صفحة الكاتب : عبد الزهره الطالقاني

تجربة الشاعرة آمال إبراهيم في الدخول من الباب الخلفي للنهار
عبد الزهره الطالقاني

من حق القارئ ان يتساءل لماذا تختار شاعرة  مثقفة مثل آمال إبراهيم الدخول الى النهار من بوابته الخلفية.. ترى أهي لعبة ام ماذا؟ 

ربما هي محاولة فلسفية لتغيير نظام الطبيعة افتراضيا ، وتجاهل نظرية تعاقب الليل والنهار .. او لعلها ثورة على الروتين .. فالناس يدخلون الى نهارهم عادة من بوابة الفجر وهي البوابة الامامية ، ولم يحصل ان دخل احد غير آمال غير هذا المدخل ، أم هي محاولة حوارية مع الذات أولا .. ومن ثم مع الاخر .. ؟ وقد تكون جدلية فلسفية تقلب فيها الشاعرة الموازين الفلكية وحركة الارض  ودوران الشمس حولها . الشاعرة امال إبراهيم مثقفة ومترجمة وناشطة مدنية .. وهذا هو ديوانها الأول .. لعل قارئه يشعر بخفة ظله وانسياب موسيقاه ومفرداته الغناء وصوت الشاعرة العذب .
 الديوان ياخذك بعيدا عن التصورات الحقيقية ليضعك بين فكي كماشة الامل والترقب ، حيث تخوض الشاعرة عميقا في مجاهيل النفس الإنسانية وكانها عالمة نفس ، فتخيرك بين شاطئ الليل ، وشاطئ النهار وما بينهما برزخ ، فهو زمن آخر غير منظور مساحة للخلوة مع الذات، أمل ومياه عذبة يتطهر بها الشعراء من دنس الشعر.. 
لاشك ان اعذب الشعر نتلقاه من افواه النساء.. ومهما اختلفت الموازين والقوافي فان لنبرتهن وقع السحر على اذني المتلقي الذي  سيغرق في بحوره عاجلا ام اجلا.
سقوف الحائط
حفر الراس
شرخ القلب القديم
كلها تصلح للهرب
هي متاهات اذن ، تحاول فيها امال اقناعنا بانه يمكن ان نهرب من واقعنا وصعوبات الحياة وجراحاتها .. ولكنها لم تقل الى اين؟ ربما الى مساحات اضيق وأفكار اعمق ووجع اكثر ايلاما لقلب يتضور وجعا لان المجتمع المحيط قد وضع فيه ذلك الوجع.
ففي حكمتها التي تقول "الجياع يفضلون الخبز الأسمر .. الجياع جدا يفضلون المورفين" نجد انها تضع لمساتها على واحدة من اخطر الظواهر الاجتماعية السلبية  الا وهو التشرد وادمان المخدرات والوقوع في فخ الضياع انتقالا الى مرحلة اسوأ من الانحطاط لجمهرة من الأطفال سكنة الشوارع ، والنساء اللواتي يستجدين عطف المارة تحت اشعة الشمس اللاهبة.. إحساس لامتناه بالمعاناة ، الا ان هذه الصورة السوداوية لا تمنعها ان تقول في قصيدتها التي عنونتها بـ(ورقة) :
بكعب الصبر الرفيع
وانوثة صادفتني
انتظر ماتبقى من العشب
هي احدى وريقات العمر ، لابد من اللعب بها قبل ان تلاعبها الرياح ، فما دامت هناك انوثة هناك حب ، حتى وان اشتعل الراس شيبا .. لذلك نجدها تبرر ذلك في القصيدة نفسها عندما تصور لنا ان القلب مازال يغني حتى و هو يقبض على جمرة، و الأوراق تلو الأوراق تتساقط قبل ان يأتي الخريف ، والأطفال تموت ، ورحيق الحياة مازال حلوا الا انه بطعم المرارة..
هذه هي لغة آمال إبراهيم التي يجب ان نفهمها كما وضعتها في قوالب مفرداتها.. فالحب عندها لا ينتهي ، وربما يأتي صدفة حتى وان كان الأولاد يكبرون ، ولابد من الانتباه من الوقوع في الخطأ هذه المرة ، لان الأولاد ليس وحدهم يكبرون ، بل ان أوراقا أخرى بدات تتساقط ، او انها ايلة الى السقوط بعد ان تهب الريح.
ترى هل كانت تلك الصدفة ( كذبة أخرى ) وهذا هو عنوان قصيدتها التي تقول فيها :
الشلل يتنامى وتهدأ الثياب
ترى ماهي الصورة التي تريد ان توصلها لنا ؟ هل هو ظاهر الكلام ام باطنه ؟ اهو الموت المحتوم لشلل بدأ ينمو رغم ان الألوان تزحف وباطن الكف يحتضنه كف الحبيب ، والعين لا ترى سوى انسان واحد حتى وان تعددت الوجوه والاشكال ، لان الجفن تسمر نحو ذلك الوجه .. تاملوا معي هذه الصورة.
باطن القلب يحدث صريرا ولا يفتح للمذعورين
لماذا نقف هنا حيث تناثر الباقون
اخر قواي .. ويخبو النهار
انا وذهولي وصورتك نحلق بلا ضجيج
لعله حلم يراودنا جميعا ، او انه شيطان الشعر النسائي يكاد يتلبسنا ويكون اكثر خطورة ، لانه يتنهد ولايبوح ، ويتوجع ويكابر .. ويبحث عن السكينة وسط ضجيج الحياة..
الحقيقة صور امال الشعرية تتوالى وتكاد تُغشي قارئها , فهناك دائما بين اللذة والعذوبة الم ينساب الى أعماق النفس ليبطل سحر الحب .. لقد وضعت الشاعرة تصوراتنا وهمومنا وخلجاتنا بين غلافين ضما ستين ورقة ، لعلها معدل عمر العراقيين دون ان تخطط لذلك ، في كل ورقة وجهان هما وجها الحياة .
 فقد كثفت المعاني في ديوان من القطع الصغيرة لتحدثنا عن نباتات الرأس الزاحفة ، وزغاريد مبهمة ، واساورها ، والليل وعيد ما ، وسيدة الخلاني ، وعدوى الحالة ( 43 ) ، وغيبوبة ، وتلصص ، وهدف متحرك ، وامنية الفريسة ، ومستقيم خرف ، ومجسمة ، والمصاب بادهاش الجميع ، وتآمر ، والباب الخلفي للنهار ، وهو عنوان ديوانها وقصيدتها الأخيرة التي اسمتها "بقاء" في محاولة للاستمرار والمضي رغم كل مافي الطريق من وعورات وتجعدات وخوار قوى.
ان قصائد الشاعرة بوابات لدهاليز فيها مجاهيل  واوهام موجودة في حفر الراس ، عليك حين ترغب ان تصل الى مكنونها ان تلج من شق الحائط ، او شرخ القلب الكبير ، او انك تترك كل هذه  الطلاسم وتهرب بجلدك . فالعائلة سجن والاشباح التي تجوب المدينة في الظلام لا ننتمي لها ، وقضبان السجن تنبت في الراس :
) تنبت بين شعري بيضاء من الحكمة)
هذه الصورة وغيرها هي عودة لتساقط الأوراق ، فالجياع مازالوا يفضلون الخبز الأسمر الخالي من الدسم ، او على حد تعبيرها ( كامل القشر والاتربة ) ، المورفين هو الخلاص من كل هذا ، لذلك يفضله الجياع .. فهي ليست مسألة جوع اذن بل ملهاة وحرمان ابدي وقصر ايدي وتسكع في عشوائيات لها اول وليس لها اخر.. انها ابنة مجتمعها .. سواء عليك ان تبيع الخبز ام المورفين ، كلاهما يؤدي الى استمرار الحياة بطريقة ما.
واذا ماعدنا مجددا الى الشعر النسائي فانه يبدومبطنا باغلفة سميكة ، حيث يحاولن من خلاله ان يبحن باسرارهن على شكل قطرات تنزل من كوز عليك التقاطها قطرة بعد قطرة ، ثم تجميعها وتنظر اليها وحتى لو فعلت هذا فانك لاتصل الى شيء .. لذلك علينا دائما الإبحار الى عالمهن الساحر الذي لايستطعن ان يخفينه الى الابد بطبيعتهن كنساء بواحات ، بل اغرائهن بالشعر حتى يقلن مايختزن في حفر الراس العميقة ، الا تجد ان هذا الكلام فيه شيء من المعقولية اذا سمعت الشاعرة وهي تقول :
يضيق الراس ويلتصق السؤال الذي
لا يؤكل ولايموت
يزحف فيّ الشيب ليلا
ليدفع بعناقيد سكر خال من الاتربة 
خارج الذهول والمدينة ..
 فالاسئلة عادة تأكلها الأسئلة ، وكثير من الأسئلة تموت دون ان نحصل على إجابة.. لم الموت ؟.. لم الحياة؟ .. لم هذه السرعة في تساقط الأوراق ، ولم لهذا الأبيض الذي اسمته مرة بالحكمة ، يصر على الزحف نحو الراس وسواد الليل . فالمدينة مازال يملؤها الذهول ، ولهذا فان الصخب لايساعد على نمو جنين الفكر معافى ، وعلينا الهرب من المدينة لنضع بيضات افكارنا في عـش آمن لتفقس عن أحلام وآمال .. وربما لاشيء،  فكثير من البيض يقذفه الطائر خارج عشه.
لغة امال إبراهيم وذوبانها في الاخر ، وهو المجتمع ، ابعدها عن نرجسية غالبا ما غرق فيها الشعراء ، فحتى مضامين قصائدها ، وليس عناوينها وحسب ، تقول ان الشاعرة لمست بشغاف قلبها انين المجتمع ، ربما لم تذكر اسم بلدها الا ان موسيقا اسمه لم تفارق اذنيها .. فالوطن بيت و الوطن ارض و الوطن نخلة الجيران ، لان لا نخلة في بيتنا وسط ازدحام الشبابيك والابواب.
قرائتي لديوان امال إبراهيم بتهجد يدفعني لتعقيد المشهد على القارئ وليس تبسيطه لعله يشاركني الحيرة في المعنى الذي تبغيه في قصيدتها التي اسمتها "زغاريد مبهجة" وتقول فيها:
حلقة صلدة وافرة الطلاء
نثرت على اصابعنا التهاني
رسمت لنا 
بيتا سعيدا .. وطفلين حيث تنبت الاجنة
ساقية تلو الأخرى
امام عيني الثور المسكين
ترى أي ثور دخل قصائد الشاعرة عنوة .. أهو الزمن ام الغنى القادم الذي تعيقه السواقي اللواتي لم يعدن سواقي بسبب انقطاع الماء عنها وجفافها ، بل هي اخاديد في الارض والراس تمتد كلما مضينا الى مشوار جديد.
وفي قصيدتها التي اسمتها (اساوري والليل) وهو عنوان جميل يصلح لديوان جديد ربما بدأت الشاعرة بنظم لائلئه اوانها ستفعل ذلك في المستقبل.. اقراوا معي عن قرب هذه الخلجات :
اساوري تضع اوزارها
تراكم على كفي دوائر مفرغة
للآن ما التأمت اجنحتي 
كم من السنين في هذا الليل
وتقاويم تعتنق الخلود..
ليل العاشق طويل ، وليل الشاعر قصير لانه سرعان ما يحترق بالقصائد ودخان السكائر .. يقول امرؤ القيس :
وليل كموج البحر أرخى سُدُولَهُ            عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي
فُقلتُ له لمّا تمطَّى بصُلْبه                 وأردف أعجازاً وناءَ بَكْلكَل
ألا أيُّها الليلُ الطويلُ ألاَ انجلي        بصُبْح وما الإصباحُ منكَ بأَمْثَل
ليل العشاق والفقراء لا يقاس بالثواني والدقائق والساعات ، فهذه مقاييس عفا عليها الزمن ، بل ان الليل سنين طوال علينا الانتظار حتى ينبلج فجر المحبة  فالاساور قيود واسوار ، وهذه الحلقات تتراكم على كف سجين الليل فلا تستطيع اجنحته التي لم تلتئم بعد بنقله الى شاطئ النهار او قارعة الطريق .. 
الديوان يغري بالمزيد من التأمل والتبحر والبحث في لب المفردات عن بذور هي الأجوبة للاسئلة الحائرة .. واذا ما استمرينا بهذه اللعبة سنضيع في متاهات الشاعرة واخاديدها ، وشقوق جدران ديوانها ، فقصائدها  تغنى وتجرنا نحو الاعمق.
لذلك لابد من العبور هرولة الى قصيدتها ما قبل الأخيرة والتي اختارت عنوانها ، عنوانا لديوانها واختم  ، تمتعوا معي بهذا الليل الجارف من الكلم الطيب:
ان تكون هدفا متحركا ، خارج اللعبة
خارج المعركة ، الها اعزل
ان يكون الهواء ملغما بتفتيش راسك.. سريرك
ساحة وقوف امنياتك..
ان تستدرج حركاتك غضبا غامضا وريبة رعناء ..
ان تتصيد لجوربك عمى صغيرا ، بحجم ضياء قدميك
ان تودع صوتك الدولاب القديم في الغرفة المجاورة
 بكل غنائه .. كركراته.. العابه المملة..
تابعوا معي كيف تقتنص الشاعرة الصور تلو الصور ، ولاحظوا كيف تشركنا جميعا وتدعونا الى ان ندخل معها من البوابه الخلفية للنهار لتكتمل اللعبة ، دعوها تكمل :
ان تخفي وجهك في مقدس ما
ان يكون فمك الصندوق الاسود
وهو يطبق على ركام الثورات 
لعلها تقول مثلما قال شاعرنا الكبير عبد الوهاب البياتي رحمه الله في ديوانه (سارق النار) 
"ثورات الفقراء يسرقها دائما لصوص الثورات" فهناك في كل زمان ومكان لصوص ثورات .
وانتقل بكم الى المقطع الأخير من قصيدتها لنغادر هذا التية.. تقول آمال:
هو الباب الخلفي للنهار
تكرره الزغاريد
غفلة تلو أخرى
لتمحو عن الجدار نوافذه المغردة..
ابعد هذا السحر سحر ..اني اعوذ بالله من كل ساحر ومن كل شاعر يوقد النار في قلوب قرائه ثم لا يطفئها..
انها صناعة الشعر .. صناعة شاقة لمن لا يمتلك ادواتها وآلاتها ومفرداتها ومدلولاتها وموازينها وقوانينها وايقونات افكارها ، فالقصيدة لا تنمو في عشب بل وسط حقل زهر وتتلون مع الوان ازهاره ،  فمرة تكون حمراء كالدم  ، ومرة صفراء كالغيرة وثالثة بيضاء كالشيب.. الا انها كلها زهور نظرة عطرة ساحرة تسر الناظرين.
نحن امام شاعرة ليست سهلة .. ولاتضع مراكبها في أي مرسى من بحور الشعر بل تتنقل بها من شاطئ الى شاطئ ..... المتلقي يهرول وراءها عله يفوز بقطوف ، هي في الحقيقة ليست دانية . انه شعر نسائي بهيج.
القاهرة

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


عبد الزهره الطالقاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/01/14



كتابة تعليق لموضوع : تجربة الشاعرة آمال إبراهيم في الدخول من الباب الخلفي للنهار
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net