رسالة إلى نظرائنا الأمريكان
محمد الحمّار
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
محمد الحمّار

كان ممثل وزارة الخارجية الأمريكية بصدد الإجابة عن تساؤلات بعض المتدخلين في الندوة الدولية حول الديمقراطية (تونس 24-25 جوان/حزيران 2011) وكنتُ أشعر بالخجل وأنا أسمعُه يتحدث عن "خطوط حمراء" للديمقراطية في تونس كما تراها واشنطن. ازداد خجلي حتى لامَسَ الخط الأحمر للذل عندما راح المسؤول يملي الخطوط الحمراء إملاءً على الحاضرين: حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدل والمساواة، وما إلى ذلك.
لكن الحمد لله الذي هداني إلى رؤيةٍ ما، حدْسية لا محالة، إلا أنها تحتمل كثيرا من الصواب: إذا أضحى الأمريكان، وما أدراك ما الأمريكان، يملون بمباشراتية صاعقة وبقليل من الديبلوماسية على ذلك النحو، ذلك لأنهم قد اقتربوا من النهاية. والنهاية في موضوع القيم الحداثية المُملاة تعني افتقاد هذه القيم لكل دلالاتها عند العقل الأمريكي، وحاجتها المُلحة لضخ دماءَ جديدة فيها.
خرج الحاضرون وخرجت معهم لتناول القهوة في فترة الاستراحة. وكنتُ أترصد مسؤول الخارجية في الصالة الداخلية لكي أقدم له نفسي كباحث مستقل في الفكر الإسلامي وكمستمع للنقاش لم تعجبه المقاربات المعتمدة أثناء الندوة. فكان لي ما أردتُ. بل وكان لي أكثر مما أردتُ، بما أنّ الديبلوماسي الشاب ألحّ عليّ أن أقبل مقابلته بعد يومين في موعدٍ سيحدده لي في الإبّان. وقبلت.
لكن هيهات، كان هو التونسي وكنتُ أنا الأمريكي: لم يُهاتفني ولم يتصل بي عبر الايميل كما كان يعتزم أن يفعل. لكني لم أُصَب بخيبة أمل كما لَو كان الطرف الآخر ابن بلدي أو من بني جلدتي. بالعكس كانت مناسبة تأكدتُ فيها من الانقلاب المفاهيمي، الحاصل في الثقافة الأمريكية، و الذي استشفيتُه أثناء مداخلة المسؤول حول "الخطوط الحمراء" قبل يومين.
مع ذلك كان يسكنني نوع من الحرمان لن يتقلص إلا إذا قلتُ للديبلوماسي الأمريكي ما كان بودي أن أقوله له لو التقينا:
" سيدي الديبلوماسي، لاحظتُ قدرتك الفائقة، ككل الأمريكان الذين نراهم في الأفلام، على قراءة أفكار الآخرين وعلى سرعة البديهة فهمًا وإجابةً وتفاعلاً. لقد تتبعتُ مداخلتك بشيء من المهارة التي ورّثني إياها تعليمي الانكلوساكسوني. وفهمتُ ما أنتم، معشر الأمريكان، تُريدون تبليغه إلى نخب تونس وشعبها. وكم كان بودّي لو استوقفتك عند إملائك للقائمة الحمراء، وصححتُ لك بعض المنهجية.
أولا، لقد أصبحنا متفوقين عليكم مُنذ أن ارتقينا إلى مرتبة الثوار، إذن لا طائل من وراء اعتبار الديمقراطية مسألة "إرهاب" هي الأخرى، وإلاّ فما الذي ترتابون منه؟ أأنتم متوجسون خيفة من أن نعوّضكم في تكليم بقية العالم، ومن أن نصدّر إليه مفاهيم غير تلك المألوفة لديكم؟
ثانيا، إنّ ارتقاءنا قد رفعنا فعلا إلى مكانة المُصدّر لقيم ثورية، ولأخرى مُثوَّرة قد تتجاوز فعلا "الخطوط الحمراء" التي ذكرتَها، وبالتالي قد لا تُرضي الأجندة التي جئت بها إلينا.
ثالثا، إنّ ما أسميتها حضرتك "خطوطا حمراء" كانت مرسومة بطبيعتها. لكنها مرسومة في ثقافة أمريكا وفي ثقافة أوروبا وفي ثقافة بقية العالم الذي لم يثُر مثلما فعلنا نحن. لذا لك الحق في الحديث عنها شريطة أن يكون حديثك اعترافا بالاحمرار داخل حدود اللاثورة فحسب.
رابعا، إنّ هذا الفضاء الذي أتكلم منه الآن أرحب مما أنتم مُتوقعون في أمريكا وفي سائر أنحاء العالم. وهو الفضاء الذي يسمح لنا الآن أن نتجاوز الأحمر ونتوجه نحو أخضر جديد.
خامسا، إنّ الفضاء الثوري الذي نتنفس فيه الآن يخوّل لنا أن نضيف الزائد على ما أنتم متبجحون به: عندكم "حقوق الإنسان" وعندنا "حقوق الإنسان2"؛ عندكم "حقوق المرأة" وعندنا "حقوق المرأة2"؛ عندكم "الشرعية الدولية" وعندنا "الشرعية الدولية2"؛ عندكم "النظام العالمي الجديد" وعندنا "النظام العالمي الجديد2".
عزيزي ونظيري وشريكي، أكتفي بهذا القدر من الخطوط التي كانت بالأمس، قبل ثورة 14 جانفي، حمراء فاخضرّت. وندائي إليك وإلى كل نظرائنا من شعب أمريكا الذكيّ، أن تصغوا إلينا مثلما أصغينا إليكم منذ كنا في المهد صبيانا وصبايا، وأن تفسحوا لنا المجال بأن ندلكم على تجارة رابحة: تجارة التمرّد العلمي على كل خط يقدم نفسه إليكم على أنه أحمر، بينما هو خط انتقال؛ الانتقال إلى حضارة الحداثة2."
باحث في استراتيجيات التغيير
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat