صفحة الكاتب : عزيز الحافظ

ريشة... سوق الخضّارة
عزيز الحافظ

 

في سن السابعة عشر كانت العطلة الصيفية تُمثّل له سعادة
غامرة عندما يتوجه صحبة أبيه إلى البصرة لإن اعمامه الثلاثة هناك. لم تكن مخيلته إلا
طاوية للمسافة البعيدة والمسير الشاّق نحو حبه الغامر لهم كل سنة يترقّب فيها مجيء
العطلة بعد نجاحه الدراسي المضمون  كل سنة،
مستبشرا جذلا يتراقص الفرح في مآقيه وهو يمّر بكل  تلافيف وعورة الطريق  وبعد المسافة البريةبين بغداد والبصرة غير آبه
إلا للقائهم بشوق بعد حين وحنين .يعرف أين يجد أعمامه فالصغير يعمل سائقا في موقف
سوق الخضّارة والوسط يعمل في شارع أبو الاسود الدؤلي والاكبر يعمل في بناء الدور
بلامكان... ولانهم يبّكرون بالقدوم للبصرة، يصلونها مع ذروة الظهيرة فيعزف عمّاه
عن إكمال يوم العمل فرحة لاتوصف بلقياهم. يصل دارهم والفرح يحلّق بين جوانحه كنار
ألهب من قيظ تموز البصرة... وأي دار تلك في نهير الليل! لاحدود ولاسقوف إلا سعف
نخيل وكأنه في فينيسيا! حيث يميل الماء للخضرة وصوت البط والدجاج ونقيق الضفادع
ليلا وشموخ النخيل  والفوانيس والاللات
تّنير له ظلمة المكان الموحش بفقرهم  ولكنه
كان يرى في فرحتهم بلقائه ومسّرتهم ،كل انوار الكون وبروجكترات  ملاعب  المانيا واليابان الكروية بديلا  تُنيرُ
حلكة نهير الليل لتُحيله نهارا يُنسيه بعوضا مستديم الرقود والعصف والقصف!!ساعات
وساعات لايعرف كيف يفارق التلفزيون في بغداد وهنا لايعرف إلا المذياع وعلى نضوب
بطاريات تجعل عمّه الأكبر يضرب به الارض عدة مرات ليتكلم! أو يوجهه 100 درجة
بالاستدارات حتى يتمايل المذياع كالسكارى ليلتقط موجة عللها تُسعِدُ الزائر
البغدادي من وحشة قرف هو به جذّل حد الوله!
توجه مع عمه الاصغر لسوق الخضّارة فلاحاجة لوصف السوق  وإكتظاظه وأفعوانية الباعة نساءا ورجالا واطفالا
والصياح المدوّي والنداء الترويجي للبضائع وحركة الحياة التي جعلته وقتها عكاظ
البصرة المنزلي لاالشعري فقد حرص أعمامه على توفير كل الفواكه التي يحبها والتي
لايحبها كجزء ليس من كرمهم  فحسب بل من
توجسهم ان لايعجبه فيهم مايكتمه عنهم في طبعه السكائتي السكوني. كان موقف السيارات
هناك قريبا من السوق تحمل خمسة ركاب لخمس مناطق مختلفة  في البصرة وبأجور يُتفق عليها وهذا لم يراه في
بغداد حين يستقل التكسي واحد فقط. حرص عمه على ان يكون بجانبه في المقعد الامامي
المُتسع للراكبين..أمتلىء المقعد الخلفي بالمتبضعين مع مايحملونه معهم  بقي راكب واحد وهو ينتظر مع عمه قدوم ذاك
الخامس المجهول وسط زحمة وتسارع الزمن لدى سائق آخر ينتظر التقبيطة أي إكتمال عدد
الركاب ليأخذ دوره...وإذا تُقبل  من بين
سواد العباءات السوداء المتعددة اللون الاصفراري...عباءة منوّرة براّقة كالسيسبان
على الطريقة الكويتية تتقمصها أوتُشغلها فتاة في ربيع العمر تنهض خلايا السواقين
وسط موجة الحرّ الشديد الصباحي والتعرّق والتأفف لمدّ الإعناق لهيبة قدومها! كانت
مقدمة شعرها الاحمر الطبيعي لاالمُخادع المصبوغ وإستدارة أقراطها المتدلية كعنقودي
عنب.. تأسر مشاهد العيون مع بياض وجناتها والاحمرار التعرقي من شدة القيظ وثوبها
المطرز في كل جزء مدعاة للتندر اللحظي  وإلتفاف الرقاب وإعوجاج الأعناق وإتساع حدقات
العيون ..فلا زمن للمعاكسات ولازمن للتحرّش ..أكتمل العدد! سألتْ عمي؟ قال أركبي
بعد إبن اخي! جاورته في المقعد الأمامي.. فهرب من جورها وجوارها لحد الالتصاق بعمه
السائق... كان زيه بغداديا صرفا فخيّم الصمت بعد إنطلاق السيارة ولكنها نشرت عبق
حضورها بالإقتراب منه رويدا رويدا مع تمايل السيارة عند الاستدارات المعروفة وهو
في قمة التخوّف  من كتلة نسائية كقنبلة غير
منفلقة جنبه! ثم اعطت له تطمينا غريبا بعدما يأست من إستجابته لهجومها بحصاد
المكان! لتترك ليديها إطلاق عنان العباءة عن نصف جسدها العلوي  بما يجعلها امام نواظره كقطعة كيك شهية  دون جدوى! لازال متسمرا مذهولا مرعوبا من تجربة
قد تقضي على احلامه بعطلة هناء مع احبته! أستدارت له فجأة وقالت باللهجة البصرية
المحببة اللطيفة: خوية! أنته منين؟ وجم! لم يقو على الإجابة! تبسّم عمه فقال لها
وهو منشغل بالطريق إنه  إبن أخي من بغداد!
قالت بغداااااد...أف أف أف  بتآوه غريب جدا
ةحسرة تمزّق حاجز الخوف..... ياريتني في بغداد وأسكن بغداد وتاخذني قسمة زواج
لبغداد! فتغّيرت كل ملامحها وأنقبض ذاك البريق في عينيها كاظما لغيظ كتوم... ثم
ألتفتت للجالس الواجم السجين العواطف! لتقول له ياريتني ياليتني ريشة! وأذهب معك
لبغداد! 
جعلته نسمة وهي الريشة فلم تكبده عناء الطريق.. الذي
رسمت براعتها في خيال خصب لاينساه.. فأنطبعت تلك ريشة سوق الخضّارة في ذهنه ..متجاوزة
لمكان  وصولها السكني لتتمنى من مراهق
مالايعيه.. ريشة في ملابس بغدادي من سوق الخضّارة!
 
 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


عزيز الحافظ
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/07/27



كتابة تعليق لموضوع : ريشة... سوق الخضّارة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net