للإصلاح الدّيني حكاية أخرى
ادريس هاني
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
ادريس هاني

وحينما جهل أمثال شحرور والقيمني التأويل وضاعوا في سراديب التقوّلات ولم يجدوا من ينبري لتسطيحهم من أهل الروية والنظر، ظنّوا أنّهم جاؤوا بفتح علمي كبير، بينما لم يأتوا إلاّ ببهتان عظيم، ولم نقف إلاّ على عثارات في درب المعرفة والعرفان، كان يفترض أن يقضمها ذراري هذا الدين قضما، ووجدونا منهمكين في ردّ توحّش المتطرفين لكي يستمروا في عجرهم وبجرهم الذي يمتع من لم يكتمل ذوقهم العرفاني والفلسفي ولم يقفوا على شيء من دفائن العقول ولا مكنون النقول..وما كنّا لنفهم الدين على أنّه قهر وحياني عمودي لأن هذا مستحيل استحالة احتواء الكبير في الصغير..وإنما مفاد كون الناس خوطبوا حسب عقولهم أنّ مقتضى التنزيل يقتضي التأويل..والتأويل حركة أفقية ليست عمودية كالتنزيل..وشاء القدير أنّ يجعل بين الناس رسولا هو المتلقي الأوّل للتنزيل ثم تأتي الحركة الثانية أفقية حيث التبليغ يتحقق أفقيا لا عموديا..لهذا استشكل القرآن أن ينزل عليهم ملكا أو قرطاسا مباشرة بل أنزله على مراحل ومستويات، وعنده أمّ الكتاب.جدلية المرسل والرسول والرسالة تؤكّد على أنّ المخاطب أنزل وحيه بالصورة التي تجعله أفقية لا عمودية..رسالة من مرسل إلى رسول ثم تنكعس على متلقي يقطفها دانية..فتنزّل الكتاب بصيغة المبالغة غير نزوله..فهو ينزل على الإنسان الكامل نزولا سمحا ويتنزّل على الإنسان غير الراشد تنزّلا في وعورة..وفي القرآن هناك تنزل ونزول ساعة يراعى في المعنى وجود الرسول(ص) بين القوم فيأخذ الكلام هاهنا تغليبا وأحيانا يميز بينهما. فعملية التنزيل تقتضي مراحل وتنجيم ونزول عمودي يعقبه تحرك أفقي..فأمّ الكتاب ليست من لغة القوم، فالتنزّل يقتضي ترجمة المعنى إلى لغة القوم ثم استكمال متلقي منهم ليتحقق شرط التواصل، فالتنزيل هو بمعنى من المعاني تدبير العملية التواصلية من الأعلى إلى الأدنى ضمن مسارات متعرّجة تأخذ بعين الاعتبار المتلقّي في حدّه العقلي الأدنى..وهذا ما يعني أن كلّ من تعامل مع الدين عموديا يكون قد تجاوز سنّة التواصل الوحياني وقفز مراحل حيث المسير من الخلق إلا الحق يبدأ أفقيا لا عموديا، ولا يتحقق ذلك إلا بعد اقتدار ومران بحيث يصبح المتلقي متجاوزا لمرحلة الأفقية في التلقي ليستقل في التهام الحقائق بطيّ في مسافات البرهان إلى حدّ الحضوري.. ولذلك طريق آخر وذوق آخر يدركه السالكون على مستوياتهم في الاقتدار والتلقي..إنّ محاولة إدانة التعاليم باعتبارها هي سبب هذا الانحراف دعوى غير موضوعية ولا منطقية لأنّ الانحراف حاصل في عالم الانحطاط بكل مستوياته المتداينة أو المتدانية..لأنّ لا هذه ولا تلك إذا صبّت على نفس آبية للمعقول ومعاندة ضدّ المعلوم هاربة من المأنوس، فإنها ستنتج الفظاعات ذاته تارة باسم الدّين وتارة باسم اللاّدين...وإنّ كانت المقابلة خاطئة منذ البدء حيث لا يوجد دين وعدمه بل ليس ثمة إلاّ دين ضدّ الدين بتعبير القرآن نفسه:(لكم دينكم ولي دين) ـ وهو عنوان أحد كتب شريعتي ـ أو دين الخروج من الدّين بتعبير غوشيه..وأتحمّل المسؤولية أمام ضميري وأمام الله أنّ لا القاسم حاج حمد ولا قفزات شحرور ولا قزقزات القمني ولا طقطقات إسلامية المعرفة استطاعت أن تشفي جرح هذا الانسداد العظيم في فهم الإسلام أو إحداث الثورة المعرفة من خلال تفجير تعاليمه مما زاد العقل الإسلامي سباتا على موروث لا نفعل فيه سوى أن نعيد إخراجه وتوزيعه بحشو فكروي لا إبداع فيه يلفت أهل النبوغ، وما عاد الفاصل ثوري بين خطاب الإصلاح وخطاب إدارة التوحّش واضحا وحاسما، ثم سرعان ما تعلّق الكسالى بالأطر الفارغة فافتعلوا خطاب إحياء المقاصد كما لو كنّا ونكون أو سنكون من دون مقاصد..ليتّضح بعد ذلك أنّ المقاصد هي الأخرى لما جعل له وتعكس مدارك من لوّح بها في شكل من الأدلجة المقينة للخطاب الدّيني المستباح في جنون مطارحات أشبه ما تكون ببرامج الأحزاب السياسية المتشابهة قلوب أهلها لا تنتج سوى المسير القهقرى..وحين أحكمت الأقفال حول هذا الدين وتجمّد الابتكار وعميت القلوب وتاهت العقول انبرى لتدبير المعنى في هذا الدين صنوف من البشر أشبه ما يكون الأمر بتجار الحروب والأزمات..عالم أقعدته العبودية والطمع والتملّق لكي لا يقول في هذا الديّن إلاذ ما يرضي المافيا السياسية، أو جاهل متحاذق يظنّ أنّ تجديد الخطاب الدّيني لعبة وليست شعبة أو غاضب تعكّر مزاجه من فرط ما عاش ورأى حتى اهتزت لديه موازين العدل والموازنة فلم يعد يرى في هذا الدين إلاّ ما يرى..وآخرون أردوا الدّين ولكن توهّموا فيه أمورا وابتدعوا فيه ما لايصحّ وحجبوا بعجرهم وبجرهم ما يصحّ حتى غدا دينا مناهضا للدين..وهكذا تواطأ الجهل النظري والعملي ضدّ هذا الدّين من الداخل ومن الخارج..وزاد الاستهتار بشأنه وشأنيته ما جعله مطيّة لأغيلمة حدثاء الأسنان ألسنتهم طولى بالجهل وأياديهم بالغة في البطش فزادوا الأمر وبالا..وأمّا ما يوجد من حلول في السوق السوداء للتفكير الديني فهي خفيفة أو من خرذة المعقول والمنقول لا تستوي لدى عاقل أخبر طبقات المعقول ولا عالم باشر مختلف المنقول..وحينما يباشر الأمر الخطير بمزاج حقير..والأمر الهائل بأساليب الهيّن..والحقائق الجليلة بالأدوات الذليلة..هنا تصبح الفتنة..فتنة الجهل التي تفوق القتل (الفتنة أشدّ من القتل)..وإنّما أردت القول هنا أنّنا كلّنا على قدر من التدعش..تسكننا خلاياه وتحيط بنا هواجسه إذ ما يخفى من التدعّش في لاوعينا يفوق ما نراه اليوم..أقول: إنّ داعش ليست تنظيما، ولا عصابة، ولا ظاهرة توجد هناك..بل التدعش هو بنية عقلنا الجماعي..هذه البنية التي لها إقرازات ووظائف وتجلّيات بنية تناقضية..إنّ داعش هي نحن..هي كائنات تنبعث من دهاليز لاشعورنا المسكون بالتّوحّش..هي هذا اللاّسواء في النفس والفكر والاجتماع العربي.. هي هذه الهشاشة الحضارية التي تنعكس على الفكر والعمل...هي الموقف المضطرب والمرضي من الماضي والحاضر والمستقبل.. هو الموقف المرضي من الحقيقة..لازال العقل العربي لم يدخل بعد دورة الصناعة الثقيلة للمعنى..يعاقر من المعنى بسائطه..ويتناول من الفكر قشوره..ومن الفقه حشيّه وسطوحه..لا تنتظروا من هذا الدّين أن يجعل منكم أوادم في أزمنة التوحّش الكالحة..أنتم من يحدّد مصير الأديان وكيف يمكن أن ينيثق منها من إشراقات ترخي بظلالها على العالم لتتحقّق النّقلة الكبرى نحو الأنسنة والرّقيّ..دين البداوة لا يصلح للحضارة..ودين التوحش لا يليق بدولة الإنسان..ودين الله أرقى من دين البشر...وليس بين أيدي الناس دين الله، بل فقط بين أيديهم سقط متاع مما استلهمه الوعي الشّقي..فكان يا ما كان من ضروب الانحطاط.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat