صفحة الكاتب : ادريس هاني

في رحاب علي
ادريس هاني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

    أبهرتني شخصية عليّ بن أبي طالب بجمالها وجلالها. وما كان لي أن أجازف بوصفها حيث يعجز الوصف. ولطالما ابتدأت أسطر سطورا في سيرته فأحجمت فرقا من هول ما سطرت. وبقيت سنين أعاود الكرّ عبثا. يصعب وصف عليّ لأنّ كلّ موقف وكل كلمة منه هي سرّ من الأسرار. ولا أخفيكم أنّ الحديث المستغرق عن عليّ يقودك إلى مالا نهاية له في الاعتقاد. فلا يوجد وصف لا تكاد تصفه به وإن علا. ينسب للشافعي قوله فيه:

أهل النهى عجزوا عن وصف حيدرة      والعارفون بمعنى كنهه تاهوا
إن قلت ذا بشر فالعقل يمنعني           وأخشى الله في قولي هو الله

ليس هذا كلام لا أصل له. بل هو كلام يعرفه من خاضوا في سيرة عليّ وافتتنوا وانبهروا. ولقد عجزنا ليس عن الإحاطة بهذه الشخصية الفريدة فحسب ، فهذا من مسلّمات ما تعارف عليه أهل السّير، بل لقد عجزنا عن فهم المبتدأ والخبر، كما عجزنا عن فهم الفعل والفاعل والمفعول. فعليّ جملة فوق أن تكون إسمية وفوق أن تكون فعلية. هو يسموا فوق اللغة فينطق عنها بدل أن تنطق عنه، ويدقّ سرّا ليكون النّقطة تحت الباء. ولم أكن بدعا في هذا الإحساس. فلقد كان فخرا أنّنا عرفنا هذه الحقيقة. فمن ترقّى في معرفة عليّ وأدرك قبسا من معالم شخصيته، ما وسعه إلاّ إعلان العجز عن الإحاطة به. وها هو أبو الطّيب المتنبّئ، يجيب من أخذ عليه عدم مدح عليّ بن أبي طالب وسائر ولده هو من بلغ مديحه لغيرهم مبلغا كبيرا. يقول المتنبئّ:

وتركت مدحي للوصي تعمّدا      إذ كان وصفا مستطيلا كاملا
وإذا استطال الشيء قام بنفسه      وصفات ضوء الشمس تذهب باطلا
 
 وقال المتنبّي أيضا:
أبا حسن لو كان حبّك مدخلي      جهنّم كان الفوز عندي جحيمها
وكيف يخاف النار من بات موقنا      بأنّ أمير المؤمنين قسيمها

وكان ذلك لعمري أفضل ما قيل في عليّ بن أبي طالب. فلا وصف أجمل من إعلان العجز عن الوصف. إنّها بالأحرى، قصّة خلود لها أكثر من جانب جدير بأن يلهم الأجيال الحديث عن سرّ هذه العبقرية التي كلّما أوقدنا نارا لنكتشف خباياها ازدادت انتشارا واتساعا. ولست أزعم أنّني سأحيط بأبعاد هذه العبقرية ولا حتّى أن أحسن تدبير هذه السيرة التي لم تنجز. فأنت في حضرة فارس العرب الأكبر ليس أمامك سوى أن تنحني كما ينحني التّاريخ إجلالا وشوقا واندهاشا. من يا ترى يقترب من سيرة هذا العظيم دون أن يفقد البوصلة في تيه من الأسرار وبيداء من العبقرية؟ وأي من خصومه لا يقاوم في نفسه الإنصاف قبل أن يخفي دهشته من هذا النبوغ؟ ولا نتحدّث هنا عن خلود من نمط خلود العظماء في تاريخ النّوع فحسب، بل نشير هنا أيضا إلى أنّ خلود عليّ بن أبي طالب كان أمرا مدبّرا. لقد خلد بقوّة العبقرية والأثر التاريخي وهو في هذا يشترك بامتياز أيضا مع سائر من خلد بفعل عبقريته في التّاريخ. ولكّنه خلد في الوجدان الرّقيق والمفعم بالعشق عند المسلمين الذين أدركوا ما لأهل البيت من حقوق على المسلمين تقتضي المحبّة والإكرام و الائتمام بهم ليس محاباة لهم، بل عن جدارة واستحقاق. هكذا كان خلودا في العقل وخلودا في القلب. ثم جرى التّصميم الوحياني على تخليد علي بن أبي طالب في النصوص المتعبّد بها معنى وشرعا. فصار الحبّ عبادة تنقلك إلى الله وإلى معنى القيم الكبرى؛ إلى الحق والعدل والحرية. سندرك من خلال ما سنتعرض إليه من بعض أحوال علي بن أبي طالب، أنّه شخصية عنيدة عن الاحتواء في أدب السّير، عصية على الاستيعاب الكامل إذا ما نوى الباحث تحقيق الإحاطة التامة بشخصيته. فهي من الغنى والعمق والحكمة ما لا يسمح للباحث سوى أن يغرف من نهره غرفة بيده أو قل: ليغمس في بحر عبقريته غمسة بريشته. فالكتابة عن عليّ بعدد الكتبة وأنفاس الفنون. وهو إذ يعاند في عدم السماح لقارئي سيرته بأن يحيطوا بها إحاطة تامّة فهو كريم معطاء يجود على قارئ سيرته بالجديد كل ما همّ قارئ بتجديد العهد بمعرفة عليّ بن أبي طالب. هنا المجازات تفقد أسرارها وهنا تنكسر أقلام البيان والتبيين. هنا يجثوا العقل على ركبتيه إمعانا في تضاريس هذه الأيقونة الخالدة التي سكنت ضمائر المنصفين إزاء هذا العظيم.
عن أيّ عبقريّ نتحدّث؟

شيم ما جمعن في بشر قطّ       ولا حاز مثلهنّ العباد

الكتابة عند ( فرانس كافكا ) هي ضرب من الصلاة. فماذا يا ترى لو تعلّق الأمر بالكتابة عن علي بن أبي طالب؟! حتما ستكون تلك من أروع ضروب الصلاة و أخطرها. فالكتابة عن علي بن أبي طالب أمر مهيب وبالغ الخطورة. وذلك لأسباب يعزّ علينا استقصاءها إلاّ على سبيل المثال لا الحصر. فلا مجال لحصر أبعاد ووجوه خصائص هذه الشخصية الفريدة جدّا في تاريخ النّوع. إنّها ليست من جنس العبقريات المتعارف عليها في كل جيل، لكي نقدّمها أو نؤخّرها قليلا في سلّم الاهتمام بعباقرة النوع عموما. فهي عندي شخصية محاطة بأسرار يصعب مقاربتها بقواعد تحليل العبقريات وظواهر التّفوق في عالم النّوع. وإن سايرنا مناهجهم تلك فسنقع لا محالة على ما لم يكن في حسبان تلك المناهج وأربابها من أسرار هذه الشّخصية الفريدة. فلقد استطاعوا تحليل الظواهر العبقرية بردّها إلى الظواهر النفسية والاجتماعية والبيئية فضلا عن قياس نسبة الذّكاء وما شابه ذلك. لكنّنا سنلاحظ أنّ هذه القواعد لا تفي بالغرض كلّما اقتربنا من الكتابة عن علي بن أبي طالب. بدأت الدراسات الحديثة عن العبقرية تثمر أفكارا لا تعدم أهمية لكنها لا تقدّم فهما تامّا لها. فلقد تنزلت العبقرية عند القوم منزلة الجنون أحيانا. وبعضهم جعلها منتوجا طبيعيا للتعقيد السيكولوجي عند الإنسان من منطلق الإحساس مثلا بعقدة الحقارة. نستطيع أن نقف عند ( ألفرد أدلر ) على أساس هذه المقاربة التي ترى في تاريخ النوع تاريخ مشاعر وأحاسيس تقدحها عقدة حقارة. يحدث هذا في الحضارة والشخصية الجماعية كما يحدث في مسار الشخصية الفردية. وأنّ لا سبيل لعلاج هذا الإحساس ولا لإرضاء الشخص متى انتابه هذا الإحساس، بل كلّ ما هنالك وجود ما يشكّل تعويضا عن هذا الإحساس ليس إلاّ . مما يعني أنّ النوع يعيش حالة تعويض مستدامة تتعايش مع إحساس عارم بالحقارة هي التي توفّر الاستجابة للتحدّي وينتج عنها كلّ هذه المظاهر الخلاّقة في الشخصية الإنسانية. وقد كاد هذا النّوع من المقاربات أن يجد طريقه إلى بعض المحاولات العربية التي حاولت تطبيق هذه النظرية على كثير من حالات النبوغ في التراث العربي والإسلامي. إن الحديث عن علي بن أبي طالب بمنطق العبقريات كما فعل مفكرون وأدباء قدامى كالشريف الرّضيّ والنسائي والإسكافي وابن أبي الحديد وأمثالهم، وحدثاء مثل طه حسين والعقاد وصولا إلى جورج جورداق...كلّ هذا أمر بالغ الأهمية. وهو يضعنا أمام منجزات الشخصية وقوّة الموهبة والذّكاء والإبداع. لكنها لا تقدّم لنا الصّورة كلها. وقد تجد آمادا أخرى وأبعادا كثيرة لم يبلغها يراع القوم. ولذا غالبا ما وقعوا في المقارنات، كما فعل الأديب الكبير جورج جرداق وهو يقارن بين عليّ وسقراط تارة وعليّ و فولتر تارة أخرى وهلم جرّا. من منطلق أن الأنبياء أيضا هم جزء من الظاهرة العبقرية أيضا وهذا فيه تأمّل. ولاعتقاده بأنّ العباقرة يتشابهون؛ وهذا صحيح.  لكنّ عليّا تحديدا، من الشّخصيات التي عزّ أن تجد لها شبيها من دون تكلّف وإعمال. بل له أشباهه في عالم الأنبياء وهم على درجة عالية من أهل الأسرار. ودائما نفرغ من سيرة عليّ عند من تكلّف عناء الكتابة حوله دون أن نشبع من سيرة تعاند ضدّ قريحة الكتّاب لكي لا تبوح إلاّ باليسير، ولا تجود إلاّ بالقليل. تنتهي السيرة ويبقى في خيال الكاتب شيء من حتّى. وحتى إن أتبعنا مناهج الباحثين في أسرار العبقرية، فإننا حينما نشرع في التّفصيل، نقف على جوانب فاردة في خصائص عليّ بن أبي طالب. ومنها تركيبة الشّخص النفسية. ولقد تكلّف العقاد عناء الكشف عن مفتاح لشخصية عليّ بن أبي طالب وأحسبه وقف على جانب مهمّ من تلك الشّخصية. وذلك حينما جعل الفروسية مفتاحا لها كما سنبيّن لاحقا. ومنها شروط البيئة الحاضنة والأصول العائلية، وهو ما يجعل الشخصية العبقرية بنت مجالها التّاريخي والجغرافي. ومنها أحوال الشخص الاجتماعية بالجملة. فقد يرى البعض بنوع من الاستقصاء أنّ أغلب الشخصيات العبقرية عاشت حالة اليتم والفقد للوالدين أو أحدهما. ومنها التربية وآثارها، والوراثة وبصماتها. وكل هذا مدخل من مداخل الاستئناس بالعبقرية ولكنّه لا يمثّل حقيقتها. ومن هنا باتت التعريفات تحوم وتدور من دون أن تحطّ على المعنى الجامع المانع للعبقرية. لكنّ ما يبدو مشتركا بين كل حديث عن العبقرية حتى لا نتحدّث بتعريفها وفق شرائط التعريف المنطقي، هو الجنون. لقد ارتبط الإبداع عند القدامى كما عند المحدثين بلمسة جنون تنتاب العبقري. وهكذا في سائر البيئات والحقب واللغات، هناك المعنى نفسه يقترب من هذه الحقيقة. فعبارة العبقري في العربية تحيل على عبقر، اسم الوادي الذي كان يمدّ الشعراء العرب بقرناء من الجنّ توحي لهم بالمعاني والصّور الشعرية. وهذا المسّ بالجنون سيلاحق المعنى نفسه باللغات اللاتينية كما نجد في الفرنسية عبارة: ( جيني ). وأمر آخر يكاد يكون مشتركا في الظّاهرة العبقرية وهو الفنّ. ويأتي الشّعر والأدب بوصفهما أفضل الفنون التعبيرية. والفن هو الجمال بكل تجلّيه ولطافته. لكن في علي بن أبي طالب، لا يظهر الجمال متفرّدا بشخصيته وأدائه. إنّ الجمال هنا يعانق الجلال في توازن مهيب قلّما يوجد عند فنّان أو أديب. كلّ أمراض الأدب التي عادة ما تنسب لخيال عباقرة وصفوا بالمرض هي نابعة من اختلال هذا التوازن. وليس شيء من هذا يوجد في آثار عليّ. إذ يصعب أن تجد أي المنازع تجذبه أكثر من نقيضها. هل هو رجل الحرب الخبير بفنونها أم هو المنجذب نحو الفقراء الغارق حدّ الشغاف بقضايا مستضعفي الأرض؟ لا يوجد في أدب عليّ بن أبي طالب ما ينفر منه الوجدان والعقل والواقع. فهو إذن يمتح عبقريته من ملتقى تقاطع الجلال والجمال بمدلولهما العرفاني وليس المعرفي. والحقّ أنّ الجنون هو وحده ما تبقى لتفسير العبقرية. وفي نظري أنّ جنون العبقرية مما يجب دراسته بعيدا عن معنى وأحوال الجنون الإكلينيكي وحتى بالمعنى الشرعي والفلسفي للعبارة. فالجنون هنا لا يتنزّل منزلة المقابل للعقل. فالجنون هنا ليس فقد العقل، بل هو تمرّد العقل وتقلّب في أنماطه وحركة غير متوقّعة في موازينه لكنها مستوعبة وملموسة في ذائقته. لذا لا يوجد أثر لجنون فكري لا يثير العقل ويبهره. هنا الجنون لا يكون إلاّ خدعة العقل نفسه لخرم قواعد الرّتابة والاتّصال بجدول الحياة. لذا إن قيل في التعريف الكلاسيكي الأثير عند اليونان ومن ذهب مذهبهم في تعريف الإنسان: حيوان عاقل. قلنا: ولكننا لا نجد هنا ما يميز الحيوان عن الإنسان إذا ما كان أمر هذا العقل بمعناه الأداتي الذي لا يرتفع شأنية عن الذكاء الطبيعي المتاح للحيوان، قلنا إذ ذاك أنّ ما لا يمكن أن يشارك الحيوان فيه الإنسان ليستقيم التعريف، هو الجنون وليس العقل بالمعنى المتداول لمفهوم العقل عند الفلاسفة. ويبقى في نظري أن جنون العبقرية إن هو إلاّ لحظة تمرّد العقل عن الرتابة. بل هو لحظة الطفرة في مراقي التعقّل الحرك الذي لا يتوقّف. من هنا، ليس الجنون بهذا المعنى سوى لحظة انعتاق العقل نفسه. وقريب من هذا ما عبّر عنه ( أندري جيد ) حينما قال:"  أجمل الأشياء هي تلك التي يوحي بها الجنون ويكتبها العقل". فالعقل عند عليّ يوجد في القلب. والقلب عند العرب أيضا جنان. وجنان من مشتقات الجنون. والجنون كحقيقة لغوية يقابل المكشوف والظاهر والواضح. بينما الجنون يحيل على المستور والخفي والمحجوب. وسندرك معنى العقل والجنون ليس في معنى العبقرية بل في خطاب العبقري نفسه. كيف رأى عليّ بن أبي طالب العقل حتى نحاسبه بمعنى من معانيه. وهل يا ترى قال شيئا لم يعقل في العقل والعاقل والمعقول؟؟؟





 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/11/22



كتابة تعليق لموضوع : في رحاب علي
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net