمثقف متعالي تاريخانيا ومستعلي سوسيولوجيا يراقب الأحداث بعناد معاييره الثابتة..سلفيته التاريخانية باتت أضعف من مقاومة السلفية البنيوية حيث فسحت السلفية الوطنية المجال للسلفية الطرقية لو صح هذا الوصف..طرح العروي على نفسه الكثير من الأسئلة في استبيانه وأجاب عنها(111 سؤالا)، بطريقته التي يمكن التكهن بها مسبقا.. متى يكف العروي عن حالة التعالي التاريخاني حيث لم يجرأ عليه إلاّ الأقلّون، أحدهم طه عبد الرحمن وهو قد زاد الطين بلّة في استعلائيته المنطقانية، وبنسالم حميش الذي أراه أصاب مقتلا في نقد ثقافه الحجر في مناكفاته لتاريخانية العروي.. وقبلهما الخطيبي في النقد المزدوج، بينما الجابري فضل متاهة أخرى فتحت عليه ومناكفاته جيلا آخر من الأزمات المعرفية..كل شيء إن زاد عن حدّه يتحوّل إلى الأيديولوجيا أو باصطلاح العروي نفسه أدلوجة..أدلوجة تأسر العقل عن البحث عن منافذ ممكنة دائما للفكر والواقع معا..لو كان العروي يتقن فنّ القتال لأدرك أنّ التزحزح من التموضع الحرج له أكثر من طريقة..إن فرض الطريقة الوحيدة المستحيلة لا يقلّ تخلّفا عن التخلف نفسه الضارب الأطناب في بيئة تعبّر عن تخلّفها ليس فقط بانحطاط أطاريح أهلها بل في استعلائبتهم التي تعتمد لعبة التشويق وكذا حالة الهلع الهيتشكوكي الذي يمارسه العروي على المتلقّي..شكل من علم النفس العسكري الذي يعتمده مثقف يغيب دهرا ليملأ فراغات ما قاله منذ عقود..لا شيء تغير..
في إحدى كتاباته علق على أن أبي حامد الغزالي انتصر للتصوف ودعى للعزلة في الوقت الذي كان المغول يطؤون البلاد الإسلامية، لكن العروي هو نفسه يلوذ بصومعته ويستكين لعزلته في زمن الميغا ـ إمبريالية (المصطلح للمنجرة)..المثقف العربي يعيش حالة مفارقة..بين مثقفين تحولوا إلى ظواهر صوتية سطحية لم يلامسوا عمق الحقائق ولا أحاطوا بعمق المفاهيم وآخرون فضلوا العزلة والهروب والاستقالة..وكل يدافع عن خياره..لكن المثقف الحي والواقعي والمسؤول والمهتم بالواقع والمتوقع والمنخرط في يوميات التحدي، والصادق في رهانه والمنهمك في صناعة المفاهيم وتنزيلها في مشاريع رؤى خلاّقة، والمكافح لكي لا يهيمن الجهل والتخلف والتبسيط على المجال، هذا المثقف هو مشروع لم ينجز...
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
ادريس هاني

أفهم من استبانة عبد الله العروي أنّ المغرب كان سيكون أفضل من جيرانه لو مكّن من الحماية البريطانية ، بل إن سياسة المقيم العام ليوطي كانت في صميمها سياسة بريطانية تقوم على تمكين المخزن والسلطة المحلية من شكل من الإدارة، وبالتّالي سيحتد النزاع بين الإدارة المركزية والإدارة المحلية بمعنى كنا أمام نزاع جناحين في إدارة الحماية..المغرب رفض الوصاية الإسبانية ولذا دخلتهذه الأخيرة تحت تغطية من قوة أوربية(فرنسا)..هناك فيما ينظر إليه العروي ما يشبه تباكي عن أن الحماية لم تؤدّ دورها في التحديث في ظل العوائق التاريخية: السيبة والامتناع عن أداء الضرائب تشرذم الجيش تنازع القبائل الأطماع الخارجية..
أتساءل بدوري لماذا يفكر العروي طويلا ليقول أشياء أحيانا بسيطة تجعلنا مرتهنين لمعضلة الحماية كما لو أن المجتمعات التي انطلقت لم يكن وراءها خيبات أمل..بالتأكيد كلنا ندرك بأن الاستقلال ولد ميتا ولم تستكمل الحركة الوطنية مهمتها، ولكن حينما نقف على استبيانات العروي ومشكلته مع نفسه الذي يعود لحالة الثباتية في الموقف وكأنها قراءة تدور مدار تكهنات شخصانية لمفكر عاش العزلة والاشمئزاز من صور شعبية وحمل همّ حل مشكلة ابن كاتب القائد الذي لم يكن بعيدا عن دار المخزن ولكنه ظل مولعا بنقد صور مغرب تقليداني دون أن يقدم وصفة إلا من خلال أمرين: التهويل بلعنة الحماية وصيرورتها في تاريخ مغرب ما بعد الاستقلال، والحداثة من دون: كيت وأن ولو ولكن..لأن الحداثة عنده لا مرية فيها..أما سؤال الكيف، فهي تاريخانية ثقيلة غير معنية بسؤال الهوية والسيادة والمقاومة..إن فكر العروي مهم في انكبابه على شيطان تفاصيل مرحلة ما قبل الاستقلال، ولكنه يقبر العقل المغربي في هواجس حماية وحتمية الاستجابة لانتكاسة ضحى الاستقلال، لكن كل هذا يخضع لمزاج المؤرخ..المؤرخ الذي يصف الأحداث ولكن يسقط في التهويل واليأس..هنا يبدو لي أنّ المؤرخ هو نفسه ضحية الأحداث..المؤرخ والتفاؤلية لا يلتقيان..
مشكلة العروي أنه وهو المؤرخ التاريخاني يخضعنا دائما إلى حالة التشويق التي فقدت أهميتها في زمن فائض القيمة الذي تتيحه الميديولوجيا اليوم..ما قيمة أن نصمت دهرا لنردد ما يروج في الصحافة بشكل يومي؟ ما قيمة أن نتحدث كثيرا لنرهن الحاضر في مشكلات مغرب الاستقلال دون أن نقدم مخرجا حقيقيا غير تعليق الحل على الحداثة التي باتت موضع مناورة والتباس وهي أمر غير معطى ليس فقط برسم القابلية للاستعمار بل برسم إصرار الاستعمار على أن يحول دون تحقق الإقلاع في مستعمراته التقليدية..تاريخانية العروي إمكانية للتفكير وحداثويته مطلب من جملة المطالب التي تعتبر تحصيل حاصل، لكن لا بدّ من تحرير محل النزاع..صحيح أن السياسي يخشى من المؤرخ الذي يذكر ويتذكر كما ذهب العروي ولكن المؤرخ الذي يخشاه السياسي ليس مؤرخ منريفا (هيغل) الذي يعشق الإستغراق في يوميات الأحداث ويبني من خلال أمثال منها صورة تخلف أمّة..أحيانا السياسي الذي يجيد التحرر من الهواجس التاريخية هو صانع تاريخ، هو صانع قفزاته، وانقطاعاته..كلام العروي حكم تاريخية يجب التعاطي معها بعمق وأيضا بحذر، لأن بين عمق وعمق يمرر العروي تبسيطا قاتلا..العروي كمثقف متعالي تاريخانيا ومستعلي سوسيولوجيا يراقب الأحداث بعناد معاييره الثابتة..سلفيته التاريخانية باتت أضعف من مقاومة السلفية البنيوية حيث فسحت السلفية الوطنية المجال للسلفية الطرقية لو صح هذا الوصف..طرح العروي على نفسه الكثير من الأسئلة في استبيانه وأجاب عنها(111 سؤالا)، بطريقته التي يمكن التكهن بها مسبقا.. متى يكف العروي عن حالة التعالي التاريخاني حيث لم يجرأ عليه إلاّ الأقلّون، أحدهم طه عبد الرحمن وهو قد زاد الطين بلّة في استعلائيته المنطقانية، وبنسالم حميش الذي أراه أصاب مقتلا في نقد ثقافه الحجر في مناكفاته لتاريخانية العروي.. وقبلهما الخطيبي في النقد المزدوج، بينما الجابري فضل متاهة أخرى فتحت عليه ومناكفاته جيلا آخر من الأزمات المعرفية..كل شيء إن زاد عن حدّه يتحوّل إلى الأيديولوجيا أو باصطلاح العروي نفسه أدلوجة..أدلوجة تأسر العقل عن البحث عن منافذ ممكنة دائما للفكر والواقع معا..لو كان العروي يتقن فنّ القتال لأدرك أنّ التزحزح من التموضع الحرج له أكثر من طريقة..إن فرض الطريقة الوحيدة المستحيلة لا يقلّ تخلّفا عن التخلف نفسه الضارب الأطناب في بيئة تعبّر عن تخلّفها ليس فقط بانحطاط أطاريح أهلها بل في استعلائبتهم التي تعتمد لعبة التشويق وكذا حالة الهلع الهيتشكوكي الذي يمارسه العروي على المتلقّي..شكل من علم النفس العسكري الذي يعتمده مثقف يغيب دهرا ليملأ فراغات ما قاله منذ عقود..لا شيء تغير..
في إحدى كتاباته علق على أن أبي حامد الغزالي انتصر للتصوف ودعى للعزلة في الوقت الذي كان المغول يطؤون البلاد الإسلامية، لكن العروي هو نفسه يلوذ بصومعته ويستكين لعزلته في زمن الميغا ـ إمبريالية (المصطلح للمنجرة)..المثقف العربي يعيش حالة مفارقة..بين مثقفين تحولوا إلى ظواهر صوتية سطحية لم يلامسوا عمق الحقائق ولا أحاطوا بعمق المفاهيم وآخرون فضلوا العزلة والهروب والاستقالة..وكل يدافع عن خياره..لكن المثقف الحي والواقعي والمسؤول والمهتم بالواقع والمتوقع والمنخرط في يوميات التحدي، والصادق في رهانه والمنهمك في صناعة المفاهيم وتنزيلها في مشاريع رؤى خلاّقة، والمكافح لكي لا يهيمن الجهل والتخلف والتبسيط على المجال، هذا المثقف هو مشروع لم ينجز...
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat