من الاخطاء العقائدية عند مدرسة الحكمة المتعالية ... ( 2 )
نبيل محمد حسن الكرخي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
نبيل محمد حسن الكرخي

"لا شك ان للعقل قيمة كبيرة فهو الوسيلة للمعرفة والركيزة الاساسية للمعارف الاسلامية والانسانية , وقد دأب المفكرون على التمسك به واللجوء الى مقرراته في معرفة الحق والصواب و الباطل والخطأ , وبه يعرف الصادق على الله تعالى فيصدقه , والكاذب على الله عز وجل فيكذّبه , فالعقل هو القوة المودعة عند الانسان ليميز بواسطتها بين الصواب والخطأ , وقد تكفلت المدارس العقلية بيان قوانين العقل في الفكر فكان علم المنطق هو الاساس العلمي والمرجعية الفكرية للباحثين عن الحقيقة , ثم اعطت المدارس الفلسفية لنفسها الصلاحية لتقدم منظومة معارفية بعنوان القوانين العقلية , ونعتقد ان تلك المنظومة الفلسفية بمدارسها وتوجهاتها المختلفة قد وقعت في المخالفات القطعية لما جاء به الاسلام كما خالفت العقل ايضاً. ولم تكتف تلك التوجهات البشرية بجعل نفسها قيَمة على التعقل الانساني الذي هو عامل مشترك بين البشر , واستقلالها بالنظر في تقرير قوانين العقل ونتائجه , بل حكمت على مخالفها بسوء الفهم وقلة التدبر ! ولئن مضت الفلسفة المشائية ببريقها فلقد اخذ البرق الخلب لمدرسة ملا صدرا بابصار الكثير من الباحثين في العصر الاخير , وقد عُرف في الاوساط العلمية دراسة كتب معينة ما زال معروفا منها المنظومة للسبزواري ، وبداية الحكمة ونهاية الحكمة للسيد الطباطبائي , فشكلت هذه الكتب روافد المعرفة الفلسفية في عصرنا الراهن"[1].
ولا شك فإن مدرسة ملا صدرا التي تسمي نفسها (الحكمة المتعالية) تنتمي الى التراث الصوفي لابن عربي كما اعترف بذلك اساطين علمائها انفسهم (السيد علي القاضي والسيد محمد حسين الطباطبائي والشيخ جوادي آملي والشيخ حسن حسن زادة آملي) ، وكان ابن عربي وتراثه الفكري يقف في وادٍ من وديان الضلال بعيداً عن شموخ هدى تعاليم آل البيت الاطهار (عليهم السلام) ولذلك لا بد من تدقيق النتائج الفكرية التي توصلت لها مدرسة ملا صدرا (الحكمة المتعالية) التابعة لتراث ابن عربي وتدقيق ما يتلائم منه مع فكر وتراث آل البيت الاطهار (صلوات الله عليهم).
وربما يتسائل احدهم عن المبرِّرات التي تجعلنا نختلف مع مدرسة الحكمة المتعالية ، فهل إنًّ مشكلتنا معهم هي مشكلة في صميم الجانب العقائدي ، ام هي مشكلة فكرية ترفيّة ؟!
فهل يا تُرى إنَّ مشكلتنا معهم هي لأحد الاسباب التالية:
ـ لأنهم يتبعون الفلسفة والتصوّف ، وقد ورد في بعض الاحاديث الشريفة النهي عنهما.
ـ لأنهم يتبعون الفلسفة ونحن وجدنا ان طريقة الائمة الاطهار (عليهم السلام) بعيدة عن الفلسفة.
ـ لأنهم يتبعون التصوّف ونحن وجدنا ان طريقة الائمة الاطهار (عليهم السلام) بعيدة عن التصوّف.
ـ لأنهم يقسِّمون عقيدة التشيّع أي اصول الدين الى ثلاثة انواع ، فهناك عقيدة عامة ، وعقيدة خاصة ، وعقيدة خاصة الخاصة !!
ـ لأنهم يقسّمون المؤمنين طبقات وفقاً لأنتمائهم العقائدي، فهناك طبقة عقيدة عامة المؤمنين، وطبقة عقيدة خواص المؤمنين، وطبقة عقيدة خواص الخواص !!
ـ لأنهم يمسّون جوهر التوحيد ، وينسبون الله تعالى شأنه الى العجز وحاشاه ، من خلال تبنيهم المبدأ اليوناني: "الواحد لا يصدر عنه الا الواحد" !
ـ لأنهم يمسّون جوهر التوحيد وينسبون للخالق تعالى وجود شريك له في خلقه اطلقوا عليه اسم: "الحقيقة المحمدية" !
ـ لأنهم يمسّون جوهر التوحيد من خلال تبنيهم القول بقدم العالم ، فيكون العالم قديماً كما انه تعالى قديم !
ـ لأنهم تبنّوا القول بوحدة الوجود والموجود ! ومؤدى ذلك عندهم ظهور الله تعالى في الاصنام والاوثان والنار وغيرها ، أي تعدد المعبود !!
ـ لأنهم زعموا انهم يتمكنون من خلال الكشف من معرفة الله تعالى شأنه معرفة تفصيلية ، ومن ذلك تجرّأ ابن عربي فوضع مفهوم الاعيان الثابتة عند الله تعالى ! وهو اول من تحدث بذلك !!
ـ لأنهم قسّموا العلم الالهي الى علم ذاتي وعلم فعلي ، وهو من جهة يثير شبهة التشبيه ، ومن جهة اخرى يثير شبهة التغيُّر في علمه تعالى وحاشاه ! ومن جهة ثالثة يُخضِعون العلم الالهي بقولهم هذا الى علّة الزمن رغم أنَّه مخلوق ! أي يُخضِعون العلم الالهي الى علة مخلوقة !!
ـ لأنهم قسّموا العلم الالهي الى علم ذاتي وعلم فعلي ، وهو امر لم يقل به الائمة الاطهار (عليهم السلام) فلو كان حقاً لأرشدونا اليه ، ام تراهم تركونا بعقيدة ناقصة احتاجت الى ابن عربي وتراثه ليكملها لنا !؟
ـ لأنهم يريدوننا أن نتشبه بالنصارى الذين يؤمنون بناسوت المسيح (عليه السلام) ولاهوته ! وهؤلاء يؤمنون بناسوت النبي (صلى الله عليه وآله) في حياته البشرية وعن لاهوته في "الحقيقة المحمدية" التي زعموا انها الصادر الاول وانها خلقت جميع الكائنات !!
ـ لأنهم قالوا بأن المعاد يكون بالجسم المثالي وليس بجسمنا الترابي هذا نفسه !
ـ لأنهم قالوا بأن عذاب الكفار والعُصاة في جهنم – نستجير بالله سبحانه وتعالى منها - ينقلب الى عذوبة !
ـ لأنهم قالوا بعدم خلود الكفار في جهنم.
وفي الحقيقة فإنَّ جميع هذه الاسباب منفردةً ومجتمعةً تجعلنا على خلاف مع مدرسة الحكمة المتعالية وعلى حذر من الانخداع بأفكارها والانجرار وراء عقائدها وأقوال علمائها.
معرفة الله سبحانه وتعالى:
في الكافي ان الامام موسى بن جعفر الكاظم (عليهما السلام) كتب: (أنَّ الله أعلى وأجلّ وأعظم من أن يبلغ كُنهُ صفته ، فصفوه بما وصف به نفسه ، وكفّوا عما سواه). وقال ملا صدرا شارحاً هذا الحديث الشريف من منطلقات مدرسته الفلسفية: (اعلم ان لكل واحدة من صفات الله تعالى مفهوماً كلياً عاماً من شأنه أن يعقل ويتصور في الذهن ، ولها نحواً من الوجود لا يمكن أن يعقل ويتصوّر في ذهن من الاذهان ، ووزان كلَّ واحدة من صفاته الكمالية الايجابية كوزان وجوده ، وكما أن للوجود معنى مشتركاً بينه تعالى وبين الحوادث ، ولكن وجوده الخاصّ به لكونه في غاية الشدّة والبهاء ممّا لا يبلغ أحد كنهه ((ولا يحيطون به علماً)) فكذلك العلم معنى مشترك بين القديم والحادث ، وعلم الله موجود لذاته ، قديم لذاته ، ولكماليّة وجوده علم بجميع الاشياء ، لا يعزب عنه مثقال ذرّة في الارض ولا في السماء ، ولا يمكن تصوّر علمه لأحد ، وكذا قدرته متعلّقة بجميع المقدورات ، لشدّة وجودها وفرط كماليَّتها مع اشتراكها مع سائر القوى والقدر في المفهوم من معنى القدرة ، وكذلك في سائر الصفات الإلهيّة. فهكذا يجب عليك ان تعرف كون صفاته تعالى اجلَّ وأعظم من أن يبلغ أحد كنهها ، حتى لا تقع في التعطيل ولا في التشبيه ، فلمّا كان الامر في صفاته تعالى على هذا المنهاج ، من أنَّ الكلّ منها الحقيقة الإلهيّة والوجود الربَّاني ، من حيث لا كثرة أمر (عليه السلام) بالتوقيف الشرعّي ، والقصر فيها على ما ورد في الكتاب والسنّة والكفّ عمّا سواه)[2].
ولذلك قال العلامة الحلي (رض) : (المعقول من الله تعالى كونه قادراً فاعلاً عالماً ، ليس بجسم ، الى غير ذلك من الصفات السلبية والاضافية وهي امور مغايرة للذات اعتباراً ، أما حقيقته فهي غير مدركة بالعقل ، وكيف يتوصل عقل بشرٍ الى ادراك كنهه ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، مع ان العقل قاصر عن إدراك ما دونه ما لم يؤيَّد بآلة يتوصل بها إليه؟ فكيف يتحقق توسط آلة بينه وبين الله تعالى)[3].
ومن ذلك يتبين أنَّ "معرفة الله تعالى على نحوين :
الاول : المعرفة الاجمالية .
الثاني : المعرفة التفصيلية .
والنحو الاول ممكن في ما هو المهم من المعرفة , والنحو الثاني يجب الاقتصار فيه على مفاد النصوص الشريفة.
والسر في ذلك : أن كل ما يتصوره الانسان بعقله بل كل ما يناله وهمه وخياله هو صور لاشياء حادثة متغيرة متجزئة محدودة مضطرة , فلا يكون القديم الممتنع فيه التغير والتجزي والتحديد والاضطرار , لا يكون من مدركات العقل بنفسه ولوحده , فلا بد له من معرف يعرفه ربه الخالق الباريء القديم , ودون ذلك التعريف يتيه الانسان في ضلالات الاوهام ويعبد أي شيء سوى الله تعالى. وقد دلت النصوص الشريفة على ذلك فاستمع لما يوحى و لا تكن من المتكبرين[4]:
1 – الكافي: عن جميل بن دراج ، عن ابن الطيار ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : إن الله احتج على الناس بما آتاهم وعرفهم . محمد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن ابن أبي عمير ، عن جميل بن دراج مثله .
2 – الكافي: عن محمد بن أبي عمير ، عن محمد بن حكيم قال : قلت لابي عبد الله عليه السلام : المعرفة من صنع من هي ؟ قال : من صنع الله ، ليس للعباد فيها صنع .
3 – الكافي: عن حمزة بن محمد الطيار ، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزوجل : " وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون " قال : حتى يعرفهم ما يرضيه وما يسخطه ، وقال : " فألهمها فجورها وتقويها " قال : بين لها ما تأتي وما تترك ، وقال : " إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا " قال : عرفناه ، إما آخذ وإما تارك ، وعن قوله : " وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى " قال : عرفناهم فاستحبوا العمى على الهدى وهم يعرفون ؟ وفي رواية : بينا لهم .
4 – الكافي: عن حمزة بن محمد ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : سألته عن قول الله عزوجل : "وهديناه النجدين" قال : نجد الخير والشر .
5 – الكافي: عن عبد الاعلى قال : قلت لابي عبد الله عليه السلام : أصلحك الله هل جعل في الناس أداة ينالون بها المعرفة ؟ قال : فقال : لا ، قلت : فهل كلفوا المعرفة ؟ قال : لا ، على الله البيان " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " " ولا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها " قال : وسألته عن قوله : " وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون " قال : حتى يعرفهم ما يرضيه وما يسخطه.
6 – الكافي: عن درست بن أبي منصور ، عمن حدثه ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : ستة أشياء ليس للعباد فيها صنع : المعرفة والجهل والرضا والغضب والنوم واليقظة .
7 - مستدرك الوسائل: محمد بن مسعود العياشي في تفسيره: عن مسعدة بن صدقة ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ( عليهما السلام ): إن رجلاً قال لامير المؤمنين عليه السلام : هل تصف ربنا نزداد له حباً وبه معرفة ؟ فغضب وخطب الناس ، فقال فيما قال: عليك يا عبدالله بما دلك عليه القرآن من صفته ، وتقدمك فيه الرسول من معرفته، فائتم به ، واستضي بنور هدايته ، فإنما هي نعمة وحكمة أوتيتها ، فخذ ما أوتيت وكن من الشاكرين ، وما كلفك الشيطان علمه مما ليس عليك في الكتاب فرضه ، ولا في سنة الرسول وأئمة الهدى أثره ، فكل علمه إلى الله ، ولا تقدر عظمة الله عليه قدر عقلك ، فتكون من الهالكين ، وأعلم يا عبدالله أن الراسخين في العلم ، هم الذين أغناهم الله عن الاقتحام على السدد المضروبة دون الغيوب ، إقراراً بجهل ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب ، فقالوا: آمنا به كل من عند ربنا ، وقد مدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً ، وسمى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عن كنهه رسوخاً
ونجد ان الفلسفة ـ بمشاربها المختلفة ـ لما جعلت العقل او الكشف معيارا في المعرفة أدت بها تلك السبل الى غير الحق وأمثلة ذلك كثيرة ومن واضحاتها اعتقادهم بان الارادة من صفات الذات ومنه الاعتقاد بوحدة الوجود والموجود وغيرها الكثير. "ومن هنا يتضح أن لا مجال للفلسفة للتوصل الى النتيجة المرجوة والغاية المدعاة لانها بمسائلها لا تصل والوصول الى معرفة الله تعالى منوط بتعريف الحجج صلوات الله عليهم , ودون تعريف منهم يظل الطريق مسدودا والمطلوب ممتنعا , فكيف تكون المعارف البشرية المنفصلة عن تعريف الحجج بل المباينة لبيانتهم صلوات الله عليهم هي المُعرِّفة بالله تعالى ؟!! "[5].
ومع ذلك يزعم ملا صدرا تفصيله لعلم الله تعالى الى مراتب ويتحدث عن وجود الاشياء وجوداً عقلياً في علم الله تعالى ! متغافلاً عن ان علمه تعالى هو عين ذاته سبحانه ، فيقول وهو يشرح المروي عن الفضيل بن يسار عن الامام ابي عبد الله جعفر الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى : (وسع كرسيه السموات والارض) قال الامام (عليه السلام): (يا فضيل كل شيء في الكرسي ، السموات والارض وكل شيء في الكرسي). قال ملا صدرا: (قوله: "السموات والارض وكل شيء" أي كل شيء غيرهما ، تفصيل لكل شيء الاول ، والقضية الثانية تأكيد للقضية الاولى ، وقد علمت سابقاً أنَّ كل شيء في علمه تعالى ، وان لعلمه مراتب: أولاها إجمالية لا إجمال فوقها ، وهي عين ذاتها ، وثانيتها مرتبة علمه القضائي العقلي ، وهو عبارة عن وجود الاشياء كلها وجوداً عقلياً في قلم الله ، وهو جوهر مقدَّس عقلي ، وهو باطن العرش ، وثالثتها مرتبة علمه القدري التفصيلي ، وهو عبارة عن وجود صور الاشياء كلها وجوداً صورياً نفسانياً في لوح الله ، وهو جوهر نفساني وجوداً على نحو القبول ، كما أنَّ وجودها في القلم كان على نحو الفعل ، وهو باطن الكرسي ، فظهر أنَّ كل شيء في الكرسي ، كما أنَّ كل شيء في العرش ، إلا أنَّ كونها هناك على نحو الاجمال والافاضة ، وها هنا على وجه التفصيل والاستفاضة ، ولهذا عبّر عنه بالسعة)[6]! فأين ملا صدرا من الالتزام بأوامر ونواهي الائمة الاطهار (عليهم السلام) ؟! ثم ألم يسبق لمدرسة الحكمة المتعالية أن قالت (إن الانسان يرتبط بالله تعالى من بواسطة اسماء الله التكوينية ، لا من طريق الذات الالهية ، لأن ذاته تعالى لا متناهية ، فلا يمكن معرفتها والاطلاع عليها ، لعدم إمكان إحاطة المتناهي باللامتناهي)[7]. فكيف اذن تحدث عن وجود ثلاثة مراتب لعلمه تعالى ، وهو علم لا محدود كما هي ذاته المقدسة !
قال الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي: (يمكن أن يتصور نوعان لمعرفة الله: المعرفة الحضورية ، والاخر: المعرفة الحصولية. والمعرفة الحضورية تعني: أن يتعرف الانسان على الله من طريق نوع من الشهود الباطني والقلبي من دون توسّط المفاهيم الذهنيّة. ومن البديهي أنّ من يملك هذا الشهود الشعوري (النابه أو الواعي) بالنسبة لله تعالى – كما يدّعيه كبار العرفاء – لا يحتاج معه الى الاستدلال والبرهان العقلي ولكن – وكما ذكرنا سابقاً – ان مثل هذا العلم الحضوري والشهودي غير ممكن للفرد العادي. وقبل ان يقوم بمهمة تربية نفسه وبنائها واجتياز مراحل السير والسلوك العرفانيّة ، واما المراتب الضعيفة لهذه المعرفة وإن وجدت عند الافراد العادييّن أيضاً. ولكن بما أنها غير شعورية وواعية ، ولذلك لا تكفي لوحدها في التوصل إلى رؤية كونيّة شعوريّة وواعية)[8]. وقال أيضاً: (من الطبيعي أننا لا يمكن أن ننكر وجود بعض الافراد المتميزين ، الاستثنائيين ، الذين يملكون مثل هذا الشهود الشعوري ، (النابه والواعي) وكما نعترض نحن في حق الانبياء والائمة المعصومين (عليهم الصلاة والسلام) بأنهم كانوا يتميزون بنوع من الشهود منذ طفولتهم ، بل أن بعضهم كان يمتلك مثل هذا الشهود وهو جنين)[9].
إنَّ ادعاء ملا صدرا وجود شهود شعوري عند المعصومين (عليهم السلام) هواولا. ادعاء بلا دليل. وثانياً هو يتعارض مع ما ورد في الاحاديث الشريفة التي استعرضنا بعضها والتي تنص على ان الانسان لا يمكن ان يعرف ربه الا بما يعرفه الله سبحانه وتعالى. وثالثاً هذا الادعاء قد يرتقي الى مستوى الكذب على المعصومين (عليهم السلام) حيث ينسب اليهم ما لم يصرّحوا به وما لم يدًعوه.
ويعترف ابن سينا احد كبار اساطين المدرسة الفلسفية المشّائيّة بأن ادراك حقائق الاشياء المادية وغيرها ليس في قدرة الذهن البشري ، فيكون من باب اولى عدم قدرة الذهن البشري على الاطلاع على حقيقة الذات الالهية المقدسة ، فيقول: "ان الوقوف على حقائق الاشياء ليس في قدرة البشر ونحن لا نعرف من الاشياء الا الخواص واللوازم ولا نعرف الفصول المقوّمة لكل واحد منها الداخلة على حقيقته " الخ[10].
ويقول الشيخ محمد رضا المظفر احد علماء مدرسة الحكمة المتعالية الشيعية: "الا ان المعروف عند العلماء ان الاطلاع على حقائق الاشيا وفصولها من الامور المستحيلة او المتعذّرة وكل ما يذكر من الفصول فإنما هي خواص لازمة تكشف عن الفصول الحقيقية. فالتعاريف الموجودة بين ايدينا اكثرها او كلها رسوم تشبه الحدود"[11].
بينما يعمَد سيد كمال الحيدري الى نقض كلام الشيخ المظفر بتوجيهه الى ان عدم الامكانية المذكورة انما متعلقة بالعلم الحصولي لا بالعلم الشهودي المزعوم ! فيقول: (إلا أن المعروف عند العلماء يعني الفلاسفة: أن الاطلاع على حقائق الاشياء وفصولها من الامور المستحيلة او المتعذرة. وفيه اشارة الى ما ذكرناه من أن مَن يجيب بالحدّ التام ليسوا هم علماء الطبيعة أو الرياضيات ... بل الفيلسوف هو الذي يجيب ، ولكن الاطلاع على حقائق الاشياء وفصولها من الامور المتعذّر كسبها بالعلم الحصولي ، وكل ما يُذكر من الفصول فإنما هي خواص لازمة تكشف عن الفصول الحقيقية أي: إنها تكشف عن وجود الفصول الحقيقية ، وإلا فإن كانت تكشف عن حقائقها فلماذا نطوّل الطريق ويكون الامر من قبيل الاكل من القفا ، فإنّ النطق – بمعنى التكلّم أو بمعنى إدراك الكلّيات – يكشف عن وجود فصلٍ يؤدي آثار الكلام أو آثار إدراك الكلّيات ، كما إذا نظرنا الى النار فإنّا نجد آثارها وهي الحرارة والضوء ، وهذه الآثار ليست هي النار ، بل تكشف عن وجود النار ، وهكذا الماء حين نسأل عن حقيقته ، فإن علم الكيمياء يحلّله الى عناصره وأجزائه ، لكنّا لا نريد معرفة طبيعته الماديّة وهي بيان عنصريه الاوكسجين والهيدروجين لأن هذين العنصرين لا ندري هل هما من الجواهر حتى تكون حقيقة الماء عقلاً أو جسماً أو نفساً ، أم من الاعراض حتى تكون من الكمّ والكيف والمتى والأين ... ، بل نريد معرفة حقيقته الماهويّة ، وهي التي تكشف عنها آثار الماء ومنها رفع العطش. إذن حقيقة المؤثر مجهولة ولا يمكن التعرّف عليها بالعلم الحصولي. فالتعاريف الموجودة بين أيدينا في المنطق والفلسفة أكثرها أو كلها رسوم تشبه الحدود وليست حدوداً حقيقية تامةً أو ناقصة)[12].
كما إنَّ ملا صدرا يعترض على كلام ابن سينا فيقول: (تأويل كلامه ما أومأنا اليه وأقمنا البرهان عليه في مباحث الوجود من أن افراد الوجود لا برهان عليها إلا على ضرب من الحيلة برهاناً شبيها باللم حيث ذكرنا ان حقيقة كل موجود لا تعرف بخصوصها إلا بالمشاهدة الحضورية وفصول الاشياء عندنا عين صورها الخارجية فحق انها لا تعرف الا بمفهومات وعنوانات صادقة عليها وتلك المفهومات وان كانت داخلة في المفهوم المركب المسمى بالحد المشتمل على ما يسمى جنسا وما يسمى فصلاً الا انها خارجة من نحو الوجود الصوري الذي به يكون الشيء حقيقة أو ذا حقيقة والشيخ ذكر في بعض مواضع الشفاء ما معناه ان فصل الحيوان ليس مفهوم الحساس بل جوهر نفسه التي بها تمام ذاته وهويته وحقيقته وكذا فصول سائر الانواع والاجناس والاول يسمى فصلا منطقياً والثاني فصلاً اشتقاقياً لأنه غير محمول على النوع المركب والمحمول عليه هو المفهوم المأخوذ منه وذلك بالحقيقة لازم من لوازمه ومن هذا الموضع يعلم أن للوجود اعياناً خارجية وليس عبارة عن مفهوم عقلي انتزاعي إضافي يتكثر بتكثر ما أضيف اليه كما زعمه المتأخرون وهذا الكلام من الشيخ كالنص على ما ادعيناه)[13].
وكلام ملا صدرا هذا يستفاد منه نقضه لكلام ابن سينا بتاويله حسب رؤيته الفلسفية القائمة على امكانية الاطلاع على كنه الذات الالهية !
ويقول ملا صدرا ايضاً: "ولهذا ورد النهي عن التفكر في ذات الله كقوله: (تفكرّوا في آلاء الله ولا تتفكرّوا في ذات الله) ، ولأنه تحترق النفس في إدراك اشعّة نور وجهه فكيف في نور وجهه ؟ فلا يمكن الوصول الى معرفة ذاته إلا بفناء السالك عن نفسه وباندكاك جبل إنّيته حتى شهد ذاته تعالى على ذاته. كما قال بعض العارفين : (عرفت ربي بربي ولولا ربي ما عرفت ربي)"[14].
ويذهب السيد محمد حسين الطباطبائي نفس مذهب ملا صدرا في امكانية رؤية الله تعالى شأنه حيث يقول في تفسيره الميزان في أواخر تفسيره لسورة النجم المباركة: (وفي النهي عن التفكر في الله سبحانه روايات كثيرة أخر مودعة في جوامع الفريقين ، والنهي إرشادي متعلّق بمن لا يحسن الورود في المسائل العقلية العميقة فيكون خوضه فيها تعرضاً للهلاك)[15]. مما يعني انه لا يعارض التفكر بذات الله جلَّ شأنه لمن يمتلك رؤيته الفلسفية !!
________________________________________
الهوامش:
[1] بداية الحكمة / السيد محمد حسين الطباطبائي / مع تعاليق نقدية للشيخ حيدر الوكيل – ق1 ص7 ، مقدمة التعليق.
[2] شرح الاصول من الكافي / الشيخ صدر الدين محمد بن ابراهيم الشيرازي ت1050هـ – ص707 و708.
[3] الاسرار الخفية في العلوم العقلية / العلامة الحلي (رض) – ص531.
[4] بداية الحكمة / السيد محمد حسين الطباطبائي / مع تعاليق نقدية للشيخ حيدر الوكيل – ق1 هامش التعليق ص11.
[5] بداية الحكمة / السيد محمد حسين الطباطبائي / مع تعاليق نقدية للشيخ حيدر الوكيل – ق1 هامش التعليق ص12.
[6] شرح الاصول من الكافي / الشيخ صدر الدين الشيرازي – ج3 ص838.
[7] دروس في التوحيد / الشيخ علي حمود العبادي / تقريرات ابحاث سيد كمال الحيدري – ص353.
[8] دروس في العقيدة الاسلامية / الشيخ محمد تقي المصباح اليزدي – ص58.
[9] المصدر السابق – ص430.
[10] الرؤية الفلسفية / الشيخ ماجد الكاظمي - هامش ص74.
[11] المنطق / الشيخ محمد رضا المظفر ت1383هـ – ص120.
[12] شرح منطق المظفر / تقريراً لدروس المرجع الديني السيد كمال الحيدري / الشيخ نجاح النوينّي – ج1 ص401.
[13] الحكمة المتعالية في الاسفار العقلية الاربعة / الشيخ صدر الدين محمد الشيرازي ت1050هـ – ج2 ص393.
[14] اسرار الآيات / صدر الدين محمد بن ابراهيم الشيرازي ت1050هـ / تعليقات حكيم مولى علي نوري - ص23 و24.
[15] الميزان في تفسير القرآن / السيد محمد حسين الطباطبائي - ج19 ص53.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat