سلسلة تفسير سور القرآن الكريم ؛ تفسير سورة المسد
مير ئاكره يي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
مير ئاكره يي

نص السورة : { بسم الله الرحمن الرحيم * تَبَّت يَدا أبي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أغنى عنه مالهُ وما كَسَبَ (2) سيصلى نارا ذات لهب (3) وآمرأته حَمّالة الحطب ِ (4) في جِيدِها حَبل من مَسَدٍ (5) } .
معاني المصطلحات الواردة في السورة :
______________________
1-/ تبّت : خسرت ، هلكت .
2-/ جيدها : عنقها .الجيد : العنق .
3-/ مسد : الحبل المفتول .
__________________________
التفسير : سورة المسد سورة مكية تتكون من خمس آيات بينات ، وهي السورة الحادية عشرة بعد المئة في ترتيب مجموع سور القرآن الحكيم .
من هو أبو لهب وزوجته :
أبو لهب هو عبدالعزى بن عبدالمطلب ، وآمرأته كانت تسمى بأم جميل العوراء . وكان أبو لهب من حيث القرابة هو عم لرسول الله محمد عليه الصلاة والسلام . مضافا انه كان بين الرسول [ ص ] وأبي لهب قرابة أخرى هي تزويجه – قبل الاسلام – بنتيه من إبني أبي لهب وهما أم رقية وأم كلثوم ، حيث زوج رسول الله محمد [ ص ] في الاسلام الأولى لعثمان بن عفان ، ولما تُوفّيت زوّجها الثانية له أيضا . ولهذا يُلقّب عثمان بذي النورين ، رضوان الله تعالى عليهم .
ولما بدأ رسول الله محمد [ ص ] بدعوة العرب ، خاصة قريش في البداية الى الاسلام ، والى القيم الرفيعة والسجايا الراقية ، والتخلّي عن الظلم والعدوان والفجور ناوءه طغاة قريش بكل السبل والامكانات التي كانوا يمتلكونها يومئذ ، منهم عمه أبا لهب وزوجته أم جميل .
وجاء في كتاب [ صحيح البخاري ] للامام البخاري : { أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج الى البطحاء ، فصعد الى الجبل فنادى :( يا صَبَاحاه ) . فآجتمعت اليه قريش ، فقال : ( أرأيتم إن حدّثتُكُم إن العدو مُصَبِّحُكُم أو مُمَسِّيكم ، أكنتم تُصدِّقونني ؟ ) قالوا : نعم } . وفي رواية أخرى قالوا: ( نعم ، ما جرَّبنا عليك إلاّ صِدقا) . فقال أبو لهب :( ألهذا جمعتنا تبَّا لك ، فأنزل الله عزوجل ؛ < تبت يدا أبي لهب . الى آخرها > ) كتاب صحيح البخاري للامام البخاري ج 4 ، ص 1902
لهذا أنزل الله تعالى بحق هذا المجرم الطاغية الشقي أبي لهب وآمرأته سورة قرآنية كاملة ، لما بذلاه من الإيذاء والأذية الكبيرة ، ومن العداء والخصومة الشديدة لرسول الله محمد [ ص ] خاصة وللمؤمنين بشكل عام .
فأخبر الله تعالى عبر تنزيله الحكيم على قلب رسوله الصادق الامين محمد أن قد هلكت وخسرت وشُلَّت يدا أبي لهب ، ومعه عمله وكسبه ومكائده . ثم جاء التوكيد بأنه خاسر وهالك لامحالة بقوله تعالى { وتَبَّ } . وفي ذلك لم ولن ينفعه أيّ شيء كسبه وحصل عليه من أموال وبنين وجاه وحظوة بعد أن سخط الله سبحانه عليه ، لأجل ولوغه في الاعتداء والعدوان ، وفي العذاب والتعذيب والنكال ، وفي التآمر وكيد المكائد ، وفي الأذى والأذيَّة البالغة ، مع طغاة قريش وعتاتها لرسول الله محمد [ ص ] ولأتباعه المؤمنين ، وإنه في الآخرة جزاء ماآقترفت يداه الآثمتان من كبرى الجرائم سيصلى النار وسيصطلي بها ! .
وأما زوجته فقد كانت هي الأخرى شديدة الحقد والتحامل والأذية والكيد لصاحب الرسالة العظيم ، منها انها كانت تحمل حزمات من الشوك الحاد والمُحَدَّب فتضعها ليلا في طريق رسول الله محمد [ ص ] . ومنها أيضا انها كانت تملك قلادة فاخرة مكونة من أثمن الجواهر ، وقد كانت تحب تلك القلادة حبا كثيرا ، لكنها على رغم ذلك قالت : < واللات والعزى لأنفقنَّنها في عدواة محمد > ، والى غير ذلك من أعمالها الاجرامية وأفعالها العدائية تجاه الرسول الكريم وأتباعه من المؤمنين . لذا فإنها جرّاء ما إقترفته من العدوان والاجرام ستقاد في الدار الآخرة ، وفي عنقها حبل مفتول من الشوك الى جهنم وبئس المصير ، بمعيّة زوجها الطاغية .
وهذه السورة المباركة هي من إعجازات القرآن الغيبية ، حيث فيها تحدّث الله سبحانه عن هلاك أبي لهب ، وانه سيكون من الخائبين الخاسرين في الدنيا ، وفي الآخرة من أصحاب النار . وقد نزلت هذه السورة في أيام كان أبي لهب في أوج قوته وثرائه ومركزه القوي في قريش حينها ، لذا كان بإمكان أبي لهب أن يُسلم ولو ظاهرا فيعارض بذلك القرآن وما نزل بحقه من التنديد والتنكيل والتوبيخ والوعيد ، لكن لم يحدث شيء من هذا إطلاقا . وأما مصيره فقد كان شر مصير وعاقبة . إذ انه توفي على أثر مرض خبيث جدا فتك به ، بحيث ان أصحابه وشركاءه جرّوا جثته جرّا فواروه التراب بعيدا عن مساكنهم ومقابرهم خشية أن لاينتقل المرض اليهم ! .
هكذا كان أبا لهب ، وهكذا كانت إمرأته حتى آخر لحظة من حياتهما من الاجرام والأذية والمكائد المستمرة ضد رسول الله محمد [ ص ] وأتباعه المؤمنين ، بحيث انهم لم يرتدعوا عن أيٍّ وسيلة ، ولو كانت في غاية القبح والوحشية والنذالة واللاإنسانية إلاّ وآستخدموها ضد الرسول الصادق الأمين وأتباعه المستضعفين . ثم بعد أكثر من ألف وأربعمائة عام يأتي البعض فيقول بتهكم ؛ كيف [ كذا ] أنزل الله سورة يفضح فيها إمرأة وزوجها !!! .
نعم لا شك إن الله سبحانه وتعالى قد فضح وأبان عن فِعال الظالمين والمستكبرين في الأرض والمجرمين بحق الانبياء والصالحين والإصلاحيين من الناس . وهذه تُعَد حقيقة مزايا كبرى للمستضعفين والمظلومين والمقهورين في التاريخ . والى جانب ماذكر من فضائل سورة المسد فلها مزية كبيرة أخرى هي ، إن هذه السورة كانت في وقتها ، وفي كل الأوقات بمثابة ضربة كاسحة مدوٍّية إعلامية قاصمة وجٍّهت للطغاة المستكبرين المشركين في قريش ، وبخاصة أبي جهل ومن نحا نحوه أيَّا كان جنسه ولونه وقرابته من مركز الدعوة والرسالة والنبوة ، أو خارجه ، لأن الميزان والمعيار والأساس في الاسلام هو الايمان والعدل والقسط والمساواة والحرية والتحرر وحقوق الانسان ، وذلك بغض النظر عن الألوان واللغات واللهجات والأجناس والأعراق والتخوم الأرضية وغيرها . ومن جانب آخر فقد كانت السورة تحمل بين طيّاتها البُشرى والبشارات الصادقة والسلوان الجميل والبلسم للمؤمنين والمستضعفين بشكل عام .
إذن ، أين العيب والنقص بحسب مزاعم هؤلاء الباطلة أمام كل هذه الفضائل والإيجابيات الكبرى ، والتي تصُبّ نهاية في صالح المستضعفين والمضطهدين والمقهورين ، لكن هؤلاء أبوا إلاّ أن يقفوا في معسكر أبي جهل وآمرأته حيث معسكر الآستبداد والاستعباد والاستغلال والشرك ضد المعسكر التوحيدي العدالتي المساواتي والانساني الآخر . لهذا سيبقى { تبت يدا أبي لهب وتب ...} صوتا قرآنيا خالدا ومُدوّيا في العلم كله ضد جميع مظاهر الاستكبار والاستغلال والجور والضيم والقهر !!! .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat