مجتمعاتنا تمتلك ديناميكيات وآليات خفية فاعلة فيها تعزز السلبيات وتوهن الإيجابيات , وكأن هناك طاقات في أعماق اللاوعي الجمعي , تساهم في تحقيق النتائج الضارة بالمجتمع , فتصيب أفراده بأضرار متنوعة الدرجات والآثار.
وسلوكيات التكريس السلبي تكاد تكون شاملة وسائدة ومتفوقة على السلوكيات الأخرى , حتى أصبحت وكأنها النشاط الطبيعي للناس في أي موقع ومكان.
وبسبب ذلك تأكدت في تفاعلاتنا الإجتماعية الخصائص والمميزات السلبية , أو ربما نسميها خصائص الشخصية السلبية , الساعية لتحقيق أكبر قدر من الإضرار بالذات والموضوع.
ومن أهم دوافعها الضاغطة الكامنة , هو السلوك الإنتحاري الخفي الخامل , والعدوانية الإذعانية المدمرة , والنزوع إلى تأكيد عذابات الضمير المؤدية إلى جلد الذات وما حولها بقسوة وعنف غريب وشاذ , وما ينجم عنها من إنبعاجات سلوكية مدوية.
وفي جوهر سلوكنا العام , أننا نرى الخطأ ونتحامل عليه ونغضب , لكننا لا نسعى للتضامن لمنعه أو تغييره , وإنما نواجهه بأساليب تبدو وكأنها راضية عنه , ومعززة له وموفرة للأسباب والدواعي والمبررات الداعية لتكراره والتباهي به , لكننا في ذات الوقت نختزن طاقات مناهضة له , نسمح لها بالتراكم والإنضغاط حتى تنفجر ذات لحظة مروعة.
وقد أصاب هذا السلوك مواطن حياتنا كافة , وعبّر عن سيئاته وفظائعه في التصارع السياسي الذي يختلف عن سلوك المجتمعات في الدول من حولنا.
فما أن يتمكن حزب أو فئة أو فرد من إمتلاك السلطة والحكم , حتى تتحرك قدرات وطاقات هذا السلوك وتتفاعل بعنفوان مضطرد فتخرّب وتدمر , وتصنع التفاعلات القاسية الدامية الفتاكة ما بين أبناء الوطن , لا لسبب معقول , وإنما لإرضاء حاجات خفية ولتحقيق إرادات آليات فاعلة في الجهاز النفسي اللاواعي عندنا.
وجسدت الأنظمة الشمولية قدراتها الفائقة في تكريس السلوك السلبي وتمجيده , وتحويله إلى عُرف وتقليد فاعل في المجتمع , الذي أصبح معسكرا يرفع رايات الثورات والجمهوريات .
ومن أهم أركان حكمها شطر المجتمع لحالتين , هما حالة ظالمة تشمل أي فرد وفئة أو حزب أو جماعة تمكنت من الحكم والسلطة , وحالة مظلومة تضم أبناء المجتمع الآخرين.
اي أنها قسّمت المجتمع إلى سادة وعبيد , وحاكم ومحكوم , وسالِب ومُسْتَلَب حقوق , وأمعنت في تأكيدها لهذا التفريق , وأرست دعائمه ووفرت له عناصر وأسباب التكرار والتجدد.
فالذي في الحكم والسلطة يظلم ويقهر , ويمنع ويسجن ويُعذّب ويقتل ويُراقب , ويُصادر ويمتهن حقوق الآخرين ويُرهبهم ويُخيفهم , ويمنع عنهم أبسط الحاجات والخدمات.
وعندما ينادي المظلوم بحقوقه ويفعل شيئا ردا على المَظالم التي وقعت عليه , يجد الظالم في ذلك ذريعة لتعزيز ظلمه , وزيادة قوته وتأثيره وبطشه وعدوانه.
وكما هو معروف فأن حبل الظلم قصير وإن طال , وما أن يصل إلى نهايته , ينقلب عليه المظلوم , ويثأر لمظالمه بقوة إطلاق مشاعره السلبية الإنتقامية.
ويدخل المجتمع في دائرة مفرغة ومغلقة من تبادل الأدوار , ما بين الظالم والمظلوم , والقاهر والمقهور , وفي مجتمعاتنا تكررت هذه المأساة مرارا منذ بدايات النصف الثاني من القرن العشرين , ولا تزال تتكرر دون عِبرة وقدرة على عدم التكرار.
ولكل حالة مَن يكرسها من المستفيدين والمنتفعين من الكتاب والشعراء والمثقفين.
وتلك معضلة إجتماعية بحاجة إلى وقفة شجاعة , وقرارات حاسمة تقطع دابر الدوران في حلقات الضياع والإتلاف الحضاري المُفرغة , التي ندور فيها ولا نتعب.
ولا بد من تحرير العقل والنفس والسلوك من فكرة الظالم المظلوم , وأن يتحقق نظام وطني خالص لآليات الحكم وتدوال السلطة السلمي , تكون فيه الهوية الوطنية قوية وأساسية في معايير السلوك.
وأن نسعى إلى العدل وإبتكار نظام إقتصادي معاصر لتوزيع الثروات , وعدم إستغلالها والإستئثار بها من قبل الأحزاب والفئات والأشخاص وغيرهم.
إن النظر في أسباب الظلم والعمل على إزالتها من أهم التحديات التي تواجه المجتمعات , ويقع على عاتق المثقفين دور مهم في وعي هذه الحقائق , والنأي بعيدا عن أساليب تكريس أفكار وسلوكيات الظالم والمظلوم , لأن في ذلك مشاركة حقيقية في صناعة الخراب والدمار.
د-صادق السامرائي
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat