ليست الحداثة وحدها مشروعا لم ينجزـ فحسب ـ كما نحى هابرماس، بل إنّ الحديث عنها هو نفسه لم يكتمل ولن يكتمل..ذلك لأن الحداثة هي الآني والممكن..هو ذلك الشيء الذي سيحدث لا محالة أو الشيء الذي يفرض نفسه ويفرض من حوله تساؤلاتنا ويستثير فضولنا..هي الحدث الذي لا يشكل عبئا علينا بل ذلك الذي نشعر نحن إزاءه بأننا عبئ يجب أن نبحث عن الطريقة الأمثل للتكيف معه أو النجاة من تحدياته التي لا تنتظر اختياراتنا وقراراتنا..نشعر بالضحالة متى فكّرنا بعناد ضدّ قهره التّاريخاني..هو السؤال الآني باستمرار..حتى حينما نفكّر في التراث فنحن نفعل ذلك لنجيب عن سؤال الحداثة..قد يبدو هناك شيء ما أو أشياء ما تربط بين الحداثي(le moderne) والحدثي(l evenementiel)..لنتحدث عن الحداثة كما يمثّلها الحداثي..والحدثي بوصفه منعطفا في الحداثة أو حدثا في الحداثة..أنحت هذه الثنائية العلائقية نظرا لأنّ لها صلة بالمشكلات الكبرى التي يعانيها حتى اليوم خطاب الحداثة وعلى هامشه تتشظّى كبرى أيديولوجيات الحداثة وما بعدها..ذلك لأنّنا لازلنا لا نتحدث عن الحداثة في سياقها الواقعي..فعلها وردود فعلها..واهتزازاتها..أنوارها وظلماتها..انتصاراتها وإخفاقاتها..عقلانيتها وأساطيرها..باختصار إنّنا نتحدّث عن المفهوم ولا نستحضر الشخص..نتحدث عن الحداثة ولا نتحدث عن الحداثي..والحديث عن الشخص يحيلنا إلى أنثربولوجيا الحداثة نفسها..رموزها ومؤسساتها وعاداتها وأساطيرها..في الخطاب والشعر والجنون والحرب..الحدث الحداثي تناقضي..وهو نظرا لهشاشته يدافع عن مشروعيته بنبذ التقليد والتعصّب لتاريخانيته..فكرة التطور مركزية هنا حتى أنها تجعله غير آبه بالأخلاقي..فالأخلاق هي الأخرى تتطور لأنّ كائن الحداثة عاجز عن أن يكتسب توازنه في سياق متسارع وعقلانية لا ترسوا في اتجاه..وفي كل حقبة تغير الحداثة من توجهاتها وفلسفاتها..ودائما يوجد حدث ما في الحداثة يعطيها دورة في النّقاش المتجدّد، الذي يجعلها تعيد بناء مشروعيتها باستمرار..الحرب العالمية كانت حدثا تغيرت فيه مقولات كثيرة كانت حتى وقت قريب هي المقولات المؤسسة لمشروعية الحداثة..الاستعمار، الانهيار الاقتصادي، الإرهاب..ترتبط الحداثة بالحدث ومن ثمة بالحداثي الذي يرسم مسارات خطابها واهتماماتها..الرأسمالية حدث..والماركسية حدث..والوجودية حدث..والفوضوية حدث..والذرائعية حدث..ودائما هناك الحداثي الذي ترتبط به التحولات..كانط، هيغل، نيتشه، هيدغر..ليس إذن هناك وصف واحد للحداثة..فالأنس بروائعها يتزامن مع الإرتعاب من مقاتلها..في سياق الحداثة تتجند تقنيتها الساحرة لكي تصنع إبادات وحروب عالمية وتجويع ممنهح وممؤسس..كل ما نراه اليوم من انحطاط العدالة يستمدّ قوّته من مؤسسات الحداثة وقوانينها وفلسفاتها..تتعايش في الحداثة أطروحة الخير والشّر..إن الحداثة بما هي فعل إنساني ألهمت تقواها وفجورها..ولذا كان التعايش بين أطروحة الخير وأطروحة الشّر..زيغمونت باومان السوسيولوجي اليهودي من بولندا يمثل نموذجا آخر في كتابه “الحداثة والهولوكوست”..تاريخيا هو لم يدخل في دحض الوثيقة..فالحدث ثابت..غير أنّه دحض التأويل التقليدي للحدث..الهولوكوست هي منتج للحداثة ومؤسساتها..يشمل اليهود وغير اليهود في أوربا..ربما هيتلر لأنه كان مأخوذا بنظريته المثالية في الدفاع عن نقاء المجتمع الألماني وتفوقه..لكن إسرائيل استغلت الحدث وبنت مشروعية وجودها على ذلك..قراءة أخرى، لكن المثير فيها هنا يلتقي بالنظرة نفسها لحنا ارنت..الشر الاعتيادي..الجريمة التي ينفذها مجتمع محكوم بمؤسسات وسياسات..لهذا لم يغير موقف هيدغر من مشاعر حنا أرندت..في العلاقة التي استمرت مع هيدغر..علاقة تفوق في تناقضها/الممكن علاقة اخرى تبدو اعتيادية جدّا أعني علاقة سارتر بسيمون دي بوفوار..ذلك لأنّ هيدغر الجرماني الذي جرّب أن يتعايش مع المؤسسة النازية سيجد نفسه مغرما بأرندت..فهل يا ترى هي المشاعر التي انتهت بتوجيه الفكر، ليصبح الجرم تعبيرا عن شرّ اعتيادي، في حكاية محاكمة إيخمان في أورشليم؟ هل استفادت من مشاعرها تجاه هيدغر لتستقرئ أنّ الأمر له صلة بالاندماج في مؤسسة الشّر؟
هذا يضعنا أمام واقعنا.. نرفض الحداثة لأنّها ارتبطت بالحدث..بالحداثي الذي هو في نهاية المطاف الممثل الواقعي للحداثة..هو مسؤول عن تحولها إلى موضوع فوق بديهي..إلى تعقيد..الاستعمار..الإمبريالية..البنك الدولي..الأمم المتحدة..سياسة التدخّل..الاستغلال...هناك دائما الحدث الذي يجعل التعبير عن التوحش اعتياديا..كما يجعل التوحش برسم الحداثة أيضا اعتياديا..الحديث عن الحداثة لا يكتمل..لأنّه مقرون بالحديث والحداثي والحدثي..مقرون بجدل صعب وبالغ التعقيد..وقد نتساءل ما مصير العقل داخل الحداثة؟ لعلّ الجواب المغري هو أن نجيب بسؤال: ما مصير الحداثة في العقل؟..وهو لا يقل عن سؤال ما مصير العقل في الحداثة؟..من هنا يستمد العقل تعقيده المفهومي قبل أن ينعكس على علاقة الحداثي بالآبي لسلطان الحداثة..الآبي لسلطان الحداثة هو الآخر إمّا هارب في الحداثة نفسها باحث في ممكناتها وإما هارب منها في ما قبلها وليس ما قبلها إلاّ اللاّممكن..في نهاية المطاف: هناك سوء تدبير للعقل والمدينة والتاريخ...سوء تدبير ندفع ثمنه اليوم في تموضع وجود منفصم وأنسنة منشطرة على نفسها..ففي جدل الحداثي والحدثي تتجلّى تراجيديا الحداثة...
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
ليست الحداثة وحدها مشروعا لم ينجزـ فحسب ـ كما نحى هابرماس، بل إنّ الحديث عنها هو نفسه لم يكتمل ولن يكتمل..ذلك لأن الحداثة هي الآني والممكن..هو ذلك الشيء الذي سيحدث لا محالة أو الشيء الذي يفرض نفسه ويفرض من حوله تساؤلاتنا ويستثير فضولنا..هي الحدث الذي لا يشكل عبئا علينا بل ذلك الذي نشعر نحن إزاءه بأننا عبئ يجب أن نبحث عن الطريقة الأمثل للتكيف معه أو النجاة من تحدياته التي لا تنتظر اختياراتنا وقراراتنا..نشعر بالضحالة متى فكّرنا بعناد ضدّ قهره التّاريخاني..هو السؤال الآني باستمرار..حتى حينما نفكّر في التراث فنحن نفعل ذلك لنجيب عن سؤال الحداثة..قد يبدو هناك شيء ما أو أشياء ما تربط بين الحداثي(le moderne) والحدثي(l evenementiel)..لنتحدث عن الحداثة كما يمثّلها الحداثي..والحدثي بوصفه منعطفا في الحداثة أو حدثا في الحداثة..أنحت هذه الثنائية العلائقية نظرا لأنّ لها صلة بالمشكلات الكبرى التي يعانيها حتى اليوم خطاب الحداثة وعلى هامشه تتشظّى كبرى أيديولوجيات الحداثة وما بعدها..ذلك لأنّنا لازلنا لا نتحدث عن الحداثة في سياقها الواقعي..فعلها وردود فعلها..واهتزازاتها..أنوارها وظلماتها..انتصاراتها وإخفاقاتها..عقلانيتها وأساطيرها..باختصار إنّنا نتحدّث عن المفهوم ولا نستحضر الشخص..نتحدث عن الحداثة ولا نتحدث عن الحداثي..والحديث عن الشخص يحيلنا إلى أنثربولوجيا الحداثة نفسها..رموزها ومؤسساتها وعاداتها وأساطيرها..في الخطاب والشعر والجنون والحرب..الحدث الحداثي تناقضي..وهو نظرا لهشاشته يدافع عن مشروعيته بنبذ التقليد والتعصّب لتاريخانيته..فكرة التطور مركزية هنا حتى أنها تجعله غير آبه بالأخلاقي..فالأخلاق هي الأخرى تتطور لأنّ كائن الحداثة عاجز عن أن يكتسب توازنه في سياق متسارع وعقلانية لا ترسوا في اتجاه..وفي كل حقبة تغير الحداثة من توجهاتها وفلسفاتها..ودائما يوجد حدث ما في الحداثة يعطيها دورة في النّقاش المتجدّد، الذي يجعلها تعيد بناء مشروعيتها باستمرار..الحرب العالمية كانت حدثا تغيرت فيه مقولات كثيرة كانت حتى وقت قريب هي المقولات المؤسسة لمشروعية الحداثة..الاستعمار، الانهيار الاقتصادي، الإرهاب..ترتبط الحداثة بالحدث ومن ثمة بالحداثي الذي يرسم مسارات خطابها واهتماماتها..الرأسمالية حدث..والماركسية حدث..والوجودية حدث..والفوضوية حدث..والذرائعية حدث..ودائما هناك الحداثي الذي ترتبط به التحولات..كانط، هيغل، نيتشه، هيدغر..ليس إذن هناك وصف واحد للحداثة..فالأنس بروائعها يتزامن مع الإرتعاب من مقاتلها..في سياق الحداثة تتجند تقنيتها الساحرة لكي تصنع إبادات وحروب عالمية وتجويع ممنهح وممؤسس..كل ما نراه اليوم من انحطاط العدالة يستمدّ قوّته من مؤسسات الحداثة وقوانينها وفلسفاتها..تتعايش في الحداثة أطروحة الخير والشّر..إن الحداثة بما هي فعل إنساني ألهمت تقواها وفجورها..ولذا كان التعايش بين أطروحة الخير وأطروحة الشّر..زيغمونت باومان السوسيولوجي اليهودي من بولندا يمثل نموذجا آخر في كتابه “الحداثة والهولوكوست”..تاريخيا هو لم يدخل في دحض الوثيقة..فالحدث ثابت..غير أنّه دحض التأويل التقليدي للحدث..الهولوكوست هي منتج للحداثة ومؤسساتها..يشمل اليهود وغير اليهود في أوربا..ربما هيتلر لأنه كان مأخوذا بنظريته المثالية في الدفاع عن نقاء المجتمع الألماني وتفوقه..لكن إسرائيل استغلت الحدث وبنت مشروعية وجودها على ذلك..قراءة أخرى، لكن المثير فيها هنا يلتقي بالنظرة نفسها لحنا ارنت..الشر الاعتيادي..الجريمة التي ينفذها مجتمع محكوم بمؤسسات وسياسات..لهذا لم يغير موقف هيدغر من مشاعر حنا أرندت..في العلاقة التي استمرت مع هيدغر..علاقة تفوق في تناقضها/الممكن علاقة اخرى تبدو اعتيادية جدّا أعني علاقة سارتر بسيمون دي بوفوار..ذلك لأنّ هيدغر الجرماني الذي جرّب أن يتعايش مع المؤسسة النازية سيجد نفسه مغرما بأرندت..فهل يا ترى هي المشاعر التي انتهت بتوجيه الفكر، ليصبح الجرم تعبيرا عن شرّ اعتيادي، في حكاية محاكمة إيخمان في أورشليم؟ هل استفادت من مشاعرها تجاه هيدغر لتستقرئ أنّ الأمر له صلة بالاندماج في مؤسسة الشّر؟
هذا يضعنا أمام واقعنا.. نرفض الحداثة لأنّها ارتبطت بالحدث..بالحداثي الذي هو في نهاية المطاف الممثل الواقعي للحداثة..هو مسؤول عن تحولها إلى موضوع فوق بديهي..إلى تعقيد..الاستعمار..الإمبريالية..البنك الدولي..الأمم المتحدة..سياسة التدخّل..الاستغلال...هناك دائما الحدث الذي يجعل التعبير عن التوحش اعتياديا..كما يجعل التوحش برسم الحداثة أيضا اعتياديا..الحديث عن الحداثة لا يكتمل..لأنّه مقرون بالحديث والحداثي والحدثي..مقرون بجدل صعب وبالغ التعقيد..وقد نتساءل ما مصير العقل داخل الحداثة؟ لعلّ الجواب المغري هو أن نجيب بسؤال: ما مصير الحداثة في العقل؟..وهو لا يقل عن سؤال ما مصير العقل في الحداثة؟..من هنا يستمد العقل تعقيده المفهومي قبل أن ينعكس على علاقة الحداثي بالآبي لسلطان الحداثة..الآبي لسلطان الحداثة هو الآخر إمّا هارب في الحداثة نفسها باحث في ممكناتها وإما هارب منها في ما قبلها وليس ما قبلها إلاّ اللاّممكن..في نهاية المطاف: هناك سوء تدبير للعقل والمدينة والتاريخ...سوء تدبير ندفع ثمنه اليوم في تموضع وجود منفصم وأنسنة منشطرة على نفسها..ففي جدل الحداثي والحدثي تتجلّى تراجيديا الحداثة...
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat