ليس الربيع العربي مجرد حدث عابر في المنطقة، بل هو حدث سيترك آثاره لأجيال أخرى..إنه حدث سيدمغ العقل العربي بالكثير من سيماته الغامضة..ومنها غموض الإسم نفسه: الربيع العربي..واضع هذا الإسم حتما يجهل الجغرافيا اللسانية العربية..ليته سمّاه إسما آخر غير الربيع الذي هو أيقونة الثورات الملتبسة في العالم..ثورات مبرمجة بينما الباقي فيها كلّهم كومبارس يباع ويشترى وقابل للاستعمال والإثارة..القطيع لا يصنع التاريخ، بل به يثار التاريخ..لنقل هو ربيع الأعراب، لأنّه جلب من ثقافته كلّ هذا العناد على محق الحقيقة..كان الربيع الأعرابي أيقونة الحدث العربي خلال الخمس سنوات الماضية..تساقطت خلاله نظم كأوراق الخريف..بينما نشأ خطاب من داخل أروقة الرجعية يمجّد في الديمقراطية في مديح مغالط يقتبس من شعر بن أبي سلمى وامرئ القيس..أروقة استنبتت داخل المتاهة الجاهلية الأعرابية ولوياثان سليل بني شيبة سرّاق الله والإنسان..ولكن المخطط أكبر من ذلك بكثير..ربيع بدأ بأكاذيب مخملية وانتهى بالذبح والخراب.. لنذكّر بأنّ 883.7 مليار دولار هو حجم خسائر ربيع الأعراب..فضلا عن 1.34 مليون قتيل وجريح..فضلا عن 461 مليار دولار حجم الخسار في البنية التحتية..بالإضافة إلى 35 مليار دور حجم الخسائر في أسوق الأسهم والاستثمارات.. حسل تقرير المنتدى الاستراتيجي العربي...على الرغم من أنّ ما لم يرصد أكثر..ربيع الأعراب هو إفلاس كبير..لنضف إلى ذلك حجم الأمراض النفسية التي جلبها للمنطقة..أيضا أمراض المنطق لأنّ جيلا كاملا أصبح عاجزا عن فهم منطق الأشياء كا هي وارتد إلى العصر الهلنستي..بالإضافة إلى تخريب النسيج الاجتماعي في المجتمعات العربية التي كادت تتحول إلى مزرعة حيوانات طائفية تفيق كل صباح على نباح طائفي أو زئير مذهبي أو ثغاء قبلي أو نهيق على إيقاع أوركيسترا مستر همفر وأولاده..
إحدى أخطر الخسائر التي جلبها ربيع الأعراب هو انفجار العقل العربي وجلب الفوضى لأصول التفكير، مما يعني أن العقل العربي ـ لو صحّ هذا الوصف ـ بات أمام لحظة إعادة تشكيل لأصوله وعناصره على أساس الفوضى..أصبح عقلا قابلا للزيف أكثر مما مضى..بل الزيف دخل كمكوّن أساسي في صلب تكوينه الجديد..يتجلّى هذا الانهيار في إبيستيمولوجيا الثورة وأيديولوجياها..فلقد بدأ شكل من التنظير للثورة من داخل قوالب ومقالب مثقفي الكنيسيت الإسرائيلي سابقا وفلاسفة ثورة الأعراب لاحقا، شكل من التنظير همّه الأكبر إخضاع العقل العربي للنّذالة الفكرية..وقامت على هامش هذا المخطط مؤسسات ومعاهد تتكامل مع تلك التي في أقصى الغرب من باب سياسة القرب لمزيد من الهيمنة على العقل العربي بعد ان أدركوا متأخرين أنّ السلطة الثقافية هي التي تؤمن السلطة السياسية..الهيمنة على الإبيستمي العربي كمقدّمة للهيمنة على عقله السياسي وبالتالي الإخضاع المطلق..هذه المقاربة الجديدة هي جزء من دفتر التحمّلات المفروضة من القطب الغربي الكبير على البيداء العربية القاحلة..ترشيد الإنفاق على الثقافة بما يخدم سياسة الإخضاع..فلا يمكن ان تقوم ثورة ملتبسة من دون هيمنة على المفاهيم واحتلال الثقافة..تسعى القبائل النفطية اليوم إلى تعزيز ترسانتها الثقافية وتكريس محطات ضخمة لضخّ الإلتباس الثقافي وصناعة نخب مستفرغة من العمق الفكري والضمير المهني للباحث..تعزيز وباء السمسرة الثقافية وتحطيم آخر مكتسبات عهد المثقف الحرّ صانع الأفكار والمنخرط في حركة الوعي والتنوير..المال ومراكز الأبحاث المشبوهة التي تريد أن تلعب دور الاحتلال الثقافي بالوكالة..وفي خطابها تصنع المفاهيم البديلة التي تسهّل عملية الإخضاع الناعم والقبول بالأنماط من دون مساءلة..ربيع الأعراب عزز من ثقافة الثورة الفارغة ثم سرعان ما أعقبها بثقافة اليأس من كل خيار تصحيحي للثورات نفسها..فهزيمة مخطّطات الرجعية تعتبر خيبة أمل من نجاح الربيع العربي وليس انهيارا لمشروع تآمري استعمل فيه الجميع كدارقة للهيمنة الإمبريالية على ما تبقّى من حقول النفط..أمام هذا الانهيار شعرت الرجعية بأنها خسرت الكثير لأنها كانت في الواجهة بينما أرباب المخطط يتهيّؤون لخطط جديدة برسم آسيا الكبرى..المخطط الكبير يعزز الفوضى..وبنو شيبة يحسبون أن بهلوانيتهم داخل هذه الفوضى سيكون لها مردود استراتيجي..بينما الغاية هي استنزاف المنطقة والقوى الحية في المنطقة ليؤمّنوا للكبير ممرّا آمنا لإكمال إرساء قواعد استثماره الأكبر خارج الشرق الأوسط..كانت البؤرة الشرق أوسطية هدفها أن تكون الحديقة الخلفية لتنامي وحوش مستوحشة تقوم ببروفة فوضوية في المنطقة وخلق حالة إلهاء عارمة ليتحولوا إلى حيث النفوذ الروسي في آسيا وليلعبوا مسرحة الاستخلاف..الجغرافيا الداعشية والبوكوحرامية سترسم على تخوم روسيا والصين وهو سبب جيوستراتيجي كافي لتفسير جدّية الوثبة الروسية التي تدافع عن أمنها القومي من داخل سوريا..إنّ الحرب الاستباقية التي تشنها روسيا على مخطط يستهدف أوراسيا هي حرب مفصلية في توازنات القوى في المنطقة الأوراسية غا وفي العالم بالتبع..أين الأعراب وربيعهم الأحمق من كلّ هذا السيناريوا الأوراسي؟
ربيع الأعراب أشعرنا بالصغار..والحقارة..لأنّهم احتلوا مفاهيمنا..وسخروا حتى من عقلنا الثوري..لقد أصبح المستقبل العربي رهينة سياسية وثقافية وروحية لمحاور لا تملك من رصيد سوى ذلك الرّصيد من قتل الإنسان واستغلال الشعوب وتخريب الدّول..ربيع استغفل الشّباب وسخرهم برسم الثورة وما هي كذلك..حتى يجعلهم يائسون من التغيير..فهب أنّ المشروع فشل في سوريا كما يقولون فما بال تونس التي تجنح إلى الخراب بينما لا شيء جديد غير ديمقراطية صناديق الاقتراع..أو ليبيا التي تنام فوق بركان..بينما النموذج الأوردوغاني لهذا الربيع الأعرابي في حالة احتضار..إنّ الغرب أعلن نفسه صديقا لربيع الأعراب..والرجعية أعلنت نفسها صديقة له أيضا..فما الذي حال بين أن يملك إنسان ربيع الأعراب أن يظهر موقفه من الحق الفلسطيني خارج لعبة التمسرح لأنّهم يخشون من إحراجات الممانعة..ربيع الأعراب هو ثورة على الممانعة اتخذت لها في بروفتها المضللة الأولى ثورة على النظم برسم التحرر..التحرر الذي استعدى منذ البداية التحرر الوطني ومقاومة الاحتلال..وهذا طبيعي لأنّ تكوين ثورات الربيع الأعرابي يحتوي عناصر تنتمي إلى سياسة الإخضاع..والمنظرون هم من مراكز التفكير التي يهيمن عليها ما لم يعد يخفى على أحد..إنّه يؤسفني أنّ أحد الثوار الليبيين إن صح هذا الوصف قال لي يوما وأنا أتحدّث عن برنار هنري ليفي، قال: ما به برنار هنري ليفي..هو صديقنا ويدعمنا..سكتّ لأنّ الجلسة كانت تحتوي على أطياف من الحكومة المنشقة..ولكن أشعرني بالغربة..والحصر البنيوي للربيع الأعرابي..الذي يكاد يبدو فيه التعبير عن المقاومة كما لو كان رجسا من عمل الشيطان..تحمّلنا كثيرا هذا المسخ الثوروري..ولكن آن الأوان لقول الحقيقة كلّها: أنّ ربيعكم هذا هو فصل خامس لا تعرفه كل الفصول..وأنّ ما هية الثورة العربية إمّا أن تحتلّ بنيتها فلسطين أو لاتكون..تلك هي الضامن الاستراتيجي لربيع عربي يقطع مع كل هذا الخداع
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat