صفحة الكاتب : ادريس هاني

أبو يعرب المرزوقي وتدعيش الفلسفة
ادريس هاني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
ماذا يعني أن تكون فيلسوفا على طريقة أبي يعرب المرزوقي؟
هذا سؤال صعب في المجال العربي، حيث اللّغة واللّغو قد يعوّضان نقائض المضمون. فالفلسفة تبدأ من حيث لغتها ومن حيث الاقتصاد في الفكر..يبدو أنّ المرزوقي فضّل أن يسكن في حقبة ما قبل الآكاني من حيث غياب مبدأ الاقتصاد في الاستدلال وما قبل فتجنشتين من حيث الاقتصاد في اللغة..وهي حيلة حجاجية لا تنتمي لأصول البرهان قديمه وحديثه ولكنها تنتمي لقواعد المغالطة ومذهب السفسطائي..خبرتي بنصوص المرزوقي جعلتني أتنبّأ بنتائج ما ترمي إليه أيديولوجياه التيمية (نسبة الى بن تيمية) قبل أن يشرع في صبّ أولى مقدّمات حجاجه..ومثلما قال نيتشه عن شبنهور بأنّ قيمة الفيلسوف عندي هي بمقدار ما يكون قادرا على أن يكون مثالا لي..والمرزوقي فشل في أن يكون مثالا لي لأسباب عديدة، منها أنّه عبد لأيديولوجياه حدّ العناد..في تفكيك سيكولوجيا نصوصه تقف على تطرّف حادّ يجعله يسخّر المنطق والفلسفة والتاريخ والوجود كلّه لتعصّبه الذي يضعنا حقّا أمام مثال لأورتوذكسي منتحل للفلسفة..لا أستطيع أن أؤكّد على تشابهه مع السوفسطائي، لأنّ السوفسطائي متقدّم على المرزوقي برتبتين: الرتبة الأولى كون السفسطائي شخص غير مدين لأي أورثذكسية على الإطلاق، الرتبة الثانية: أنّ السفسطائي شخص مقنع، والإقناع معه يصل إلى السهل الممتنع بل يجري سلسا..ومع أبي يعرب المرزوقي تقف عند تعمّل وتكلّف وتمطيط وتلوّي لغايات حجاجية تنتهك فيها أصول البراهين بخفة ساحر..وكذلك هي رياضة لغوانية متكلفة لا تنتمي من قريب أو بعيد للسهل الممتنع..والكلام هنا عن توصيف أسلوب وعناد المرزوقي مما يطول فيه الكلام..
كيف يكون فيلسوفا من يلهج ليل نهار بمعيارين لم يقس بهما ما لحق فحسب بل يقيس بهما ما سبق أيضا: ابن تيمية في الميتا ـ عقائد، واين خلدون في الميتا ـ تاريخ..ولو عندي من الوقت ما يكفي لتدارك هذه المغالطة المعيارية لأقمت قراءة مقارنة على المستويين: الميتا ـ عقيدة والميتا تاريخ بين ابن تيمية وابن خلدون لنقف عند فوارق تناقضية بين المعيارين في حاق الاعتقاد وفي حاق التأريخ..وإن كان المرزوقي مولعا بموقف ابن تيمية الصارم من الخرافة، لنتذكّر أن ابن خلدون نفسه لاذ بالخرافة في مواقع عديدة أذكر منها من وحي ذاكرتي موردين: مورد يتعلّق بتثبيت حكاية أنّ سعد الخزرجي قتله الجنّ وأنهم رموه بسهم لم يخطئ فؤاده كما رووا عن الأبيات التي تغنّى بها قاتله من الجن، والمورد الثاني حين اختبره تيمورلانك عن بعض مصادره في التحقيق، فذكر التنجيم..وأمّا ابن خلدون فهو خلافا لابن تيمية رجل منطق وأصول فقه وهما معياران في الدليل العقلي والشرعي بل هذا الأخير هو لديه من أشرف العلوم الإسلامية وكلاهما صناعتين بدعيتين عند ابن تيمية..بين ابن خلدون الأشعري وابن تيمية الذي سلك على اعتقادات الحشوية مسافة فلكية من التناقض..ومع ذلك يظهران في بوتقة المرزوقي كما لو كانا توأمين..
أكبر معرة المرزوقي أنّه يبني رأيه حتى في تأمّلاته الأيديولوجية الحادّة في علم الكلام على معيار أورتذكسي..يقرأ في مقالة أخيرة موضوع الاعتزال والخوارج قراءة ساذجة تقوم على قفزات بلا دليل بل على أحكام قيمة كلاسيكية متجاوزة..فلا زال يقرأ مقالات الفرق على أساس معيار فرقة في الإسلام يمنحها سلطة المعيارية باعتبارها غالبة في السياسة كما هي غالبة في المعرفة..الترتيب المعياري من بدايته لا ينتمي إلى الفلسفة باعتبارها تجرد كامل يمتحي ويصدر عن العقل..يفترض المرزوقي مسبقا أنّ قارءه يجب أن يصدر عن موازين مقررة هي موضوع خلاف..والمصادرة على المطلوب تكمن هنا حينما تجري الإحالة على القرآن ، ولكن وفق طريقة في الفسر والأوْل تنتمي للمعيار المقرر..ثم في مرحلة أخرى يقيم المنهاج التيمي معيار مسبقا تقاس به جميع المدارس، ثم يحكم بتماهي التيمية مع الوحي في ذاته مما ينجم عنه تأليه ووحينة الأحكام التيمية بطريقته يمجها علم الكلام بله الفلسفة..إن لهجة المرزوقي في مقالته الأخيرة وكل مقالاته تنتمي للنهج الداعشي لأنه كفّر كل من كفره الدواعش وصحح كل ما صححه الدواعش ومع ذلك مفارقته الأزلية تجعله يعتقد أنه ينتقد الخوارج..أمّا أحكامه التقليدية المتجاوزة هو حين يقول بأن المعتزلة هم خوارج السنة والخوارج هم خوارج الشيعة..علما أن الخوارج اعتبروا لدى كل السنة قديما وحديثا بأنهم خوارج السنة وإن كان الأمر يتعلق بحوادث سياسية في القرن الأوّل فإنّ انتظام الكلام جاء بعد ذلك، وحيث عليّ بن أبي طالب كان هو إمام السنة أيضا بالمعنى العام لا بالمعنى الأرذثكسي..إن المرزوقي سقط في مصيدة رهيبة حينما وصف الخوارج بأنه خوارج الشيعة، لأن تعصبه المذهبي الذي فاق به الدواعش جعله يعتبر علي بن أبي طالب شيعيا مما يجعله في مفارقة لا تخدم منهجه..إذا كان الخوارج خرجوا عن علي، فهذا تأكيد على أنّ إمام الشيعة هو نفسه ممثل السنة النبوية الصحيحة..إذن هذه لا تخدم المرزوقي في نزعته المذهبية..كما أنّ المعتزلة لم يعتزلوا السنة بل اعتزلوا الأيديولوجية الجبرية التي فرضها الحاكم الأموي..وعليه فإن الجهل بطبقات المعتزلة يجعل المرزوقي يسقط في الاختزال..ذلك لأنّ الأشاعرة الذين انبثقوا من الاعتزال ونصيرهم ابن خلدون معيار التفوق الميتا ـ تاريخي، هم مدينون للاعتزال وهم ممثلوا الارتذكسية السنية اليوم فعليا..الجهل بتاريخ الأفكار يجعل المرزوقي لا يميز بين صيرورة المفاهيم، وبالتالي أن السنة في عهد خروج الاعتزال او خروج الخوارج كان على سياسة الحاكم او على فكرة الحاكم، وهو حدث من احداث القرن الهدري الأول بينما السنة كمذهب تأسس في القرن الرابع ولا زال تكتمل أصوله في الفقه والكلام عبر القرون التالية..الكلام هنا يطول، ولكن كان أحرى من فيلسوف أن يتحدّث عن آراء تراثية صالحة للنقاش وهي تنتمي إلى رصيد الفكر الإسلامي من دون الإحالة إلى منشئها الأيديولوجي..انتهى المرزوقي بعد هذه الرياضة بالحكم على الاعتزال والخوارج بالكفر ثم يربطها بالحرب القائمة في العالم العربي لينتهي إلى ما ينتهي إليه دائما من أن النهجين كليهما تتحكم بهما ايران واسرائيل، ليخلص إلى ان العرب والاتراك هما المنبع الصافي للخلافة..فالمعتزلة اليوم ايران وداعش اسرائيل بينما المرزوقي لم يفعل في رياضته الفلسفية هذه إلا ان صرّف الموقف الداعشي نفسه بقوالب فلسفية ظاهرية بينما أبقى على المضمون التكفيري نفسه.. كيف يكون فيلسوفا من يكفّر الأقربين ويختزل مدارس الإسلام الكبرى في أحكام قيمة استوحاها من بن تيمية؟..بالنسبة للمرزوقي ليس ابن سينا ولا الفارابي ولا ابن عربي ولا ولا لهم وزن فلسفي يضاهي ابن تيمية..فابن تيمية نفسه كان ناقضا للمنطقيين مكفّرا للفلاسفة ولكن المرزوقي يحب الانتماء لمن كفّرهم مرجعه الأكبر في التفكير، وهي لعمري من أسفه المفارقات لا يخفف عنها نطّ إتيمولوجي ولا شقاوة القسمة المنطقية ولا طقطقة المعجم الفلسفي الحديث..لا يستطيع أحد أن يدرك شعوري (حالة مغص) وأنا أخط هذه الأحرف كملاحظة على شخص نستطيع أن نتنبّأ بما سيكتب غدا من شدّة تكراره لهذا الجري المذهبي، مع أنّه يدافع عن السّنة في النظر فقط (لا في العمل)..ففي العمل حكاية أخرى...احتفظ المرزوقي بالمضمون ذاته في مقاربة الاعتزال ووضفه في سياق سياسي حضرت فيه المماثلة السطحية والمورفولوجية التي يعززها ذهان بلوغ أحكام القيمة التي هي نتائج الاعتقاد لا نتائج الفلسفة..فالتكفير ليس غاية الفلسفة أو وظيفتها..بجرة قلم سفسطية حمقاء أدان مدارس ومشاريع وأقواما.. أعود مرة أخرى إلى نيتشه، حين يحكي عن الفلسفة كملاذ للفيلسوف الذي عرفه بأنه منتهك الأعراف والأرتذكسيات (خلافا لأسلوب المرزوقي المؤسس للطغيان الفكري)..الفلسفة كملاذ لا يستطيع الطاغية اختراقه..ولكن، أرى أنّنا هنا أمام مفارقة: فإن كان أبو يعرب استطاع اختراق الملاذ الفلسفي بهذه الغريزة البدائية في مقاربة المعرفة والسياسة، فإما أنّه ليس فيلسوفا وإما أنّ ما يمارسه ليس فلسفة..إنّ من يستند إلى الفلسفة لا للتأمّل أو تعميق النظر بل للتكفير والاستئصال هو مثال للتوحّش الفكري وتدعيش الفلسفة بامتياز..بالجملة تضعنا قراءة المرزوقي للمعتزلة والخوارج أمام بهتان فكري مقزّز..أمام بؤس حقيقي في تقريب فقه المدارس المقارنة..أمام مبولة فلسفية طائفية متعفّنة..وفوق هذا وذاك أما تحنطر سياسوي يقوم على جهل بالمقارنة وتجاهل للنشأة التاريخية وجاهلية في تجاوز مقتضى المروءة...عرفت المرزوقي يتمدح بالمقاومة قبل انتصاراتها، فلما انتصرت عاداها وجعلها صنوا لعدوّها التّاريخي..أما ما سبب حقده على الإيرانيين وعلى المقاومة في لبنان الذي أعمى بصيرته الفلسفية وجعله يخرم سننها ونواميسها، فهو أمر شخصي سأترك الحديث عنه لمناسبة أخرى...

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/07/13



كتابة تعليق لموضوع : أبو يعرب المرزوقي وتدعيش الفلسفة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net