لماذا وصل بنا الحال الى هذا المآل ....؟!! إنسانية الإنسان...على ذمّة الوجدان
كريم مرزة الاسدي
من يوم اللص المسكين بن فلان , مخضرم الدولتين الأموية والعباسية , إذْ اكتسى اسمه وكنيته ( الأحيمر بن فلان بن حارث السعدي ت 170هـ / 787 م) , والذي بلاه الإنسانُ بسلطته وجبروته , فابتلى به لتمرده وخروجه , والشرُّ للشرِّ ولود , إقرأ معي بتأمل ٍ وإمعان بلا صدود :
عوى الذئبُ فاستنأنستُ بالذئبِ إذ عوى وصوَتَ إنسانٌ فكــدت ُ أطيرُ
يرى اللهُ إنـّي للأنيـــــس ِلكـــــــــــارهٌ وتبغضهم ْ لي مقلة ٌ و ضميرُ
وإنـّي لأستحيي مــــــــــن الله أنْ أرى أجرّرُ حبلاً ليـــــس فيهِ بعيرُ!
وأنْ أســـأل المـــــــــــرءَ اللئيمَ بعيرَهُ وبعرانُ ربّي في البــلادِ كثيرُ!
لئن طــــالَ ليلي بالعــــــــــراق ِلربّما أتى ليَ ليلٌ بالشــــــآم ِ قصيرُ
أيا نخلاتِ الكـــــــــرمِ لا زالَ رائِحا عليكـُنّ منهلُّ الغمــــام ِمطيرُ
ويا نخلاتِ الكرخ ِما زالَ مـــــــاطرٌ عليكـُنّ مستنَّّ الريـــاح ِ ذرورُ
ونبئتُ أنّ الحيَّ سعـــــداً تخــــــاذلوا حماهُم وهُم لو يعصــبون كثيرُ
أطاعوا لفتيان ِ الصبــــــاح ِلئامهمْ فذوقوا هوانَ الحربِ حيث ُتدورُ
كفى حزناً أنّ الحمـــــارَ بن بحدلٍ عليَّ بأكنـــــــــــافِ الستارِ أميرُ
وأنَّ ابن موسى بائع البقل بالنوى لهُ بين بـــــــابٍ والستار ِ خطيرُ
لماذا نفر هذا الإنسان من أخيه الإنسان , ولجأ الى الذؤبان , ويستحي من الله قاسم الرزق الحلال بالقسط والعدل , أن يجرّ حبله بلا بعير , وبعران ربّي كثير !! ويمرّعلى نخلات الكرم , ونخلات الكرخ , والخير الوفير ,ويأتيه بالأخبار مَن لم يزود , إنّ القوم تخاذلوا , وللئامهم أطاعوا , حتى ذاقوا هوان الحرب ودوائرها , فغدا الحمار أميرا , وبائع البقل خطيرا , عينٌ تغري , وعينٌ تزدري , فما كان في وسعه الا أن يتوجه الى اللصوصية , والتمرد على الإنسان , وقطع الطرق بالقاطع البتار , فعاش منفرداً يائساً , مستأنساً بالوحوش الكاسرة , بعد أنْ فاقها الإنسان وحشة ووحشية , حكمة تفرضها الدنيا على ابنائها , لك أنْ ترضى , ولك أنْ تأبى , والحقيقة واحدة , الإنسان ابن بيئته , فالخبيثُ لا يوّلد الا خبيثا .
ثمّ ماذا ؟ هذا معاصره الشاعر الشهير (دعبل الخزاعي , عاش بين 148 هـ - 246 هـ) , ذكّـّر نفسه بالسيرة الحسنة , والعمل الصالح لتقويم النفس :
هي النفس ما حسنته فمحسنٌ لديها وما قبحته فمقبّحُ
طيّب نفسه , وبشرها , وصبّرها على حمل المكاره :
فيا نفسُ طيبي , ثمّ يا نفسُ أبشري فغيرُ بعيدٍ كلُّ ما هــو آتِ
ولا تجزعي منْ مدّة الجــور,إنـّني أرى قوتي قدْ آذنت بشتاتِ
ولكنه ! أيضاً جاب الدنيا " وحمل خشبته على كتفه خمسين عاما ,يدوّر على من يصلبه عليها , فلم يجد " , وآخيراَ ذهب الى ربّه قائلاً :
ما أكثرَ الناسَ ! لا بلْ ما أقلـّهمُ اللهُ يعلمُ أنـّي لـــــمْ أقلْ فندا
إنـّي لأفتحُ عيني حين أفتحـــها على كثير ٍولكن لا أرى أحدا
وإلى يومنا هذا لا نرى أحدا !! , لم يزدْ أهتمامنا بالإنسان حتى أنملة , ألإنسان هو الإنسان , محط ظلمنا , تحت سياطنا , بين أفواهنا , وإنْ اقتضى الأمر لمّعنا له سيوفنا , لا نرحمه , ولا نترك رحمة الله تنزل عليه , ولا ألزم نفسي بشاهد , إنـّى عشتُ التجربة , فالعصر عصري , وأنا أرى المظالم بأمّ عيني , وصكّ سمعي , بل وأنا القائل في قصيدتي عن الإنسان , أيِّ إنسان على هذه البسيطة المظلمة النيرة! :
أضحى البريءُ لفي جرم ٍ ولا سببٌ والجرمُ يزهو بفخر ٍ وهو عريان ُ
حتى كهلتُ وأيّامــــــــــي تعلـّمني في كلِّ ألفٍ مـــن الآناس إنسانُ
نعم من عصر( جرير ت 114 هـ) و صرخته :
ما زالتِ القتلى تمجُّ دماءها بدجلة َ حتى ماء دجلة َ أشكلُ
وإلى عصرنا حيث أجبته ببيت من قصيدة لي :
ما زالتِ القتلى تمجُّ دماءها وبقى كعهدِكَ - يا جريرُ- المذبحُ
ألم يحن الوقت لنسأل أنفسنا هذا السؤال العابر السبيل إلى رحمة ربه , ونتأمل ؟! لماذا وصل بنا الحال الى هذا المآل ؟ !! وهل كثيرٌ علينا أن نرحم أجيالنا الآتية من الأصلاب الحائرة , والأرحام الطاهرة ؟!
الحلُّ أنْ نعلم علم اليقين , وأن نفهم ونتفهم ببصائرنا اليفظة ,ووجداننا الحي أنّ الإنسان هو الاعلى قيمة في هذه الحياة , وعلى هذا الوجود , ومن دونه دونها , وربما دون الأخير , لئنِّ لا يفقه الوجود الا العاقل الموجود , خلقه الله على أحسن تقويم , وفضله على العالمين , ومن قتلَ نفساَ بغير حقٍّ , فكأنـّما قتل الناس جميعا , قطـْع صلب واحد معناها موت أمة بتمامها وكمالها في عالم الغيب الذي لم يخلق , وما أدراك وما أدراني كيف ستكون , لو كانوا يعقلون ! " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها " (محمد :24 ) , ومن لا يحترم الإنسان ولا يقدره لمجرد أنـّه إنسان بغض النظر عن كل المواصفات الطبيعية والتطبعية ,الخـُلقية والخـَلقية - وفق القيم والنظم الإنسانية العادلة - , يفقد - بمعنى من المعاني - القيم الروحية السامية للإنسانية , بعقلها ووجدانها ورقيها الحضاري , لذلك يجب علينا زراعة حب الإنسان الآخر- من حيث هو كما هو , فالمرءُ حيثما جعله - في نفوسنا , ليس لمجرد اعتبارات أخلاقية , وإنّما يجب أن تكون فلسفة حياتية نجبل أنفسنا عليها , ونسير على هداها , فالإنسان وجهة الإنسان , هو غايته , وهو وسيلته... بعد الله .
وماذا بعد ؟
أمّا بعد !: والشيء بالشيء يذكر , ولئن العبقرية نتاج الإنسانية , أو هي إحدى إفرازاتها النافحة النافعة , والعبقري هو ابن الإنسان ! ولمّا كنـّا على الطريق ,لابدََََّ لنا أنْ نشير إلى أنّنا من أضعف الأمم تمسكاً بعباقرتها , وعظمائها , وأقلـّها تقديرا لهم ,ولجهودهم الجبارة في سبيل أزدهار الحضارة الإنسانية ورقيها , وتطرقت الى هذا الموضوع الحساس في كتابي الموسوم ( للعبقرية أسرارها ...) , وأوردت وجهات نظر عباقرة العرب والعراق المعاصرين في هذا الصدد , ومن الضرورة بمكان أن نستضيف الدكتور أحمد أمين , والأستاذ العقاد ليشاركاننا الرأي , والرأي قبل شجاعة الشجعان !! , يقول دكتورنا الأول " إنّ الأوربيين قد وجدوا من علمائهم مَنْ يشيد بعظمائهم , يستسقي نواحي مجدهم , بل قد دعتهم العصبية أن يتزايدوا في نواحي هذه العظمة , ويعملوا الخيال في تبرير العيب , , وتكميل النقص , تحميساً للنفس ,وإثارة لطلب الكمال , أمّا نحن فقد كان بيننا وبين عظمائنا سدود وحواجز حالت بين شبابنا وجمهورنا والإستفادة منهم " , أمّا أستاذنا العقاد , الجريء بطروحاته , والعميق بتحليلاته , نتركه ليضع النقاط على الحروف , بتجردٍ ولا تردّد " فماذا يساوي إنسانٌ لا يساوي الإنسان العظيم شيئاً لديه , وأيّ معرفة بحق ٍّ من الحقوق يناط بها الرجاء , إذا كان حق ّ العظمة بين الناس غير معروف " .
هذه خواطر عابرة مرّت على بالي , وانا في حوار مباشر على البعد , وكلُّ ما تأتي به النفس جميلا , إذا كان صادقاً وعجولا , أملنا بالله كبير... للشعب الخلود والعطاء , وللعراق المجد والبقاء , ودمتم للإنسان أوفياء , والله من وراء القصد ..شكراً لوجودكم معي !